الإسلام السياسي بين قيم التطرف والاعتدال

تجاريب مرعبة إقليميا للتيار الإسلاموي ومواجهة كوردستانية ناجحة ضد عبثه وألاعيبه

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

الحركات السياسية تتخذ خلفياتها الأيديولوجية العقيدية بحسب توجهاتها واتفاقات مؤسسيها. وللحركات السياسية بعامة تيارات رئيسة تضمها، من بينها في بلدان المنطقة (تيار الإسلام السياسي). ومثل كل التيارات السياسية يضم الإسلام السياسي أطيافا وتنوعات تجرّ باتجاهات متعارضة منها ما يتجه نحو التشدد والتطرف ومنها ما يحاول استثمار الاعتدال تقربا من أوسع جمهور من المؤمنين أو المسلمين. المشكلة لا تقف عند تخوم التعدد بمكونات الإسلام السياسي وما يخفي تحت عباءته بل أيضا بجوهر الموضوع من جهة الاعتقاد بأن استغلال الدين هو أفضل طرق الكسب السياسي والانتشار الجماهيري، على الرغم من أنّ الفرق جدّ بيِّن بين عمل الحركات والأحزاب السياسية في الدولة المدنية المعاصرة وبين حركات الدعوة الدينية بما يقع في إطار العمل الجمعوي المدني غير الحزبي وغير السياسي...

وإذا تجنبنا تعريف الدين والخوض بماهيته وآليات اشتغال المؤمنين به وممارسة طقوسه وحدود الاشتغال الدعوي الجمعوي، وركزنا على طابع الحركة السياسية فإننا سنجد في الغالب أن الحركات السياسية الملتصقة بالدين إنما تزعم تمسكها بالدين غطاء تتخفى تحته.؛ وكثيرا ما يقع الأمر في إطار دجل وتضليل، القصد النهائي منه تمكين قوى بعينها من رقاب الناس وتجييشهم بما يخدم مصالح ومآرب مرضية. وسنجد حالات ارتباط خفية مستترة مع جهات ميليشياوية أو مافيوية في إطار محاولات فرض سطوة بأشمل سماتها.

إنّ التجاريب التي نرصدها في منظمات وحركات مثل: حركة مورو الفلبينية وفي حركة طالبان الباكستانية الأفغانية وفي السلفية الجهادية ومنها القاعدة وجبهة النصرة، وغيرها من تفرعاتها الأفريقية والآسيوية، سنجدها برمتها تستخدم العنف المسلح وإرهاب الناس لفرض خطاب الفاشية الدينية المطلق عليهم. وهي من أجل تمويل جرائمها الإرهابية تستغل مافيا المخدرات والجنس وتجارة السلاح غير الشرعية وتجارة الرقيق وكل ما يمكن أن يدعم عملياتها القذرة.

غير أنّ قوة الإرهاب لم تأتِ من المال السياسي القذر والعنف المسلح الإرهابي حسب بل جاءت أيضا من استغلال أرضية المجتمعات التي ينتشر بها الدين الإسلامي. إذ تنتشر حركات سياسية متأسلمة مدعية الاعتدال والوسطية، تستغل من جهة الحركة الدعوية؛ تحديدا استغلال العلاقة بين الجامع ومن يؤمّه من المصلين. وهي بهذا الادعاء تخلط الأوراق وتقدم نفسها ليس بحقيقة كونها حركة سياسية المآرب عنفية الأساليب بل بالتظاهر بأمر و\أو زعم تمثيلها مرجعية تدين الناس؛ فتفرض نفسها وسيطا بين قلوب الناس وإيمانهم الديني من جهة وبين الله من جهة أخرى!!

هنا تكون تلك الحركات الموصوفة بالاعتدال بوجهين. فبعضهم يرى أنّ فسح المجال لها يشكل منعا لانضمام فئات بعينها لقوى التطرف؛ وهذا الطرف يرى بتلك الحركات (الإسلاموية) أنها قوة اعتدال جاذبة لمن يحاول الانتظام بمجموعة فتكون متنفسا وحاجزا بوجه التطرف.. لكن هذه صورة متفائلة وخارجية سطحية مبسطة للحقيقة... إذ بالمقابل يوجد من يرصد الأمور بنتائج سلوك تلك المجموعات السياسي، كونها الأرضية التي تمثل الجسر بين أتباع الديانة المحمدية [المسلمين] من جهة وقوى الإرهاب من جهة أخرى.

فالوسط الذي تنشط فيه قوى الإرهاب يجابه سؤالا مباشرا ينص على أنه: طالما آمنتَ أيها السيد بالإسلام السياسي فإن الصحيح أن تختار الفئة الأكثر وضوحا والأكثر تمسكا وقربا من السماء والدين، يقصدون واجب الانتماء إلى تلك الجهة التي تكفِّر كل الفئات مدعية أنها الجهة الوحيدة السليمة التي تمتلك مفاتيح الجنة والوسيط الشرعي بين الإنسان وربه، الأمر الذي حدا ببعضهم توزيع صكوك لدخول الجنة وآخرين وزَّعوا مفاتيح للجنة وغيرهم وزّع أوهام الانتقال  مباشرة للعشاء أو الغداء هناك مع الأئمة والصالحين والحصول على الحور العين!!

ذلك الخطاب هو ما يجعلنا نعود للتذكير بأهمية ضبط العمل الحزبي  السليم بقوانين الدولة المدنية. وهو ما يلزمنا بضرورة فصل الدين عن الدولة ومؤسساتها كونها جهة حيادية لا تمثل لا وسيطا بين المؤمن وربه ولا تجسد جسرا أو سلّما نحو السماء؛ إنّ الدولة ومؤسساتها هي جهة للبناء، جهة لكل تفاصيل العمل اليومي المباشر للإنسان يكد من أجل لقمة عيشه...

وتطبيقيا لابد من أن نشير إلى زاوية خطيرة مرت بها شعوب المنطقة. ففي حين ثارت تلك الشعوب ضد الدكتاتورية والقمع الذي تحكّم بها عقودا من الزمن فإن ما يسمى  القوى المعتدلة في حركات الإسلام السياسي اخترقت الثورات وسرقتها باتجاه لا علاقة له بالتغيير. فالتغيير الذي أرادته الشعوب هو باتجاه بناء الدولة المدنية وإشاعة الحريات بينما كانت تجربة الإسلام السياسي في تونس ومصر في سنة واحدة كافية ليعي الشعبان وحركاتهما المدنية أن البديل الإسلاموي جاء ليكون مصادرة بديلة  للقوى القمعية المخلوعة.. وقد ترعرع  في كنف سلطة الأخوان مثلا حركات إرهابية بسيناء وفي جبال الحدود التونسية بل في قلب المدن بكلا البلدين!! ولهذا سارعت قوى الحرية والسلم الأهلي لحسم الموقف مبكرا وتصحيح مسار الثورة..

والأنكى هنا ما جرى في التجربة السورية. إذ كانت قوى الإسلام السياسي الأرضية المكشوفة لجرّ الثورة نحو العنف والسلاح من جهة ولحرف الثورة نحو أهداف أخرى غير أهداف بناء دولة مدنية بأسس الديموقراطية واحترام التعددية والتنوع..

إنّ العنف ووجهه القبيح ممثلا بإرهاب المجتمع نفسيا فكريا سياسيا وبسطوة مشعلي الحروب والفتن وإسالة الدم، إنما هو السبيل الأمثل لتلك الحركات. فالأخوان حركة تدعي الاعتدال ولكنها وثيقة الارتباط اليوم بممارسات وجرائم ما يسمى جبهة النصرة الإرهابية.

وقوة النصرة الإرهابية لا تحارب النظام القمعي إلا من باب سعيها للسلطة المطلقة بين يديها فقط لا غير. وهي تقوم بذلك بوساطة فعالياتها لفرض الفاشية الدينية وإقامة الدولة الثيوقراطية واستبدادها.. ولهذا السبب نجدها اليوم وقبل الإمساك بالسلطة تفرض على الأماكن التي تحررها قوى الثورة سلطة وفتاوى فلسفة الكهوف بزعم أنها تمثل الدين وأنها ممثلة الله على الأرض!! ومع ذلك لابد من افشارة إلى أن الوقائع تقول: إن جبهة النصرة الإسلاموية الفاشية لم تدفع قواها إلى الجبهة الأمامية في المعارك مع السلطة وهي تحتفظ بقواها لمعركتها مع قوى الحرية والتنوير في اللحظة التي تناسب رصة قفزها لكرسي السلطة.. وفي الوقت ذاته تعمل اليوم ميدانيا في المناطق المحررة مستأسدة على الشعب الأعزل!

كذلك يمكننا القول: إنّ إرهاب ميليشيات النصرة الفاشية، لا يقل دموية وبشاعة عن الأعمال الهتلرية في الحرب الكونية الثانية. ويمكننا أخذ الدروس واضحة مما تفعله بهجماتها على القرى والمدن الكوردية الآمنة في غرب كوردستان. ومع ذلك سنكتشف بسهولة ظاهرة التعاون بين حركات الإسلام السياسي بجنوب كوردستان وتلك الجبهة الإرهابية عندما نرصد تمرير الرجال بألاعيب مفضوحة؛ لكن ما أن اكتشف الكورد أنهم يحاربون مع النصرة الإرهابية ضد أخوتهم أبناء غرب كوردستان حتى رفضوا الاستمرار وأعلنوا انسحابهم من تلك المعارك التي تمثل جريمة بكل المعايير.

إن الدروس المستفادة هنا، تؤكد أن التعامل مع حركات الإسلام السياسي، بحاجة لمحددات وضوابط مكينة لتجنب الآثار السلبية للحظة متوقعة من تلك الحركات. إنها لحظة الاختيار بين الوطن والعقيدة السياسية الإرهابية المسلفنة أو المغلفة بالتدين المزعوم الكاذب، فإنها ستختار مآرب وغايات الحركة على حساب الوطن والناس..

وقد أوردنا الأمثلة التي لا يوجد فيها استثناء. إنها أمثلة كل الحركات الإسلاموية وتوجهاتها.. فهي لا تحترم من آليات العمل العام إلا ما يساعدها على التسلط على رقاب الناس وعلى محاور العمل وتفاصيله.

وهي بهذا تستغل إطلاق جمل حق مشحونة بما تستبطنه من باطل سرعان ما يفتضح حالما تتمكن أحزاب الإسلام السياسي من مقاليد السلطة في الدولة والمجتمع. وها هي التجربة المصرية شاخصة حيث يمارس الإسلام السياسي كل أشكال الإرهاب تحت شعار أما السلطة لنا ونحن على رأسها يخضع الجميع لفلسفتنا أو نخرب وندمر ولا نسمح بأي عملية بناء... ولا عجب من هذا.

 

وفي ضوء تلك القراءة، نحتاج بدقة لقراءة ما يجري في  إقليم كوردستان من تحركات تلك القوى الإسلاموية بغثارتها ضجيج معارضة لا يعنيها مصلحة شعب كوردستان، بقدر ما يعنيها إثارة الأوضاع بما يهيّئ لها الأرضية لاستغلالها في الانتخابات وفي غيرها من الظروف  من أجل تسيد الوضع برمته!  لتحقيق أوهام  مرضية والعودة بالدولة المدنية لسلطلة أزمنة التخلف وفلسفة الكهوف الظلامية.

إن منطق الأمور يقول بهذه الحال: يجب الانتباه بدقة لتحركات تلك القوى والديموقراطية  وتطبيقاتها لا تعني منح الحرية لقوى الفاشية وإنْ تسترت بأغطية وأردية تُظهِر أمرا وتستبطن أمورا أخرى. وفي أوروبا الديموقراطية  وإرثها الكبير لم يسمحوا للفاشية والعنصرية بالعمل ومارسوا  أولويات ضمان السلم الأهلي ومسيرة الديموقراطية لكن بحذر تام من اي منفذ لقوى الفاشية والعنصرية، المرادف أو النظير الطبيعي لحركات الإسلام السياسي.

إن سلامة مسيرة التقدم في كوردستان وممارسة الديموقراطية تتطلب حذرا من خطاب قوى التأسلم ووعيا بمآربه وغاياته المرضية. كما تتطلب عملا دائبا لفضح آليات عمله السياسي مثلما يتطلب أيضا فضح الأسس الفكرية العقيدية التي تستند إليها تلك الحركات الإسلاموية.

ومن هنا كان واجبا دوما الالتفات إلى أولئك الذين يستغلون الوظيفة العامة لإطلاق تصريحات تخدم حركات الإسلام السياسي مثلما حصل على سبيل المثال عندما أطلقت بعض العناصر العاملة في الأوقاف تصريحات تشي بخدمة حشد القوة للإسلام السياسي، على الرغم من أن تلك التصريحات مثلا كانت تحكي عمن رفض العمل  بميليشيا النصرة الإرهابية ضد أبناء قوميتهم.

والأمثلة عديدة كثيرة مما يجب الالتفات إليه في التعامل مع هذا التيار الماضوي السلفي الذي يؤسس وجوده على العنف وعلى إرعاب الناس وإرهاب المجتمع وعلى  إشاعة الاضطراب وإفشاء اشكال التصادم والاحتراب بغاية تمكين أدواته من الانقضاض على السلطة واستعباد الشعب، الذي لن يتحقق له في كوردستان بسبب وعي المجتمع من جهة وطابع السلطة المدنية وتوجهها الديموقراطي الذي لا يغفل للحظة واجبه ضد أية احتمالات ربما يمارسها حزب إسلاموي أو آخر، كما لا يغفل امتدادات تلك الحركات إقليميا ودوليا بنظم مجاورة أو بمافيات دولية مفضوحة.

وهذا الانتباه الجدي الفاعل ينعكس في سياسة ضبط الاعتدال من جهة وحظر تام أو منع لأشكال التطرف وأنشطته عبر قوانين مجتمعية ومؤسسات مجتمع مدني تنويرية مكينة فضلا عن توجه ينَّاء لصياغة دستور بأسس لا تسمح بانحراف الوضع باتجاه المخاطر والمهالك التي تبتغيها قوى التطرف المتأسلمة.

غير أن تحصين الوضع ضد الهزات التي تحيط بإقليم كوردستان من كل جانب إنما يبقى بحاجة إلى مزيد من الفاعلية بتنشيط الخطاب التنويري وفضح أنشطة الإسلام السياسي وأيديولوجيته الفاشية ومرجعياته وارتباطاته المحلية والإقليمية وعرض كل تلك التجاريب التي افتضحت أمام شعوبها مثلما حصل في التجربتين التونسية والمصرية.