النداء الوطني العراقي بين تناقضات المآرب وواجبات المطالب؟

ضرورة واجبة الشروع إجرائيا اليوم قبل الغد

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافيي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

تداعيات الأيام الأخيرة، أفرزت عنفا متزايدا؛ يدرك الجميع عائديته إلى فشل برامج من يحاول التفرد بالسلطة، أو البحث عن فرض رؤاه الخاصة على الآخرين على أنها الدواء الوحيد. والأوضاع على ما أفرزته وتفرزه المشاهد المعتمة، تجري بطريقة إدارة فاشلة تماما للأزمة ولا وجود لبصيص حلّ من طرف من يتسمى بعديد ألقاب المناصب وكراسيها، من دون أن يلبي واجبات أيّ من مطالب مسؤوليات تلك المسميات. فمساحة التفجيرات الإجرامية العبثية لا تجري أسبوعيا بل يوميا وبين الساعة والأخرى وكأننا في ميدان مفتوح لمافيا الجريمة والموت الأسود!!

يوم كانت بالأمس القضية قضية احتقانات، وخلافات سياسية حزبية ضيقة، كان الصوت الوطني والإنساني ينبه على الآتي مما وراء تلك الاحتقانات ويحذر من الواقعة!  ويوم كانت القضية قضية فساد يستفحل وجريمة تنتشر كانت المنظمات الدولية تتحدث عن مخاطر الدولة الفاشلة بمعنى  احتمالات الانهيار الذي لا يفضي إلا إلى كانتونات العبودية، تحكمها عصابات الموت الأسود!

اليوم أيها السادة، ونحن في معمعان معركة الانهيار.. والأصوات المتعالية تختلط بقرقعة متفجرات الجريمة، أليس من يسمع صرخات الضحايا، تتناثر أشلاؤهم! الأرامل والثكالى تبح وتذوي أصواتهنّ! ونشيج الأطفال المطحونين بكل آلات الجريمة والاستغلال يكاد يودع الحياة لافظا آخر أنفاس الطفولة متحولا لأدوات بأيدي الجريمة وأبطالها!؟؟؟؟؟؟؟؟

ليست هذه المقدمة، استدرارا لعاطفة من يتشاطر مساهما في الجريمة مبتعدا عن الإقرار بفشل؛ ولا كدية لقطعة عملة نقدية يُشترى بها كسرة خبز لجائع.. إنها ليست تهويمات دراويش يطوفون في فلك الرقص الصوفي، بل ناقوس إنذار للجميع بلا استثناء، حتى منهم من يعتقد أنه يتحكم بالأمور ويملك كرسي العرش والسلطة بديلا عن سابقيه الذين طماهم غبار التاريخ والذين مازالت الأيام تدفع بهم إلى مدافن مزابلها في يومنا من بقايا  زمن الرعونة والعبث.

لقد أدرك الشعب أنه يحيا اليوم وسط مطرقة وسندان للجريمة والمجرمين. وربما لم يتعرف بعد إلى من يقف وراء كثير من تلك الجرائم بسبب التشويش والتضليل الناجم عن التخفي تحت جلابيب وأعمة مزيفة، وربطات عنق وبدلات أتى بها من مصممي أزياء في الغرب؛ إلا أنه بالتأكيد لن يطول الأمر ويلتحم الجميع في غضبة وطنية ستكنس كل قاذورات جرائم الفساد والإرهاب، ربيبي الطائفية وآليات حكمها.

إننا اليوم لسنا بمعرض البحث عن تشخيص المجرم، ومطاردته والقصاص منه، ولا فرصة لطرف كي يعتكف بمكتب للدراسات والبحوث؛ نحن اليوم بموقف يدعونا للتفرغ التام للحالة الحرجة لبلاد تحتضر ولشعب يمكن أن يتشظى وينقسم تحت ضربات حلف (الطائفية الإرهاب الفساد).. إننا بمواجهة فعلية مع حال انهيار الدولة. ولمن لم يرَ مثل هذه الأحوال في نماذج معاصرة يمكنه أن ينتظر هنيهة، مستسلما لقدر الموت ولكنه حينها لن يسمع نعي وجوده، لأنه يومها لن يكون ابن الدولة الموجود هيكلها اليوم مترنحا!

فإلى كل الأحزاب التي تتحكم ببغداد اليوم. وإلى كل الزعامات التي تلتصق بكراسي السلطة وتتمسك بأهدابها، أوجه ندائي هذا. فكل هذه المجموعة تعلن تمسكها أيضا بالوطني وبوحدة تراب الوطن ووحدة الشعب، وتعلن براءتها مما يجري من جريمة. وربما تمسكها هذا بمثل هكذا خطاب مزوّق بالجميل، ناجم عن ضغوط شكلية لبعض الخطابات الدولية، وربما عن بقايا خشية من الوجود (الوطني) لدولة وشعب.. ولكنه بأية حال صوت يتحدث عن وجود الدولة العراقية بصيغتها  التي وُجِدت عبر تاريخها الحضاري وعبر ولادتها المعاصرة وعبر التركة المثقلة بالجراحات الفاغرة مذ انهار نظام نخر فيها ثلاثة عقود مأساوية ليؤكد هذا النخر عقد  آخر وقع بمصيدة الخراب على أنقاض دمار.

النداء الوطني المنتظر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، يتضمن كل الموجود في أرض هذه الدولة. وليس فيه من استبعاد لطرف أو آخر؛ لأن المهمة اليوم لا تتعلق بالبناء ولا بإعادة الإعمار ولا بأمر مما يجري في ظروف الاستقرار ويتطلبه. نداء الإنقاذ الوطني هو صرخة ربان سفينة تكافح الأمواج العاتية لعاصفة وسط ظلام بعمق المحيط.

لهذا لا ينبغي لنا  جميعا وكافة ولا لأي منا أن يتردد ويتحدث عن اشتراطات أو عن استبعاد لطرف أو آخر.. القضية اليوم تتعلق بترتيب أوراق البيت العراقي باتجاه وصول ميناء سلام، تطمئن إليه الأفئدة جميعا.. لأنه ما من أحد سينجو لا غني ولا فقير، لا قوي ولا ضعيف، لا من يسكن قمرة قيادة ولا من يقيم بسجن  في السفينة. لن ينجو من ابتلاع هول المحيط كل من في السفينة المبحرة اليوم وسط إعصار عواصف اتحدت لينجم عنها هول ما يصدم جدران سفينة متهالكة...

أيها السادة، النداء الوطني ليس قميصا يفصّل على مقاس أيّ منكم! إنه عقد لن يكون مكتوبا في هذه اللحظة بل هو صرخة تخترقنا لتسكن فينا معا وسويا؛ نؤمن بها ونلتزم بالتفاعل مع محدّدها الوحيد، ألا وهو محدد إنقاذ السفينة من التحطم والتمزق أشلاء نتناثر عليها ولا منجى يومها من الغرق المحتم؛ بمعنى إنقاذ البلاد من الانهيار والتشرذم بين كانتونات ويومها لا منجى من الخضوع لقوانين قوى الموت الأسود.

أما إذا انتقلنا إلى النداء وتفاصيله فهو ليس غير (اللقاء الوطني) الذي طال انتظار دعوته.. وكلّ طرف كان يشاغل الآخر بشروطه. ولكننا اليوم بظروف لا تقبل تأجيل ولا تقبل بشروط ولا باستبعادات وإقصاءات وأي فعل من نمط تخوين الآخر وإلقاء التبعة على كتفيه وحده وفبركة القضايا هو توجه يقيني نحو انهيار الوضع برمته وتوجهه نحو أقصى تطرفه حيث التمزق والتناحر الدموي الذي يعني أيضا أنه إذا بدأ فلا يوجد حينها من يطفئه!!

وإجرائيا هذا يعني أن من يتوجه لاستغلال قوى الدولة لاعتقالات ومطاردات أمنية قد فات أوان ممارسته تلك وباتت اليوم  وكأنها جزئية من الصراع  وزيتا يُصَبّ على نار الفتنة.. فلا تتجهوا بنا إليها. لأنها في هذه اللحظة محارق ستحاصرنا جميعا في سفينتنا التائهة وسط لجج المحيط العاصف!

الحل هو سرعة القبول بـ(اللقاء الوطني) ممثلا في ((مؤتمر عاجل طارئ)) ينعقد في المدينة الأكثر أمنا نسبيا في البلاد. كي نتجنب الوقوع أسرى التجاذبات والتأثيرات العاصفة المعقدة. ولعل الإشارة واضحة فمدن كوردستان العراق جميعها عامرة بالأمن والأمان ويمكن عقد المؤتمر فيها بين أربيل والسليمانية موئلا تطمئن إليه الأجواء والفضاءات وهذا ليس مما ينبغي أن ننشغل به.

أما التوقيت فلا يجب التأخر به. إذ يجب أن ينعقد في سقف زمني لا يتجاوز الشهر من الآن. وربما سيكون موعد ذكرى ثورة العشرين الوطنية فرصة لتفعيل الروح الوطني من جهة ولتفاعلات تشرك القوى الشعبية في تظاهرة الوحدة الوطنية المؤملة، تظاهرة مهمتها مشاركة شعبية تؤكد على خيار السلام ورفض العنف وتوكيد وحدة الصف الوطني. والقوى التي يمكن أن تشارك في الدعوة إليها هي  القوى التي يعلو صوتها اليوم بهذه الشعارات سواء تلك التي في السلطة أم تلك التي خارجها، ولا ننتظرن فرزا وتصنيفا اليوم مما تقع مهامه في موعد لاحق لا تقبله لحظة العصف الراهنة..

وللتوجه نحو الأمور الإجرائية ينبغي أن يتمّ ترتيب خارطة طريق، طوال هذا الشهر باعتماد لجنة محايدة من العقول العلمية الوطنية التي توزع جهودها على استطلاع رؤى جميع الأطراف السياسية الحكومية وغيرها الموجودة في كرسي المسؤولية والموجودة في ميادين الاعتصامات.. وتلتقي قبيل موعد ((المؤتمر الوطني)) وسقفه الزمني لتؤشر القواسم المشتركة ونقاط الاختلاف بين جميع القوى السياسية  من أحزاب وحركات وكتل وتيارات وبمستويات وجودها في السلطات التنفيذية والتشريعية والميدانية الشعبية. كما ترسم تلك اللجنة الوطنية التحضيرية، الخطى الواجب  العمل بها لمراحل تنقسم عليها المهام المؤمل تنفيذها للخروج من الأزمة ومن عين الإعصار عاجلا.

إنّ هذه الكلمات لا تدعي شموليتها ولكنها تؤشر إلى أوضاع وتوصيفها وإلى فرصة النجاة والإنقاذ. وتدرك أنها لن تكون الصوت الوحيد لإطلاق النداء الوطني ومفرداته بل تتطلع إلى لفت النظر الوطني لجهة جمع من الأكاديميين والعقول الوطنية العلمية تحديدا من وسط مستقل من العمل الحزبي وانحيازاتها وفروضه وينتظر أن تطلق تلك الكوكبة النداء الوطني الذي ينبغي أن يكون مرجعا شاملا..

ليس بديلا عن الأحزاب والحركات السياسية بكل اتجاهاتها ولا بديلا عن قوة أو فئة أو جماعة ووجود لمكون أو طيف عراقي بل أداة للحل  بكل تفاصيله.

إن النداء الوطني يقتضي وقفا فوريا لكل الإجراءات المتعجلة التي قد تربك الوضع السياسي تلك الإجراءات التي تحصر السلطة بيد طرف وتضعه فوق القانون بادعاء خدمة القانون فيما تخرج الآخرين وتضعهم موضع الاتهام والتجريم وإلقاء تبعات الجريمة على أكتافهم. مطلوب التخلي عن المآرب الحزبية الضيقة وتلك الشخصية لزعامة أو أخرى والانتهاء من كل المستهدفات بخلفية ما تدخلنا فيه من دوامات.. والخطوة التالية اللقاء العاجل بين الكتل زعاماتها فورا في المستوى الرسمي واللقاء العاجل والفوري لقيادات القوى الموجودة خارج البرلمان والحكومة  لاتخاذ موقف حازم حاسم لا يخضع لخطابات البيانات التي لا تغني ولا تسمن، على تلك القوى أن تتخذ موقفا عمليا فيما ستفعل بوجه المجريات وليس الاكتفاء باستعلائية النصيحة والمشورة من أبراج عاجية!

إذن فنحن بمجابهة الآتي:

1.  وقف إجراءات حكومية (سياسية) المنحى والأداء، فشلت في ضبط الوضع الأمني لبقائها في فلك تبادل الاتهام وإلقاء التبعات على الشركاء!

2.  طلب عاجل للمشورة والدعم الدوليين في الشأن الأمني المباشر.

3.  التوجه لدعوة تعد قائمة للجهات الحكومية الرسمية وللجهات الشعبية المدنية للقاء وطني موسع.

4.  التنادي لتظاهرة الوحدة الوطنية المشتركة بين الجميع .. التظاهرة التي تتحدد بموضوع واحد هو السلام  ورفض العنف.

5.  انعقاد مؤتمرات طارئة بمستويات رسمية وأخرى شعبية لاتخاذ قرار الحسم ويخدم اللقاء الشعبي (غير الرسمي)  وضع برامج العمل على طاولة الحكومة ومهامها.

6.  المؤتمر الوطني الرسمي يكون بمستوى سياسي – أمني ووسائل ضبط الوضع والحل الحاسم وآخر بمستوى بنيوي للمرحلة التالية.

7.  تعمل من أجل الإعداد للمؤتمر الوطني لجنة تحضيرية من العقول الوطنية العلمية المستقلة تساعدها جميع الأطراف بتقديم تصوراتها ومبادراتها.. فيما تكون مهمة تلك اللجنة منتهية بانعقاد المؤتمر في ضوء ورقة العمل المجسدة للنداء الوطني المصاغ من تلك اللجنة. على أن هذه اللجنة وهي تشرع اليوم التحضير للإعلان عن ندائها الوطني لن تكون بديلا وعلى منحازة ولا تقدم نفسها بوصفها البلسم ولكنها خلاصة وجودنا الوطني بخطاب عقوله الأكاديمية العلمية الحيادية المستقلة بكل المعاني. وهي إضافة إجرائية لمشروعات نبيلة ولاتفاقات وقيم دستورية ثابتة وحقوق ومطالب تمتاح من الشعب ومن جميع تمظهراتها وتعبيراته السياسية السليمة الناضجة.

إنّ التلكؤ عن هذا الفعل، سيأتي على آخر ما تبقى من وجودنا ولن ينفع جميع الأطراف يومها أي تبرير لأنهم سيكونوا جميعا في خبر كان موضوعين تحت مقاصل أوضاع تراجيدية بمسميات أخرى غير مسمى العراق.. إنها مسميات تحكمها فلسفة واحدة هي فلسفة المقابر والموت الأسود!!! فلا تتركوا الأمل يضيع. إنه فييكم جميعا أولكم أصحاب العقل والحكمة وليس آخركم من يدافع عن مآربه ضد مطالب تطمين الوضع برمته لمصالح الجميع ولاستعادة فرص الحياة سليمة صحية صحيحة، لا استثناء هنا لأحد. وكلنا نستطيع المشاركة.