دولة طائفية في العراق؟!

تمزيق للشعب وخراب للوطن وتهديد للمنطقة

القسم الثاني: الآثار الداخلية والإقليمية

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

              2004\  01 \ 13

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

التعرّف إلى شخصية الطائفية, كونها تعبيراَ َ عن انغلاق مجموعة على ذاتها ومن ثمَّ تعبيرها عن فلسفتها وفرضها على الآخر لأنَّ حالة الانغلاق لا تسمح بالتعاطي مع فلسفة الآخر من روح التبادل والتفاعل الإيجابي.. وبقراءة طبيعة المجتمع العراقي نجده تركيبة متحدة ظلّت عبر عصوره المتعاقبة في حالة من التنوّع والتفاعل لتشكيل نسيج الوحدة الوطنية المتماسكة التي رفضت باستمرار حالة الإكراه والتناحر والاقتتال..

 وأية محاولة لفرض قوة على بقية القوى ومصادرة رؤى تلك القوى التي يتركّب منها مجتمعنا العراقي, ستكون  بين نتيجتين أما الفشل  بما يعني نجاح قوى التغيير الديموقراطي الوطني أو إيذاء نسبة جدية خطيرة من شعبنا بل تدميره واستباحة مصيره, وفي أفضل الأحوال ارتهانه بيد القوة الطائفية المسيطرة وإخضاع إرادته لمصالح الطائفية وأهواء مَنْ يدير السلطة بدكتاتورية تتقنَّع بوجه آخر..

إنَّ ما يدفعنا لتحليل هذا المرض (الطائفية) والكشف عن مخاطره, هو كونه يظل احتمالا جديا خطيرا مطروحا في ميدان الصراعات الراهنة.. ونحن نجد أنَّ كلَّ الفرص اليوم مفتوحة أمام جميع القوى لبسط سيطرتها على الشارع السياسي وعلى مركز القرار؛ بحسب وصفة الديموقراطية المشوّهة أو بحسب اختزال الديموقراطية بالانتخابات على وفق مقاييس أو معايير عشوائية بلا إحصاءات دقيقة وبلا ضوابط أمنية تحمي القوى المتنافسة وبلا حماية لحرية التصويت حيث تسطو قوى الجريمة والتطرّف على الشارع بقوة البلطجة والاستهتار بالقوانين وضربها عرض الحائط...

وإذا كانت الدكتاتورية قد غادرتنا سلطة ومركز قرار فإنَّها ما زالت تقبع فينا بأوجهها القبيحة الأخرى. إنَّها تتمظهر بأشكال عديدة ولكنَّ جوهرها يبقى واحدا. وليس سطوة قوى الجريمة والتطرف إلا مظهرا آخر من مظاهرها.. وهي شكل يمهِّدُ الأرضية للاستيلاء على مركز القرار مرة أخرى من جماعات لا تقلّ همجية ودموية عن سابقتها لأنّها هذه المرة تحتمي بسلطة المرجعية المقدّسة ومن ثمَّ لا مجال للمناقشة حتى مع الذات تجاه ما تراه تلك القوى التي ستغتصب السلطة لدهر آخر..

وسنجابه مرحلة من العتمة الهندس الكالحة وظلامية لم يسبق أنْ وُجِدت بسبب من تغيير موازين القوى غذا ما سيطرت قوة طائفية دعيّة على السلطة.. فالعراق ليس أفغانستان أو إيران إنَّه مهد الحضارات وكتلته البشرية من الثقل ما لا يمكن التغاضي عن حجمها فإذا ما خضعت لأهواء مجموعة موتورة بروح الانتقام ومرض الهوس برائحة الدم البشري  فإنَّها ستكون بؤرة الخطر الجديد على معالم الحضارة الإنسانية التي انطلقت من هنا من وادي الرافدين.. وسيأنُّ شعبنا ردحا غير قليل من الزمن قبل أنْ يسطيع التماثل للعافية والتحرر من الكابوس المرعب..

وفضلا عن ذلك فقد ظلَّ العراق مركز التوازن الإقليمي بسبب من ثقله النوعي عبر حجم التعداد السكاني وحجم قدراته على التعبئة اللوجستية وعلى تعبئة قوى كبيرة هدّدت الجيران وعملت على ابتزازهم في ظرف سرقة الطاغية للسلطة وتوجيهها نحو نهج العدوانية والحروب.. ولا فرق كما رأينا بين  ذاك الحكم العدواني وهذا المحتمل الجديد إذا ما سطت عليه قوى الطائفية الظلامية من جهة التهديد والابتزاز..

فالمنطقة تتشكّل من مجتمعات ونُظُم معروفة الخلفية التاريخية والمذهبية [بأكثريتها السنيّة].. وفي حقيقة الأمر فهي بلدان تعاملت في أحايين على التعاطي مع الإشكالية المذهبية من منطلق التفتّح أو صادفت ظروف تاريخية جنّبتها معترك التقسيمات واحتراباتها.. وسيكون من الخطر الكبير إقامة دولة طائفية على غرار الموجودة في إيران أو على مقاسات ليست عراقية في جوهرها.. لأنَّ التوازنات التقليدية في المنطقة إذا ما أُريدَ لها التغيير فينبغي أنْ تتجه إلى استقرار التعايش السلمي وليس توازن الرعب الذي كان قائما على لغة التعبئة المسلحة وعسكرة الاقتصاد ومفاهيمها..

إنَّ نتائج ذلك التوازن كانت باستمرار قد عرّضت المنطقة إلى هزّات قاسية وأشعلت حروبا لم تنهك دولها حسب بل أودت بحيوات ملايين البشر وعوّقت ملايين أخرى فضلا عن الآثار الكارثية المعروفة الأخرى.. فما بالنا إذا ما تسلَّمت السلطة في أكبر سوق اقتصادي وأكبر طاقة علمية تكنولوجية وأكبر قدرات تعبئة, إذا ما تسلّمت تلك السلطة قوة طائفية متطرفة؟!!

إنَّ حكاية حرية التعبير لن تكون حقوقا إنسانية بقدر ما ستكون ذريعة لصعود قوى دموية أخرى هذه المرة أسفرت عن نفسها وفلسفتها عبر شعارات انتقام عترة آل البيت من أحفاد بني أمية في خلطة قبلية طائفية تمتاح من جذورها الظلامية التي تمتد إلى أسوأ ما في تاريخنا من مآس دموية ومظالم ومواجع.. فمَن سيكون أحفاد بني أمية في العراق؟ ومَنْ سيكون أحفاد بني أمية في البلاد المجاورة؟ وما نمط العلاقات التي ستنبني إذا ما ساعدنا على تشديد سباق [التسلّح] أقصد سباق [الطائفية]؟

إنَّ كلّ أطراف التكوين المذهبي الإسلامي مسؤولة عن توتير الأوضاع فالاستجابة لغلاة الشيعة وتطرّفهم وتكوين مرجعيات سنيّة تتقاطع مع مرجعيات شيعية هو تأسيس لسابقة خطيرة تدعم النهج الطائفي المريض .. وليس لنا إلا التمسّك بمرجعيات تدعو للتسامح والوحدة والتعايش على أرضية الشعب الواحد وتأصيل روح المواطنة العراقية ووحدة السيادة والتراب العراقيين.. ومرجعية السلطة لمعطيات القوانين الحضارية للتمدن العراقي الذي تأسس منذ المدينة السومرية مدينة الحضارة ومنذ بابل وآشور ومرورا بكلّ مراحل وحدة النسيج الاجتماعي العراقي وتماسكه الوطيد..

أما أنْ ننتظر ما ستتفتق عنه تجاريب الدولة الطائفية بعد أنْ جرّبنا أشكال العسف والظلم فهو من الرخص والتخلف ما لا ينطلي إلا على البليد عقليا.. فالبديل للظلم وتفرّد جهة أو جهات وسياسة الفصل العنصري أو الطائفي ليس إلا سلطة كل الشعب وكل قواه .. سلطة الديموقراطية والشرعية المدنية الشعبية التي لا تقودها مرجعيات ويسوسها جهلة كما كان أيام استلاب الشعب من سلطته بإكراه الطغاة الدمويين...

وبمختصر القول فإنَّ تداعيات سلطة طائفية في العراق تعقـِّد على شعوب المنطقة خلاصها من الطبيعة الثيوقراطية للسلطة ومن جهة أخرى تسمح لغزو فسلفةِ جهةِ ِ ظلت محصورة التأثير شرقا في أفق طائفية نظامها؛ وحيث تتعزز هذه القوة من جهة الشرق ستجد دول المنطقة نفسها أمام حجة استمرار الحكم البطرياركي الأبوي أو الثيوقراطي أو أي شكل لا ينسجم مع تطلعات شعوب المنطقة من أجل التغيير والتقدم والتطور..

وسيكون خيار الشعوب من جديد بين الأسوأين أو أهون الشرّين من النُظُم الطائفية التي ستـُكرَه المنطقة على التعاطي معها في ظل تغيير طبيعة التوجهات والصراعات .. وسيظل الإقليم كاملا مهدَّدا بانفجارات دموية ودوامة عنف خطيرة النتائج.. ومن المخاطر ليس الاصطدامات المسلحة في المنطقة بل ما ينجم عن دولة طائفية من تفتيت العراق وتقطيع أوصاله حتى داخل بنية شعب الجنوب بمكوناته المتنوعة ومرجعياته المختلفة..

وما سيكون عن هذا التقطيع من اضمحلال دولة سومر وبابل وآشور وعراق المجد التليد يصير عراق الموت الأكيد .. فما مصلحة أية فئة من الشعب العراقي وما مصلحة أية دولة من دول الجوار وشعوبها في دولة طائفية على هذه الشاكلة؟ إنَّ أسئلتنا لا تدعي لنفسها الكمال في قراءة مخاطر عراق تحتكره جهة طائفية متطرفة تدّعي تمثيل طائفة وتبتغي السطو على العراق من أجل مغامرة أخرى في محيطنا الإقليمي..

ولا علاج يُنهي التهديدات بحروب جديدة إلا نظام مؤسساتي لا يخضع لسلطة ضيقة الأفق بل لنظام يخضع لسلطة القوانين وضوابطها الحضارية المتفتحة.. وقوتنا وقة الإقليم بكامله من مؤسسات الديموقراطية ونظامها وليس من رجوعنا إلى ظلامية عهود الطوائف بكل تفاصيل حروبها...

وسيكون من الضروري  لاستقرار الأوضاع في العراق الجديد أنْ تساهم الدول المجاورة في تجنيب البلاد أزمة التقسيم الطائفي واحتمالات سطوة قوى ظلامية من أي نمط أو لون لأنَّ قوى التخريب الموجهة اليوم للعراق لن تقبع في حدوده ومثال ما جرى من دعم لقوى معينة في أفغانستان سيكون لعبة تجاه دعم قوى التطرف في بلاد كالعراق.. ألا ترى دول المنطقة ما يحصل من عودة الإفغان العرب وما جرى منهم على صعيد تشكيل قوى الإرهاب الدولي..

إنَّ فرصتنا التاريخية لا تتكرر مرتين فبلاد الفراتين قابعة على برميل البارود ونزع الفتيل لا يكون بجهود العراقيين لوحدهم, إذ سيكون من الأسهل والأفضل معاونتهم على تجاوز الأزمة وعلى تجنّب هذه الفتنة.. علما أنَّنا ندرك ما يجري خلف كواليس السياسة وعبر فضائيات القوى الإقليمية .. فلتفكر دول المنطقة بمصالحها عندما تترك العراق وتهمله أو عندما تتدخل لمصلحة طرف ضد آخر .. الحل هو دعم العراقيين بعيدا عن التفتيت الطائفي أو العرقي أو ما شابه ولنا في الموضوع وقفات أخرى وأمل بكتابات المتنورين وأنشطة القوى العراقية الحريصة النزيهة...

 

خاص بإيلاف \ أصداء 

 

1