استثمار الميادين الثقافية لتعميد استقلالية الهوية وسلامة التفاعلات البناءة؟

دور الثقافي في الارتقاء بالسياسي وإغنائه وتوكيد مشروعية أهدافه

الفنون الغناسيقية نموذجا

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

أستاذ الأدب المسرحي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس  البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

تمثل الأغنية ومجمل الفنون الغناسيقية، انعكاسا ملموسا للهوية الإنسانية ولأشكال الإبداع التي تختزن قيما تعبيرية غنية بتمثلات فنية جمالية من جهة وأخرى فكرية عميقة، دالة على الشخصية القومية وطابعها ومنجزها من جهة أخرى. ولعل الوجود القومي لشعب أو أمة لا يتحدد أو ينحصر بخطاب سياسي  مجرد بحت بل بمجمل الخطابات الإنسانية للأمة، وفي ضوء ذلك الفهم يمكننا البحث عن شخصية مجموعة إنسانية أو أخرى عبر منتجها الإبداعي أيضا؛ كون ذلك المنتج يظل محكوما بتلخيص المركب (الجمالي الفكري) وعمقه الثقافي الإنساني مقدِّما بصمة مميزة مستقلة معبرة عن مرجعياته الأشمل والأعمق.

ولطالما  أصغينا لإبداعات الفنون الغناسيقية  الكوردية، مميزين رسائلها الجمالية ببصمتها الخاصة المعروفة. ومثلما نؤمن وندعم حق الكورد في العيش الإنساني الذي يلبي مطامحهم وتطلعاتهم واستقلالية هويتهم القومية بكل الخطابات الإنسانية التي تتضمنها تلك الهوية ومنجزها، فإننا يهمنا ويسعدنا اليوم، عبر تلك الخطابات ببكليتها ووحدتها، وعير خطاب مضاف آخر يتمثل بخطاب الثقافة الغناسيقية، أنْ نؤكد وحدة جهودنا الإنسانية ونضالاتنا المشتركة لتوكيد تلك المطالب في إطار من الإخاء والمساواة والعدل.

نسوق هذه التوطئة، بمناسبة ظهور مبدعة كوردية [برواز حسين] في برنامج  يرعى  المواهب المميزة غنائيا باسم عرب أيدول. وبسبب من القدرات الإنتاجية الكبيرة وبسبب من الحجم النوعي للبرنامج من جهة وللقناة التي تبثه، فإنَّ ملايين من المشاهدين يتابعونه أسبوعيا، كما تُثار حوارات متنوعة منها ما يبتعد عن التسطيح والسذاجة ويغوص في الخلفية الثقافية الأعمق وهو ما يخلق أبعد أثر بشأن طابع تلك الحوارات ورسائلها، بالذات عندما نشاهد تفعيلا لخطاب الأغنية وهو ييعالج المشاهد الإنسانية المعاشة اليوم.

ومن الطبيعي أن تظهر في إطار الحوارات حالات متقابلة من الاتفاق والاعتراض، ومن التفاعل الإيجابي والسلبي. وإذا كنا مع حالات التعددية بنفتاح المدى في ذائقة التلقي، وفي حوار الاتفاق والاختلاف من بوابة التنوع في خلفياتنا الإنسانية بهوياتها المتعددة، فإننا لن نكون قطعا مع السلبية الناجمة عن النهلستية العدمية التي تقوم على الاعتراض المسبق والاختلاف أو التناقض غير المبرر القائم على التفاعلات الراديكالية الحادة المجافية لأشكال التفاعل الإنساني والمجابهة أو المعترضة على تلاقح الثقافات بوعي وقصد أو بغيرهما. ولا يمكننا هنا، أن نكون مع تلك الأصوات التي تنظر بأحادية لا تقبل استثمار الموقف على وفق ظرفه المخصوص والمشروط موضوعيا.

وبهذا المجال لابد لنا هنا من التذكير بالدور الكبير والمميز لكثير من المفكرين والكتّاب الكورد، الذين قدموا جليل الخدمات للبشرية عبر نصوصهم التي دبجوها بالعربية وهم بهذا لم يتخلوا عن أصلهم وهويتهم بل عبروا عن قدراتهم ومنجزهم المنتمي لوجودهم القومي بكل قوة خطابهم الفكري الثقافي وهويته. كما أنّ المنجز المخصوص غناسيقيا للكورد تبادل التأثير والتأثر مع الشعوب الأخرى عبر التاريخ بلا قيود ومحددات من أي رأي مسبق لخطاب سياسي أو غيره.

ولعل خير دليل على هذا، هو طابع لغة الموسيقا كونها لغة الأحاسيس والمشاعر الإنسانية، وكونها تستثمر المعجم النغمي وإيقاع الأنفس والأرواح البشرية بلا حاجة للترجمات. وحتى الأغاني بكلماتها الشعرية تصل عبر نوافذها وبواباتها المفتوحة بين بني البشر. حتى أنّ ملايين البشر يتغنون بأغنيات كُتبت بلغات قد لا يعرفون منها سوى المعنى العام وسوى نجاحها في تحريك المشاعر ومعالجة تفاعلاتها إيجابيا بنائيا.

من هذا المنطلق فإن برنامج عرب أيدول.. وهو بالمناسبة يعرّب الاسم ولا يترجمه.. كما أنه نسخة من أصل ليس عربيا، في وقت يستقبل مبدعة كوردية لا يلغي شخصيتها وهويتها بل أكّد بوضوح على هذا الأمر، ما يعني أنّ إدارة البرنامج من جهة والفنانين الذين مثلوا لجنة الحكم وبالتأكيد جمهور البرنامج يدركون جميعا بوضوح معنى الرسالة التي يخطونها ويطلقونها في أثير فضائيتهم.. إنها رسالة جد مهمة وجد بناءة وسليمة.

ويمكننا بالخصوص أن نؤشر الآتي في مضمون تلك الرسالة التي أُطلِقت:

1.  فأولا أكدت إظهار صوت مبدعة كوردية تستحق تلك الإطلالة على ملايين جمهورها من الكورد ومن غيرهم.

2.  وفتحت فرصا إيجابية للتلاقح الثقافي بمجال الفنون الغناسيقية عبر بوابة تكنولوجية معاصرة بعد أن كانت متاحة عبر بوابات أخرى عبر العصور.

3.  وأطلقت فكرة التأسيس لمقترح برامج تنافسية جديدة بين المبدعات والمبدعين بلغات وهويات متعددة غنية بتنوعها القومي الإنساني.

4.  مع التأسيس لمشروع نسخة كوردية لمحبوب قومه في الإبداع الغناسيقي أو ربما كورد أيدول.

5.  كما أكدت منح  بوابة أخرى للتعريف بالثقافة الكوردية وإبداعاتها الجمالية الغناسيقية، عند جمهور هذه الفنون من غير الكورد.

6.  وكذلك أطلقت فرص منح  بوابة لعلاقات مدنية متينة بعمقها الإنساني بين الكورد والعرب والتذكير بالقواسم المشتركة وبالمسيرة المشتركة للأمتين وشعوبهما.

7.  وانتصرت لخطاب التعايش السلمي بين الشعبين ولمبدأ العلاقات الاتحادية الفديرالية في إطار الدول التي يتعايش فيها الكورد والعرب معا.

 

إذن، فمثلما هو صحيح القول بأن البرنامج عربي بنسخته، فإنه  من الصحيح أيضا القول بأنّ هذه الممارسة وبهذه اللحظة  من مراحل وجودنا الإنساني المشترك، مارس المبادرون فعلا  مختلفا ينبغي أن نحمله على أساس الإيجاب، معالجين بوساطة ذلك بعض ما يحاول خدش العلاقات الكوردية العربية، وما يحاول التشويه أو اختلاق حالات التناقض والاحتراب. و ردُّنا هنا يتجسد بتوكيد علاقات مكينة وطيدة بين جمهور شعوب الطرفين.

إنّ هذه الإطلالة تبقى نافذة تشع عبرها حالات التفاعل بين جمهور جابه ضغوط إشاعة الحساسيات وخطاب الشوفينية الاستعلائية وضيق الأفق القومي وما يفرزان من احتكاكات. فالعراقيون اليوم يؤكدون تمسكهم بالخيار الفديرالي مثلما يقدمون أنفسهم في محيطهم الإقليمي بتعددية وجودهم القومي وبوحدتهم التي تقوم على احترام التعددية وغنى التنوع وتقديس استقلالية الآخر.

و هم يقدمون أنفسهم في إبداع يدخل منطقتهم عبر بوابة كوردستان الفديرالية. عبر بوابة الكورد وبلغتهم القومية، وهي اللغة الرسمية التي تشارك العربية في بنية الدولة العراقية الجديدة القائمة على المبدأ الفديرالي سياسيا وعلى تعميد التعددية في اتحاد اختياري لا إكراه فيه ولا إقصاء أو إلغاء أو مصادرة وتهميش. وأكثر من ذلك فإن التعميد يأتي بثقافة شعبية أصيلة سيعزز وجودها التصويت المشترك من بوابة تمثيل العراق الجديد عبر كوردستان الفديرالية، وعبر الكورد وصوتهم ولغتهم وأدائهم ومنجزهم المستقل المميز هوية وأداء إبداعيا.

إنني إذا أعالج هذا الحدث من زاوية تأثيراته ونتائجه، أود أن أؤكد أنه استثناء، يمكن أن يتحول إلى تقليد يجري تنضيجه بنسخة للتنافس بين مبدعات ومبدعي الشعوب بلغاتهم.  كما يعبر بنموذجه الحالي مبدئيا عن إطلالة كوردية مهمة على العرب وجمهور بملايين وجودهم وانتشارهم، ويمكن أن يعدّل ما وصل كل هذا الجمهور من رسائل ربما بعضها مغلوط وربما أيضا أن يغطي  جانبا من نقص الرسائل التقليديية القديمة وما أداه فيها حال الطمس والصمت الذي أقصى ويقصي الكورد من مشهد الوعي عند جوارهم من الأمم والشعوب ومنهم العرب، أو يقدمهم بصورة مغايرة سلبية.  

من جهة مقابلة يمكننا القول بأنه ليس أكبر حجما نوعيا في الخطاب الدبلوماسي وحمل رسائل الأمم والشعوب من قدرات الفنون الغناسيقية على التعبير النموذجي الأغنى تأثيرا في وجدان الآخر والأعمق تأثيرا في خلق التوافقات وأشكال الانسجام والتفاعل البنَّاء إنسانيا.. إنها بحق سفارة كبرى وخطاب دبلوماسي مكين: فهلا نظرنا إلى هذا الهدف السامي النبيل؟

 

الهدف الذي يستند إلى حقيقة أنّ الموسيقا تظل رسالتها مختلفة نوعيا حيث تمثل ضمير الشعوب ولغتهم للتفاهم. ولطالما تغنت الشعوب بأغنيات بلغات أخرى وكان عماد الأمر في تلك الممارسة: محاكاة موسيقا الأغنية  المشاعر الإنسانية المشتركة.

وعلينا هنا أن نتذكر أنّ برامج بنسخة عرب أيدول وغيرها من النسسخ، قد أشركت مبدعات ومبدعين من مختلف الشعوب واللغات. و ربما صحيح أن نتحدث في إطار المسابقة عن خيار الهوية للمبدع وللغة التي يستخدمها لكن من الصحيح أيضا كما مرّ معنا هنا، أننا ينبغي أن ننظر إلى الأمور بصورة أعمق وأشمل فـمشاركة صوت كوردية بأنه فرصة لاستثمار التحدي من جهة ولاستثمار طابع الفنون الغناسيقية لنطلق رسالة مهمة من كوردستان تحديدا ومن العراق الجديد، مفادها عبارة: ها نحن هنا فلا تنسوا وجودنا وجوارنا وتشاركنا في مسيرة تاريخية  وليكن التآخي والتعايش على أساس المساواة وإنصاف وجودنا التعددي محمولنا الفلسفي الإنساني الأغنى في ظاهرة  التلاقح الثقافي التي تنطلق اليوم  وللتحول هذه الممارسة لحجمها النوعي الذي نتطلع إليه معا وسويا.