مؤتمر الذكرى الـ 25 لجينوسايد الأنفال

خطط استراتيجية وجهود استكمالية مؤملة؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

tayseer54@hotmail.com

 

 

انعقد في كوردستان مؤتمر الذكرى الـ (25) لجرائم الإبادة الجماعية (جينوسايد) الأنفال. وقد توجه هذا المؤتمر إلى المجتمَعَين الدوليين الرسمي والشعبي، باستضافته شخصيات حكومية وبرلمانية وأخرى من منظمات أممية وإقليمية مهمة. لقد أكدت القيادة الكوردستانية بهذا الاتجاه أنّ مرور ربع قرن على تلك الجرائم المهولة المرعبة بات يلح أكثر مما مضى على المجتمع الإنساني المعاصر كيما يقر بتلك الجرائم كونها جرائم إبادة شاملة طاولت الكورد ليس لشيء سوى لكونهم كوردا، وأنها جرائم استخدمت أسلحة دمار كتلوي وفتكت بعشرات آلاف الأبرياء من المدنيين العزّل، الذين دُفن كثير منهم وهم أحياء!

إنّ مؤتمرا بهذا الحجم النوعي الذي حضرته شخصيات قانونية وأخرى سياسية ودبلوماسية، سترتقي أهميته عبر متابعة فاعلة تنهض بمهمة جمع أوراق العمل والمناقشات التي جرت في إطاره وتلخيص ما ورد في توصيات تشكل وثيقة رسمية معتمدة. يمكن عرضها على المشاركات والمشاركين وتوقيعها كيما توضع بين وثائق المنظمات الدولية المعنية وبأيدي الحكومات الأوروبية وغيرها لتعزيز قرار الاعتراف بجينوسايد الأنفال.

ولعل من أبرز الجهود التي ستكون ذات أثر في نقل المداخلات التي  عرّفت الجريمة بحقيقتها كونها (GENOCIDE)، هي تلك التي تستمد وجودها من خلق لوبي  ممن حضر المؤتمر والاتساع بالصلات باتجاه المنظمات المعنية إقليميا ودوليا وتجاه الحكومات والبرلمانات ذات التأثير والثقل العالميين. ومثل هذا ليس أمرا معقدا أو مستحيلا فيمكن لوزارة الشهداء والمؤنفليين متابعة الاتصال وتشكيل ((نواة بنيوية لجماعة الضغط)) هذه؛ يكون بين يديها إمكانات مناسبة للعمل، بمعنى أن تتشكل هيأة معنية بمثل هذا الجهد المنتظر ويكون له لوائح العمل واختيار الشخصيات الملائمة للنهوض بالمهمة فضلا عن إدارة فاعلة خبيرة مميزة.

إنّ جرائم الأنفال وحلبجة ليست قضية عابرة أو حدثا يمر بقراءته في مؤتمر أو ملتقى. إنها علامة في تاريخ البشرية يجب أن تُدرج في وثائق الإدانة التي تظل جرسا يقرع في صحارى الوجع كي لا تُنسى.. ومن ثمَّ  لنجد وسائل التنبيه المناسبة لرفض أيّ إمكان أو فرصة لوقوعها من جديد أو تكرارها من سفاكي الدماء ومرتكبي المجازر الوحشية.  فأول طريقنا لمنع الجريمة هو توثيق ما جرى ووضعه بين أيدي الناس والمعنيين.

على أن ما ينبغي فعله يكمن في جمع الدراسات التي جرت أكاديميا علميا بعدد من الجامعات ومن الشخصيات التي درست الجرائم وآثارها وعواقبها وإضافتها إلى المحاكمات والقرارات التي جرت و\أو صدرت بالخصوص كوردستانيا أو عراقيا أو في أي من المحافل الدولية.. فجمع كل ذلك بحاجة لتفرغ من مركز دراسات و ((هيأة عمل)) معنية وبمنهج اشتغال لا يكتفي بالخطاب السياسي أو الاحتجاج على أهميتهما.. وإنما توضع الخطط وترسم المناهج من جهة لتوحيد الوثائق والدراسات ومن جهة أخرى لخارطة طريق تتعلق بالمهام المتطلع إليها.

ولحظتها ستكون البداية الأنجع لتعويض الناجين والشعب الذي تعرض لكارثة  محاولة الإبادة. ومعالجة آثار الجريمة بكل أبعادها النفسية التربوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وبكل خطاب الوجود الإنساني ومفرداته السامية. أما التالي من النتائج فيكمن في منع تكرارها مع الشعب الكوردي ومع مجموع شعوب المنطقة والعالم وهو الهدف النبيل من وراء عقد مثل تلك المؤتمرات من جهة وهو الهدف السامي من وراء هذه الدعوة لتشكيل (جماعة الضغط) أو اللوبي الذي يحمل الهمّ بطريقة موضوعية ناضجة.

إنّ ترك الضحايا لصرخاتهم، ولأنين الوجع لجراحات فاغرة  يعني موقفا سلبيا ويعني أيضا مشاركة في امتدادات الجريمة وفي احتمالات تكرارها. وعليه لابد من حملة منظمة ممنهجة بأسقف زمنية وجهود  تتضافر فيها تفاعلاتها لتلتقي حيث النتيجة الرئيسة.. وهي الإقرار بالجرائم بوصفها جرائم إبادة جماعية جينوسايد واعتماد هذا في المحافل الدولية وفي وثائق التاريخ الإنساني...

غير أن هذا بحاجة لتشجيع الدراسات الأكاديمية العلمية في مراكز البحث وفي أقسام الجامعات فضلا عن اتصالات يمكنها أن توثق لتلك المنجزات محليا وعالميا. وكثرما سنجد دراسات مهمة نهض بها باحثون علميون ولكنها تنتظر الاهتمام والتسجيل وإيصالها إلى حيث موئلها الفاعل المؤثر. ولن يكون هذا من فيض القيمة المالية للدعم بقدر ما ينطلق من عمق الواجب تجاه القضية وردجة ونوع الالتزام الأدبي السياسي بالملموس.

كما يلزم عقد ندوات تنوير وربما مؤتمرات إقليمية في شمال أفريقيا وجنوبها وفي أوروبا الغربية والأمريكتين بما يلبي نقل المهمة إلى حيث مصدر القرار الأممي الدولي. وسيكون عقد المقارنات أو التوأمة بين الدراسات المقارنة بخصوص جرائم الإبادة الجماعية التي جرت في عصرنا بوابة مهمة لاعتماد قرار منصف يعترف بطبيعة تلك الجرائم ويدخلها في سجل جرائم الإبادة الجماعية كما ينبغي أن يتم من يومها في وقت تأخر المجتمع الدولي بهذا القرار مسافة ربع قرن!؟

 

من جهة أخرى، فإن رعاية ملموسة أبعد من الدعم المالي لاستحداث كرسي دراسات جينوسايد الأنفال في المعاهد العليا والدراسات ومراكز البحوث سيبقى ضرورة تأسيسية لقابل الأحداث والأيام بما يحمل همَّ القضية الكوردية ومستقبلها في المحافل الإقليمية والدولية. ويتحول بها إلى مصاف حق تقرير المصير وما يدعمه ويؤيده ويمهّد لنيله بطريقة تراكمية مرسومة بدقة وموضوعية. قد نبدأ بجامعات فتية ومراكز بحث حجمها نوعي لا كمي ولكننا في المنتهى سنصل إلى الجامعات الأبرز عالميا.

 

إنّ النظر الاستراتيجي في معالجة ما جرى هو الأهم في تلبية معالجة جوهرية نوعية وحاسمة. بينما الأنشطة المنفصمة عن بعضها بعضا ستبقى مقطعة الأوصال ضعيفة التأثير وتنتسى مع استكمال إقامتها في مواعيدها. وربما تكون عامل إثارة للمشاعر السلبية المقابلة عند الآخر؛ كونها أنشطة تقع حبيسة تكرار كمي غير متصل وغير متفاعل ولا يتنامى بموضوعية تلائم مخاطبة هذا الآخر في عمقه الفكري لا الشعوري المجرد.. فالأخير تبرز بمجابهته مستجدات حية تمنعه من الاتصال بما يراه أو يظنه ماض ميت، وطبعا هو واهم في هذا ولكن ما يعانيه من ضغوط مباشرة هو ما يدفعه لهذا الوهم. وعلى الرغم من خطأ هذا التصور فإنه يسطو على مشاعر قطاع من الناس بخاصة الذين يقعون في ظل استغلال بشع وجرائم استلاب ومصادرة معاشة...

من هنا فإن الربط بين الجريمة وآثارها وعواقب إهمالها لا يأتي إلا من فعل بعيد المدى مخطط بطريقة بنيوية يكون فيها كل حلقة من مهام التعريف بالجريمة وعرضها وإقرار طبيعتها هي خطوة تنمو وتتسع لتتصاعد باتجاه هدف جوهري كبير. سيكون ممثلا بأكثر من مجرد الاعتراف اللفظي المنتزع على مضض من بعض أناس ولكنه الذي يحيا في ضمائرهم قوة دافعة لمنع جريمة نظيرة من جهة ولمعالجة جدية  متكاملة الأبعاد لآثارها.

ومع اهتمامنا هنا بالبعد الاسترتيجي للقضية ولمسار الجهود فيها إلا أننا لا نغفل التوكيد على اهتمام بقراءة كل خطوة وما اعتراها من مثالب ونواقص وعدم الاكتفاء بحجم النجاح المميز لأي جهد مما لا يُنكر. فمسألة الاستماع لقراءة الآخر وتقويماته تظل دافعا للتطور والتمكين من الأفضل في الحلقة التالية من خطوات العمل. وعلى سبيل المثال فإن المؤتمر الأخير ربما كان بحاجة لاهتمام أكثر بالآخر الإقليمي من العرب والفرس والترك. وهم الجيران المباشر وصاحب العلاقة الأمتن سواء من جهة السياسات العنصرية وارتكاب الجرائم بحق الكورد من نظم تحكم في بلدان تلك الشعوب أم من جهة الأصدقاء للقضية الكوردية من أوسع  نخبة تحيا وسط أشكال التضليل والخطاب المعادي، الأمر الذي تطلب أما عقد مؤتمرات مخصوصة أخرى أو تفعيل الدور في الجهد التالي للمؤتمر المنعقد واستكمال جهوده في صياغة التوصيات وكتابة رسائل موجهة مباشرة إلى هذه الشعوب والنظم الموجودة هنا في الجوار.

إنّ ربع قرن على الجرائم لا يسمح لنا بمزيد من إهدار الوقت، وقد أزف الموعد للقول الحسم ولوضع خارطة طريق استراتيجية لعقد دراسات علمية ومؤتمرات بحثية مخصوصة تصل في منتهاها إلى طلب معتمد؛ تكون الاستعدادات للتصويت عليه قد نضجت أمميا دوليا.. فهلا تحولنا لهذا الفعل النوعي المنتظر؟ وهلا جمعنا الجهود الكوردية إلى جانب أصدقاء قضيتهم من مختلف شعوب المنطقة والعالم لإنهاء الوجع وتلبية المطالب العادلة؟