المشهد الأمني بين الإجرائي المباشر والتعبوي المؤمل

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

tayseer54@hotmail.com

 

طوال عشر عجاف كان المشهد الأمني يتدهور حتى يصل حد الاختناق بدماء معارك طاحنة كالتي جرت بتسمية التطهير الطائفي في ضواحي بغداد ومدن أخرى العام 2006 وما تلاه. أو تكتنفه وتائر الاشتداد وتصاعد العنف الدموي التصفوي ليسترخي لاحقا ويطل من جديد في مواعيد أخرى بمأساوية وكارثية مكررة مقيتة. وربما اعتاد المشهد الإعلامي تلك الصور البشعة لوجه الجريمة القبيح وهي تمتهن كرامة الإنسان وتمثّل به عبر عرضه على الملأ استهتارا بكل القيم!!

وربما تطبَّع (بعضهم) على هذا المشهد وبات مستسلما له بـِعدِّهِ أمرا (معتادا) في حياته! لكن ما ينبغي ألا يكون مشهدا معتادا هو التغاضي عن المسؤولية الشخصية في مواجهة الجريمة. وكلّ منا، قد يقول في نفسه (ربما تنصلا من المسؤولية!): لماذا أنا الذي أواجه؟ لماذا أنا الذي عليّ أن أتصدى؟ وماذا يمكنني فعله في هذا الصراع؟ ودعوني أبتعد عن الصراع العبثي الطاحن فهو لا يعنيني في شيء!؟  ظنا أنّ هذا الخيار سينجيه أو يبعده عن محرقة جريمة إبادة حقيقية!

ومن حق كل إنسان أن يختار ما يريد من طريقة عيشه وأيّ قرار يخص علاقته بمحيطه. لكن من الواجب هنا أن يتذكر أمورا أخرى من نمط أنه لا يحيا منعزلا بغاب، وأنه لن يكون بمنأى عن الجريمة وآثارها عليه مباشرة، وأنه بموقفه السلبي يساهم في توسيع مساحة حركة المجرم ومنحه دعما وإنْ كان غير مباشر!

إننا بحاجة إلى النظر إلى القضية الأمنية بفلسفة مغايرة لما هو تقليدي؛ كان عادة ما يعتمد على الإطاحة بالآخر وتسقيطه بعد شخصنة الأمور وفردنتها ووضعها برقبة مسؤول أو آخر يراد الانتهاء منه بصيغة انتهاء الصلاحية على وفق سياسة نفعية قاصرة، أو على وفق صراعات حزبوية أو بين انتماءات تتناقض بعد اتفاق بسبب أهواء وأمزجة وبعض ما يفرضه الواقع من تداعيات!

إنّ الهروب من المسؤولية الجمعية سيبقى سلوكا سائدا ليس بالمستوى الرسمي الأدائي (الحكومي) بل بانعكاسه أيضا على المواطن، مع استمرار افتقاد الخطط الاستراتجية بل والخطط المرحلية الآنية السليمة. إننا أمام مشهد مركب معقد تطفح في مقدمه حالات، آمل شخصيا ألا يعد توصيفي لها قطعيا وأن يكون في الأفق بديل أو مفردات أخرى يضيفها المعنيون لاستكمال الصورة الأمثل عن المجريات التي ألخصها بالآتي:

1.   انشغال حكومي في صراعات حزبية وشخصية تعرقل إمكان العمل الإيجابي في هذا المجال وغيره من المجالات والقطاعات الأخرى.

2.  عدم توزيع المسؤوليات على وفق التخصص بين وزراء معنيين بالشؤون العسكرية والأمنية والمخابراتية، وربما حصرها بيد شخصية واحدة بوجود وكلاء بلا صلاحيات وربما أيضا بلا فرص حركة مناسبة، وربما اتقد هذا الذي يحصر الصلاحيات لخبرة وافية وقدرة على المعالجة.

3.  ضعف أو انعدام الكفاءة المهنية حتى في المستويات العليا من المسؤوليات الأمنية بخاصة في ظروف ترقيات في الرتب وتسليم مناصب لعناصر غير مؤهلة قياديا.

4.  اختلال العلاقات بين الجيش والشرطة وفي طريقة التكليفات وتوزيع المهام وإقحام الجيش في مهام شرطوية لا هي من مهامه ولا هو مدرب عليها.

5.  عدم جاهزية المؤسسات العسكرية والأمنية والمخابراتية من جهات التدريب والاستعداد والأجهزة المساعدة وأدوات العمل والقدرات التنفيذية الميدانية.

6.  عدم وجود علاقات مناسبة بين تلك القوات بأصنافها وجموع الفئات الشعبية العريضة وربما وجود ثقافة انفصام ناجمة عن إرث الماضي البغيض وأخرى عن وقائع الخروقات وجرائم تحصل يوميا من عناصر تتقمص أدوار تلك الجهات الرسمية!

7.  ما يقارب الانعدام في الجهد المخابراتي المعلوماتي وقدرات الاستباق تجاه الأعمال التخريبية والإرهابية.

8.  افتقار تلك المؤسسة للثقافة الحقوقية السليمة  وتبرير التجاوزات القانونية بخطاب مرضي ينتمي لثقافة الأمس الدكتاتورية.

9.  افتقار الرأي العام لثقافة الواجب الوطني وشيوع تشوهات في الموقف من مؤسسات الحكومة بخاصة منها العسكرية والأمنية.

إنّ تنكر الجهات الحكومية العليا لهذه الصورة وعدم الإقرار بها وبالفشل الخطير في الأداء ومحاولة ترحيل المسؤولية عبثا وإلقائها على أكتاف قوى الإرهاب وأعداء الوطن والشعب يبقى خطابا غير مسؤول ولا يقبل بأي وجه الأمر الذي يجب أن يحسم حكوميا وبوساطة الرقيبين التشريعي والقضائي، فضلا عن أدوار مهمة لكل من السلطة الرابعة وللجهات الثقافية بتشعبات مفرداتها وأدواتها.

هنا ينبغي لنا ألا نكتفي بإلقاء اللوم على الحكومة ومسؤولي هذا الملف الخطير، وإنما ينبغي أن نسجل على أنفسنا عددا من القضايا قد يشكل بعضها ما نجمله هنا:

1.   افتقار برامج الحركات والأحزاب والمنظمات العاملة لجهود مبرمجة تخص الوعي الأمني وثقافته بل ولسلوك أمني صحي صحيح.

2.  افتقار برامج الإعلام لبرامج (مؤثرة) فاعلة في خلق رأي عام يحتشد لمصلحة علاقة إيجابية متبادلة التأثير مع مؤسسات الدولة.

3.  شيوع آليات النقد السلبي القائمة على الوقوف عند أعتاب التذمر الفردي وردود الفعل الشخصية وربما على صيغة أخرى مشاركة للسلبية هي صيغ الاحباط والشعور بالشلل أو بالعجز في إمكان التغيير.

4.  استعداد بنيوي ناجم عن الأمية والجهل والتخلف وضعف الوعي العام لقبول خطاب يندرج في التأويلات والتبريرات أكثر مما يندرج في الجهد الفاعل للحل.

5.  تقديم أولويات أخرى على أولوية إشاعة الاستقرار والسلم الأهلي مثل التضحية غير المبررة لمصلحة الحزب أو العصبة أو (الزعيم) الذي يأتمّ به بعضهم مرجعا مقدسا يُعتقد بأنه لا يخطئ! وكل هذا يجري في ظل شيوع فتاوى التحريض المتطرفة!!

6.  مشاركة مباشرة وغير مباشرة ولأسباب مختلفة في عمليات التسقيط التي تخلق أجواء تنقلب فيها الأمور رأسا على عقب بين لحظة وأخرى ومن دون مقدمات لاعتمادها الحقيقي على قرارات فوقية غير صائبة وغير سليمة ولا صحيحة.

 

إنّ القضية الأمنية التي تُحسب حلولها بالقبضة الحديدية العنفية لا يمكن أن تتجه نحو الحل بل نحو التعقيد والتأزم والاختناق حد الانفجار أمنيا على حساب الجميع بلا استثناء.

ومن هنا فإنّ الواقع الجاري حاليا ما عاد قضية ضحايا فردية تسقط بتفجير أو عملية اغتيال فردي الموضوع أكثر من ذلك جريمة إبادة جماعية طاولت المكونات القومية والدينية والمذهبية الصغيرة وجرائم ضد الإنسانية وجرائم جنائية كبرى لم تسجل رسميا من وجه هي أوسع وأشمل بوصفها قضية مجتمعية تتعلق برسم خريطة العلاقات بين الفئات والمكونات والأفراد وما ينعكس ويتجسد فيها من أفق شعوري ونظرة سلبية نحو الآخر تولد مقدمات السلوك العدواني وقيمه ومن ثمّ حرث الأرض للأنشطة العنفية. هكذا هي القضية بجوهرها.

وفي ضوء ذلك، لا يمكنني أن أتحدث في القضية الأمنية عن مجرد عمليات اغتيال. فهي أبعد من ذلك تتعلق بالقيم السلوكية لدى الأفراد والجماعات. وما سينجم عنه من توترات واختلاق أحقاد وثارات يضاف إليها من يلقي عود ثقاب مشتعل على بنزين تلك الأوضاع.

هنا انعدام الثقة بين الأطراف والجماعات والأفراد يؤهل الوضع لمشهد عنفي فالوضع بمجمله هش غير قادر على الصمود أمام التهديدات لانكشافه من أي شكل للحماية. والمؤسسات الأمنية في مثل هذه الحال ليست سوى جعجعة ولا أمن أو ولا طحن.

إن المواقف غير المسؤولة في موضوع الترقيات والرتب العسكرية والأمنية وعدم توفير الإعداد وقطع الطريق على الخبرات واعتماد الاندفاعات الانفعالية في ردود الفعل على طريقة الاعتقالات العشوائية في محيط الوقائع لن يستطيع أن يصل لنتيجة مثمرة. وحتى إن حقق نتيجة محدودة مصادفة فهي بحجم من الضعف لا يرتقي لحل سبب الأزمة، بل مثل هذه السياسة تخلق أسس توليدية تكاثرية للعنف وليس لإنهائه. إن الأزمة هناك في أغوار الجهل والتخلف المؤسسي والعام مع كل الأصابع الإقليمية والدولية التي تلقي باستمرار أعواد الثقاب كيما تديم تصاعد النقمة والتفاعلات العنفية.

لن أتحدث عن العنف الأسري تجاه الأبناء، ولا تجاه النساء ولا عن العنف في المؤسسات المدرسية ولا في الشوارع  حيث عوامل عديدة تقف وراءه. ولا عن العنف حتى داخل الحركات والمنظمات وفي العلاقات الشخصية والعامة.

تلك قضية بحاجة لوقفات مخصوصة من زوايا  يدرسها علم النفس السياسي وعلم الاجتماع السياسي وتدرسها علوم عديدة أخرى على وفق التخصص للتكامل الصورة وتنضج مقدمات البحث في الحل.

والحلول عندي إجرائيا تكمن في استكمال مؤسسات الدولة بكل السلطات والمستويات فيها وتعزيز الجاهزية والاستناد للخبرات الأممية المناسبة مع إشراف متخصصين وطنيين والبحث في التغيير الجوهري للجهد الاستخباري وبحث العلاقة بين المؤسسات المعنية وبينها وبين الشعب. مع الالتفات لاستراتيجية تدرس نسبة الفقر وتوزيعه ومواضع وجود مجتمعاته مع نسبة البطالة وانتشارها بين أي الفئات فضلا عن دراسة مشكلة الأمية لا الأبجدية حسب بل الحضارية بعمقها الثقافي العام. إن التفكير بعراق جديد مستقر لا يمر عبر القبضة العنترية وخطابها الفروسي الماضوي البليد ولكن يمر عبر سبر غور الواقع بعلوم ومعارف تحملها عقول وطنية حقة.

فهلا غيَّرنا مشاهد الدراسة والاستقصاء لنصل مشاهد الحل الموضوعي الأنجع؟