الأمن الغذائي وآثاره الكارثية في العراق؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

يواجه العراق مشكلات جدية خطيرة في المشهد الكلي لوجوده، سواء في الشؤون السياسية أم الاقتصادية أم الأمنية بمختلف أوجهها. وإذا أجَّلْنا موضوع الإخفاقات الحكومية وبرامجها، وما ينخرها من تخلف برامجها واتساع الفساد وحجم العقبات الناجمة عن الانفلات الأمني؛ وتوجهنا لقراءة أوضاع المواطنين العراقيين بعد عشر عجاف، فإننا سنجابَه بعلامات كارثية للوضع العام وتحديدا منه ما يتعلق بالأمن الغذائي بالارتباط بالظرف البيئي والأنشطة الزراعية وما إليها.

فلطالما شهدنا تزييفا للأرقام من طرف الحكومة وإحصاءات الظواهر التي تقرأ الأوضاع العراقية أو بأفضل أحوالها تميل لطمسها واللعب بعيدا عنها بوساطة التضليل الإعلامي السياسي!؟ سواء باختلاق الأزمات وافتعالها من جهة أم بمشاغلة المجتمع بقضايا ليس من بينها ما يمسّ ظروف عيشهم ومستوياته!

لقد ذكرت التقارير الأممية أن ما نسبته اليوم خمس الشعب العراقي [مع استثناء إيجابي لمصلحة الوضع في إقليم كوردستان] أي ما نسبته 20% من الشعب يعاني من  الحرمان الغذائي ويعيشون في ظرف انعدام أمنهم الغذائي بشكل فج خطير! فحوالي المليوني عراقي لا يتناولون إلا أقل من نسبة المتوسط الغذائي الذي يحتاجه الإنسان وهم يشكلون قريبا من نسبة 6% من السكان! فيما أربعة ملايين آخرين يعانون انعدام الأمن الغذائي بما نسبته أكثر من 14%!! ويمكننا التوكيد أن تلك الأرقام هي أقل بكثير من الحقيقة بسبب من عدم توافر الإحصاء السكاني العام وعمليات التعمية والتضليل الحكومي بالخصوص، لكنها أرقام تبقى مشهودة ومثيرة جرت بمساهمة أممية!

إنّ هذه الكارثة تترافق وأزمة بيئية واسعة حيث ظاهرة الجفاف و شح المياه مع اتساع التصحر حتى بات يقترب من شمول حوالي  92%! من المساحة الكلية للعراق، حيث تناقصت المساحة المغطاة بالنباتات بين الأعوام 2009 و2012 فقط بنسبة 65% في محافظة ديالى و47% في محافظة صلاح الدين، و41% في البصرة . وإذا ما عرفنا أن عدد سكان العراق يمكن أن يصل إلى 42 مليون نسمة بعد سبع سنوات فقط، فإننا ندرك الحجم الخطير للتناسب العكسي بين تدهور الزراعة وزيادة الحاجات الغذائية مع ازدياد حجم السكان.

فأولا هناك كارثة التركز السكاني في المدن على حساب استصلاح الأراضي الزراعية وإهمال الريف إلى درجة أن الفقر في ريف السماوة وصل حدا مهولا يعد غولا كارثيا بما يعادل قريبا من الـ90%!! دع عنك فجوة الفقر وظاهرة الفقر المدفع! وبمجموع الريف العراقي فإن الفلاح يعاني من زحف الصحراء وتحول أرضه لأراض بور كما يعاني من العواصف الترابية التي باتت تهدد المحاصيل مثلما الفيضانات غير المؤاتية كما حصل في الأشهر الأخيرة مع الخراب الذي أحدثته أمطار بسيطة بمحافظتي واسط وميسان وأريافهما بالخصوص والدمار الذي حل بالمحاصيل الزراعية، الأمر الذي نجم عن أخطاء كارثية في التخطيط والمعالجة!!

إن العائلة العراقية اليوم تعاني من جملة تأثيرات صحية خطيرة فبخلاف قضية الولادات المشوهة نتيجة التلوث البيئي المتروكة بلا معالجة، فإنّ مانسبته 8.5% من أطفال العراق يعانون من نقص الوزن كما أن واحدا من كل أربعة منهم يعاني من (التقزم) في نمو جسمه وذهنه.. وكارثية الآثار الصحية من التشوهات والأمراض العائدة إلى الخلل الغذائي أدت إلى نتائج تؤشر انهيارات تراجيدية في وجودنا ليس أقلها ماساوية التخلف العقلي؛ أما الظواهر المرضية الأخرى فهي تنتقل إلى المشهد النفسي والاجتماعي.. ونحن نشهد يوميا تلك الصور اللاإنسانية لأطفال الشوارع ولنسوة يبحثون في القمامة عن الفضلات!!

فماذا ننتظر من هذه المشاهد الحياتية التي تطبَّع عليها ما يقارب نصف المجتمع المديني وثلثي المجتمع الريفي!؟ أليست تلك العقد والأمراض النفسية التي تتأزم مع الأيام؟ أليست هي الأمراض الاجتماعية التي تتطلب علماء ومراكز بحوث سايكوسوسيولوجية فضلا عن بحوث التخصص وتوجيه مراكز الدراسات في الجامعات؟

ولكن، ما الذي فعلته الحكومات المحلية والاتحادية للتصدي لأزمة الأمن الغذائي؟ حتى الآن لا شيء.. فالحكومات تتسلم مهامها وتخرج منها منشغلة بتشكيلها والحصص الحزبية فيها حتى أن الحكومة الاتحادية الحالية لم تكتمل تشكيلتها، وبالذات في الوزارات السيادية الأهم، حتى يومنا على الرغم من أن وجودها شارف على الانتهاء!

ومع أن الزراعة هي المصدر الأكبر الثاني للاقتصاد العراقي، سواء في توفير الغذاء أم في تشغيل الأيدي العاملة إلا أنها مازالت بدائية تعتمد على جهود محلية ضيقة للفلاح وربما أحيانا لبعض الاستثمارات المحدودة ليس بينها في الغالب الاستثمارات الحكومية ومهام التطوير والتحديث والمكننة وخطط الاستصلاح والاستزراع والتشجير والأحزمة الخضراء التي لا تقع في مهام الفلاح الأعزل الذي لا حول له ولا قوة بل بمهام حكومية وطنية كبرى غادرناها منذ عقود، فعاد التصحر الزاحف حتى بات يهدد المدن بعد أن ابتلع القرى والأرياف.

وماذا فعلت، الحكومة في السياسة المائية؟ الأنهر الدولية وروافدها تقطع بالتدريج حتى تكاد تضمحل مثلما حصل مع نهري الوند والكارون! ومثلما يتهدد نهر الفرات ودجلة أيضا! إلا أنّ هذا التهديد الأخطر من الاعتداءات العسكرية المسلحة على القرى الحدودية، لا يُنظر إليه على أنه تهديد للوجود الإنساني برمته في بلاد النهرين! أما الأهوار والمسطحات المائية فهي تتعرض لجرائم من أنواع أخرى من دون أي اهتمام حكومي!

وبهذا فالثروات السمكية والحيوانية من طيور وغيرها تكاد تنقرض ويُغلق على العراق بوابات البحر من الجنوب بلا تفاعل مسؤول! وربما أجابنا مسؤول حاذق متذاكي أن الحكومة تغطي النقص بالاستيراد الغذائي! وهو بهذا ينسى أو يتغافل عن قصد أن هذا الاستيراد طالما شابه الفساد في النوعية والكمية بل وصل الأمر لمستوى ورود أغذية مسرطنة وأخرى منتهية الصلاحية و\أو لا تصلح للغذاء البشري فضلا عن أن بعض الاستيراد أضر بالفلاح العراقي ومنتوجه وبالسياسة الزراعية السليمة!!؟

وفي وقت زادت المساحة التي تعتمد في زراعة القمح على الريّ الاصطناعي بين عامي 2000 و2010 بمقدار 33% نقصت المياه في الأنهر بنسبة الضعفين!! أما النخيل فمن بلد النخيل الأول عالميا وأكثر من ثلاثين مليون نخلة ومئات أنواعه الأجود عالميا بتنا اليوم بأقل من 7 ملايين نخلة كثير منها مريضة غير مثمرة.. أما الأشجار المثمرة فبين اللا-إنتاج والمرض وبين انخفاض وجودها دع عنك المحاصيل الاستراتيجية التي كان العراق يصدرها في العهود التي تعتاش على (شتمها) حكومة بغداد بدل أن تقدم البديل الذي تطلعت إلى الناس!؟

إن وضع الناس بين مطرقة السياسة الرعناء أمنيا بما ينشر الإرهاب وأنشطة الميليشيات والمافيات والعصابات المنظمة من جهة وبين سندان التجويع والإفقار من جهة أخرى هو ما يثير فرص توليد مجتمع ينتظر جيلا من المشوهين بكل المعاني والمستويات والمحملين أمراضا جسدية ونفسية  تشكل أرضية للأمراض الاجتماعية ولتوفير أرضية الجريمة والاستغلال البشع والاتجار بالإنسان وقمعه... إن ظاهرة الفقر باتساعها الأفقي والعمودي وما يندرج في إطارها من ظاهرة اختلال الأمن الغذائي ووضعه تحت سطوة مافيا الفساد التي تخترق الحكومات المحلية والحكومة الاتحادية ومؤسساتهما مثلما تتعمد بمافيات السوق، هو أمر يشبه تسليم البلاد ورقاب العباد لإذلال من نمط يستولد الوحشية والهمجية في ظل العته والتخلف العقلي وفي ظل أشكال الأمراض التي تتسع في انتشارها الوبائي!!؟

 

فيما الحلول الجدية تكمن في مجيئ حكومة تمتلك برامج عمل وقدرة على إعادة الإعمار وكفاءات تستطيع تنفيذ الخطط والبرامج وليست حكومة الفساد ومشاغلة الناس بمشكلات المحاصصة وصراعاتها وثقافة التذمر والشتم وآلية اشتغال بمنطق الخرافة والأسطرة وعقلية الكهوف وظلامها الماضوي الدامس..

إن الحل يتطلب على وفق منطق العقل ومنطق الأمم المتحدة والأمم المتحضرة التي تحيا وجودها في عصرنا، يتطلب اعتماد سياسات وبرامج توفر الإمدادات الغذائية بالعلاقة المباشرة بين الأمن الغذائي والإنتاج الزراعي والظرف البيئي بإدارة مستدامة تتفاعل والتغيرات المناخية بتفاصيلها. أي بمنهج تكاملي يتمكن من إعادة هيكلة الزراعة وتأهيلها وتحديث فعالياتها بخطط متوسطة الأمد وأخرى طويلة الأمد، الأمر الذي لا يمكن تلبيته إلا في ضوء الجهود المنسقة والمدروسة موضوعيا علميا والقائمة على أساس تحسين السياسات ومشاريع الاستثمار، بما في ذلك إعادة تأهيل خدمات الدعم وبناء القدرات العامة. وبالتأكيد إلا بوضعها في أيدي أمينة على مصالح الشعب والوطن وأولويتهما في البرامج البنيوية وليست أولوية الحصص والمغانم من نظام كلييبتوقراطي لمصلحة طبقة جديدة تتشكل هي طبقة الفساد أو الكريبتوقراط.

وحتى يتحقق الخيار الأعمق بالتغيير الأشمل ينبغي التنبيه على مخاطر ما ينجم عن الاختلال في الأمن الغذائي ومحاسبة ما يجري في إطاره من جرائم على أنها جريمة هظمى تستهدف الوجود الكلي للشعب بكل مكوناته. فهلا تنبهنا على ما يجري فعليا وأسبابه..

انتبهوا  أيها السادة.. أيتها العراقيات أيها العراقيون: أنتم في خطر محدق يطال وجودكم حاضرا ومستقبلا في موضوع أزمة الغذاء فلا تنسوا الجريمة ولا تغفلوا عن السبب وعن مهمة التغيير.  انظروا النموذج افيجابي في عراقنا الفديرالي بكوردسستان فلماذا المحافظات التي تتحكم بها بغداد بهذه الأوضاع المزرية؟ هذه ليست قراءة في موقف سياسي أو آخر من منطلقات السجالات الحزبية الضيقة بل هي قراءة في وجودنا وما يتهددنا فهل ستمضون خلف التضليل وخطابه؟ هل سيكون الخنوع والخضوع للبلطجة المافيوية [بالإرهاب الفكري السياسي] ولشراء الذمم [بالمال السياسي] اللذين يستغلان ظواهر الإفقار والتجويع؟ أم ستختارون وسائل الحل الأنجع؟؟؟

ثقة أن البديل فيمن سنضعه في سدة المسؤولية بعد أشهر، بعيدا عن لعبة خطاب أولئك الذين حكموا بغداد والمحافظات بخطابهم التضليلي المغلف بالتدين مرة وبالتحصين الطائفي مرات وبمداعبة العواطف والمشاعر السطحية وبالخواء الفكري وشلله في غيرها.. ووعينا ظروفنا وواقعنا لا يحتاج لنظريات كبيرة فنحن نحيا الأزمة وكوارثها ونرى المفسدين وجرائمهم فلا يخدعننا طرف في خيارنا الآتي من أجل وجودنا الإنساني وعيشنا الحر الكريم وحقوقنا وحرياتنا، كما كل شعوب الأرض التي نتشارك وإياها مسيرة التحديث والمعاصرة... وإنّ أولوية واجباتنا تجاه بناتنا وأبنائنا هي الأولوية التي تسبق كل شيء آخر بخاصة إكراه بعضنا على تقبيل أيادي من يرمي لهم بالفتات في فضلات زبالته!!!!