الفساد في العراق بين استفحال جريمة ممارسته ومأسستها

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

لم تكن حالات الفساد المسجلة رسميا في سنة 2004 تزيد عن 786 حالة فساد فيما باتت في سنة 2011 حوالي  12.520 حالة، وهي اليوم في حال من التضاعف والازدياد، ومع ذلك فأرقام هذا التسجيل الرسمي لا يمكن الركون إليها في تقدير حجم الفساد إذا ما عرفنا أن أكثر من ثلثي عينة بحث* أجرته هيأة النزاهة مؤخرا فضلوا عدم الإبلاغ عن الفساد. وقد أيد أكثر من 54% من العراقيين حقيقة تزايد الفساد حتى صار العراقي اليوم يدفع ما معدله حوالي أربع رشى في السنة! في وقت لا توجد تبليغات جدية لكثير من حالات الفساد التي صارت معتادة في تفاصيل اليوم العادي للمواطن.

وما يلفت الانتباه هو نسبة استخدام الرشاوى بين المحافظات التي سجلت في بغداد أعلى رقم قارب ثلث المعاملات الجارية بمعدل 29.3٪ مع الأخذ بنظر الاعتبار حالات عدم الإبلاغ التي أشارت إلى ثلثي نسبة عينة الفحص!! الأمر الذي يشير إلى رقم مخيف بكل المقاييس. فيما بقي المعدل في المحافظات الأخرى عند نسبة  10.2٪، ولم يتجاوز في إقليم كردستان نسبة: 3.7٪. وحتى بإضافة نسبة الثلثين في المحافظات أو في إقليم كوردستان فإن نسبة استخدام الرشاوى وحالات الفساد تبقى بحدود وأسقف تقبل المعالجة الموضعية غير أنها ببغداد (العاصمة الاتحادية) تشكل حالا ثابتة مستفحلة بما يعني انتشارها عموديا وأفقيا بكل مفاصل العمل الحكومي الرسمي! ذلك العمل الذي وظَّف مستخدميه بنسبة 35% من دون خضوع لاختبارات رسمية منصوص عليها قانونا، في إطار تعيينات المحاصصة الحزبية الطائفية وغيرها، فضلا عن المحسوبية والمنسوبية وغيرها من أساليب التوظيف. وفي وقت رغب حوالي ربع موظفي الخدمة بمعرفة وسائل مكافحة الفساد فإن أقل من 7% هم من حضروا فعليا دورات تدريبية للنزاهة!؟

وبفحص حالات الفساد والرشى، سنجد أن حوالي نصفها يأتي تأشيرا لضعف الخدمات وبطئها الأمر الذي يضطر المواطنين من أجل تسريع الإجراءات وتحسين الخدمة لدفع الرشاوى؛ لكن شيوع هذا في التعامل مع الشرطة وموظفي تسجيل الأراضي وموظفي الضرائب والعائدات، يؤدي لتداعيات أبعد من ظاهرة  تحسين الخدمة أو تسريع الإجراءات.. ولربما أشارت القضية إلى ما هو أبعد وأخطر من قبيل تمرير حالات فساد لها علاقات مباشرة بجرائم مافيوية من جهة وخدمات لقوى نفوذ إرهابية تحديدا ببغداد وبعض المحافظات الأمر الذي تؤشره وقائع الجريمة الطافية في يوميات تلك المدن.

لقد أمدت الدراسة الأحدث التي نستند إليها هنا أرقاما تقول: إنّ 60% من موظفي الخدمة يتعرضون للرشوة ولكن أكثر من 66% منهم يخشون الإبلاغ عن حالات الفساد وأن أقل من 5% من حالات الرشى هي ما يبلغ عنها دافعوها. والسؤال كم هو حجم الفساد الحقيقي إذا كان العراق قد تم  وضعه في الترتيب الثامن [التسلسل 169 من بين 176 دولة حسب منظمة الشفافية الدولية2012] بين الأكثر فسادا دوليا! وجرى توكيد هذه الحقيقة ربيع هذا العام  بتأشير العجز الجوهري عن تلبية الخدمات الأساس الرئيسة للمواطنين والتحول للدولة الأكثر فشلا أيضا.

 

من جهة رقمية أخرى، تزيح الافتراضات [بخاصة منها السياسية الأسس] جانبا، وتضع الحقائق المروعة موضع الإحصاء الدقيق؛ كانت هيأة النزاهة العراقية قد أعلنت "أن مبالغ الفساد المالي في البلاد بلغت العام الماضي[2011]: 120 مليون دولار، فيما تم تهريب مليار دولار إلى الخارج" وأن المحكومين هم "6 وزراء و26 مديرًا عامًا"، طبعا الأغلبية منهم هاربين من تنفيذ الأحكام!  وكانت الهيأة نظرت في 33 الفاً و351 دعوى فساد صدرت على وفقها أوامر قبض منها 9 بحق 9 وزراء أو من بدرجتهم و199 أمرًا بحق 61 مديرًا عاماً أو من بدرجتهم أو أعلى منهم.. ولكن المواطن العادي يعرف أن أغلب الجرائم المشار إليها  بهذه الإحصاءات، لم تصل لنتيجة فعلية من قبيل إحضار معالي وزير أو سعادة مدير أو سفير إلى القضاء والمحاسبة القانونية، فمن مجموع 2854 متهمًا أفرج عن 1145 أي بنسبة أكثر من 40% هذا عدا عن مسألة  التنفيذ الغيابي أي بعدم حضور المتهم وهربه خارج البلاد أو تسجيله مختف عن العدالة، من دون استعادة الأموال المنهوبة مثلا أو أخذ قصاص الدولة منه! والنتيجة الرقمية تؤكد أن قسما يسيرا جد متواضع هم من واجهوا المساءلة القانونية وربما أفلتوا بصيغ مختلفة من العقاب طبعا بصيغ فساد لا غير!!

وفي ضوء جملة هذه الحقائق، تجدر الإشارة إلى أن حوالي 565 مسؤولاً حكوميًا قدموا كشوفات مالية غير مطابقة للحقيقة بينهم عشرات من الوزراء والنواب والسفراء والمديرين العامين الأمر الذي يشكل حجمهم حجم طبقة  باتت متنفذة وذات مصالح مستقرة ما دفع لآليات اشتغال بعينها اي آليات الفساد المافيوي المنظم، وتلك الطبقة تُعرف في المعجم السياسي بطبقة الكربتوقراط، اي من المتمترسين خلف متاريس الفساد وآلياته؛ فيما يجسد الأداء وآلية العمل التي يتمترسون بها نظام الكليبتوقراطية الذي يتسم بسطوة شاملة لمفاهيم الأداء المافيوي، مفرِّغا العمل المؤسسي من طبيعته وصدقيته وآليات اشتغاله السليمة.

وما يؤكد استفحال ظاهرة الفساد تأشيرها في جهتين خطيرتين هما التعليم والقضاء. فدراسيا تعليميا، هناك تأشير لممارسة الرِّشى بين التلامذة وبعض التدريسيين وجهات إدارة في التعليم! وإنّ حالات تزوير "الشهادات الدراسية بلغ ما رُصِد منه على سبيل المثال لا الحصر: 101 حالة تخص مرشحين لانتخابات مجلس النواب و349 لمجالس المحافظات" دع عنك الأرقام التي تخص موظفي الحكومة لا تستثني منهم مستوى حكوميا... وفي ضوء الوقائع فقد صدر:" 845 أمر قبض بقضايا تزوير" وفي الحقيقة هناك عشرات آلاف حالات التزوير في الوسط الوظيفي تم الإعلان عن وجودها! ولكننا كما عشنا السنوات العشر العجاف شهدنا الإعفاءات المتوالية من عواقب وعقوبات تلك الجرائم....

 

إن مشاكل الفساد لا تقف عند حدود الرشى التي أوردنا أمثلة ونماذج قليلة منها، ولكنها تتسع حتى صارت اليوم سلوكا مجتمعيا عاما.. وإذا ما نظرنا بعمق في نموذجنا الذي تبنينا تقديم أرقامه هنا أي الرشى؛ فإنّ قراءة نسبة ((خُمس)) المراجعين[20%] الذين باتوا يدفعون الرشوة من دون أن تطلب منهم، تعني تلك النسبة أنها باتت سلوكا عاديا عند شريحة كبيرة من المجتمع وباتت تحظى بقبول نفسي تربوي وصارت وجودا قيميا أبعد من كونه مقبولا هي حال ممارسة فعلية!

فيما إشارتنا للفعل الرسمي أو الغطاء الرسمي والتحولات الجارية في إطاره تؤكده نسبة أكثر من 14% من الرِّشى تُطلب عبر وسيط أي بعمل منسق أكثر تنظيما من الطلب الصريح الذي يتم بشكل مباشر بنسبة 41% في مجمل نسبته تمثل 65%. إنّ هذه الأرقام لا تشمل طبيعة العمل بصيغ الفساد الأخرى كما لا تغطي  الحجم الحقيقي لجريمة الفساد بسبب  الخشية من التصريح بالوقائع من أغلبية ممارسي هذه الآفة الإجرامية... إلا أننا مع كل ذلك نرصد الأرقام المهولة الصادمة التي  أصبحت في عقد من الزمان أقل حرجا وصعوبة وتعقيدا في الوصول إليها بعد أن استتب للفساد نظام عمله وسطوته على المشهد الحكومي وغير الحكومي أيضا.

ولمزيد مما يؤكد ما ذهبنا إليه نجد حقيقة تساوي نسب انتشار ممارسة الرّشى بين الأعمار المختلفة وبين النساء والرجال وطابع تفوق نسبة طرف على آخر في ضوء الوظائف المختلفة، هي علامة أخرى تساعدنا على قراءة تـَمَكنِ قيم الفساد من الممارسة الحياتية اليومية. ومن المؤسي أن نقرّ اليوم بكون التخريب صار بنيويا في الشخصية وقيمها ومن ثم في نتائج خياراتها وممارساتها الحياتية.. الأمر الذي وفر فرص إعادة استيلاد الفساد وتجدده في هياكل تتناسل بعضها من بعض وتتعاضد في آليات إنتاج طاقة وجودها وسطوتها.

وبالخلاصة فإن جريمة الفساد ما عادت محصورة بمجرمين شاذين وقليلي النسبة بل اتسعت واستفحلت حتى شملت هياكل مؤسسية في قلب الوجود الرسمي للدولة وبناها وفي جوهر القيم التي تمارس مجتمعيا. وبهذا تتحول الأمور إلى مأسسة للفساد تحمل قيمه وآليات اشتغاله طبقة فساد محددة المعالم وتعمل على فرض نظام عام يحميها يتلخص بنظام الكليبتوقراطية.  وللوقوف على  الحجم المؤسسي والآثار التخريبية المجتمعية والرسمية الحكومية ينبغي للبلاد أن تستعين بخبرات دولية متخصصة وتشرع بدراسات وجهود بحثية وتشريعات ترقى لمستوى التحدي ومعالجة  ما استفحل وصار سرطانا خطيرا...

لكن الأمل وطيد في الانتصار على هذا الخراب بفضل وجود نسب جد متدنية وهامشية في ظاهرة الفساد بإقليم كوردستان وبمناطق أخرى عراقيا.. الأمر سيساعد على جعلها نقطة انطلاق للتصحيح والتطهير والمعالجة. وهي مهام تتطلب انتباهة إلى طبيعة الخيار القابل في الانتخابات التي ستجري في آذار مارس 2014. كيما يشرع العراقيون بالتغيير من قمة الهرم .

وللمعالجة بقية لا تنضج وتكتمل من دون أقلامكم وتداخلاتكم ودراساتكم.

 

 

*((الأرقام الواردة هنا بمعالجتنا هذه مأخوذة عن تقرير أطلقته هيأة النزاهة العراقية بجهود الجهاز المركزي للإحصاء وهيأة إحصاء إقليم كردستان وقد أُجْرِي بإشراف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يُنظر موقع هيأة النزاهة))