الإخفاقات الأمنية والسياسية: من المسؤول وما المعالجة؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

بين الفينة والأخرى تعاود الضربات الإرهابية الموجعة لتنشر الموت ومشهده الدموي الأبشع بين الأبرياء من المواطنات والمواطنين في بغداد والمحافظات. وفي كل مرة لا يطلع أبناء البلاد من الضحايا لا على نتيجة تحقيق ولا على معالجة حقيقية حاسمة. وكل ما يسمعه العراقيون هو خطاب إعلامي مهمته الأساس تزويق الصورة لجهود مسؤولين في السلطة؛ بمعنى أن يدافع ذاك التطبيل الإعلامي عمَّن يمسك بالقرار ويبرر لإجراءاته. تلك الإجراءات التي عادة ما تأتي بصورة ردّ فعل تجاه جرائم الإرهاب وبآلية خبط عشواء لا تركيز فيها ولا صواب في خطواتها، بعد أن افتقدت الأجهزة المعنية استراتيجيات العمل ومبادئه السليمة!!

إن مجمل الوضع يؤشر افتقاد تلك المؤسسات (الأمنية) للجاهزية ولأدوات العمل الأكثر تطورا بمقابل فعاليات إرهابية خطيرة تستند لاستغلال أحدث وسائل العمل لارتكاب جرائمها.

وبمعاودة قراءة أغلب الإجراءات الجارية فإننا سنجدها واقعة في إطار ردّ الفعل، بالحضور الشكلي إلى موقع الجريمة، وهو في الغالب يأتي متأخرا. وفي الأصل العام لواقع أنشطة الأجهزة المعنية نشهد  هزال الجهد الاستخباري.. وحتى هذا الموجود من معلومات يجري تجاهله وعدم توظيفه، كما حصل مثلا في  جريمتي سجني التاجي وأبي غريب!

على أنّ ردود الأفعال اعتادت التظاهر بأعمال بلطجة [في استعراض عضلات] هي أدخل بممارسات مافيوية أو أعمال عصابات منظمة، الأمر الذي يُدخلها في لعبة عبثية اعتباطية؛ تجسدت دائما بمحاصرة مدن وضواحي محددة وإطلاق العنان للاعتقالات العشوائية التي لا تطال مجرما بقدر ما تتعسف بحق مواطنين أبرياء!

إنّ هذه السياسة (الأمنية) في فلسفة أدائها تستند إلى مستويات متدنية من الخبرة وإلى اعتبارات الطائفية السياسية في تشخيص الإرهاب كونه المظهر المسلح لقوى (تكفيرية) تحيا وسط حواضن طائفية [مقابلة] ومن ثمّ جغرافيا تقسيمية للوطن بين جناحين طائفيين يجري افتعال تعارضهما. ومن هنا فإنّ التعويل على الفعاليات داخل ما يطيب لبعض قوى السلطة تسميته (المناطق السنية) يبقى عبثا رخيصا. وأغلب ما تتظاهر بأنه اعتقال لعناصر إرهابية برهنت وتبرهن الأحداث الإرهابية وجرائمها على أنه كذبة تشاع للتضليل، من جهة لتبرير الاعتقالات والممارسات القمعية المعادية لحقوق المواطنين ومن جهة أخرى للتغطية على الفشل بل العجز المطلق تجاه أداء المهمة الأمنية بما يوفر للمواطنين الأبرياء أبسط أسس الأمن والأمان...

إنّ هذا التشخيص لا يدخل في إطار لا الاختلاف ولا الصراع السياسي فالاختلاف يمكن أن يكون إيجابيا ولكن هذا التشخيص ليس سوى وصف لما يجري فعليا ميدانيا من وقائع كارثية تروّع الناس يوميا حتى بات كل من يغادر بيته لكسب رزقه لا يدري إن كان سيعود لعائلته أم تلتهمه التفجيرات شبه اليومية للجريمة الإرهابية.. وهو إن لم يودّع أهله بلسانه فإنه بسرّه يردد كل الأدعية التي لا يملك غيرها كي يمر يومه بسلام!!

ومع ذلك فللحديث عن الوجه الآخر للفشل الحكومي عدا عن العجز الأمني، فإننا سنجابه فشلا سياسيا مستحكما مستغلقا. لقد بات جليا تراكم خبرة مميزة لدى المسؤول الحكومي الأول في وسائل الهروب إلى أمام للخروج من الأزمات السياسية المتعاقبة المتوالدة. وهو لتحقيق ذلك عادة ما يختلق أزمة من أجل الطمطمة على سابقتها وتناسيها للهروب من استحقاقاتها!

وهذا ما وضع البلاد والعباد على شفا لا الاحتقانات بل التفجرات التي شلَّت الإرادة العامة وصادرت أيّ فرصة للفعل والحركة أو استبعاد محاولات التغيير وتعطيلها. هنا بالضبط تتولد حالات الاختناق وانسداد الدروب وطرق الحل الموضوعي. ليُفرض على المواطن القبول بلعبة مصالحة شكلية بين عناصر طبقة الطائفية السياسية المصطرعة على حصص الغنيمة ليس من الثروات حسب بل ومن [رؤوس] البشر التي توضع أسيرة قيادة هذه المافيا أو تلك مما يسمى تعسفا وزورا وبهتانا أحزاب سياسية والحقيقة أن السلطة اليوم بأيدي طبقة سياسية باتت معروفة التوصيف!!

ولعل أبرز علامات لقاء المصالح التي تحل احتقانات المشهد بمصالحات شكلية التي يحاولون بها إيهام الشعب، أنها لا توقف الجريمة العبثية الجارية، جريمة الإبادة التي تطيح بالمواطنات والمواطنين، وتستغلهم أبشع استغلال. فالدولة ليست مؤسسات قانون تحمي مصالح مواطنيها لكنها  (غنيمة)  مقتسمة بين محاصصات، كلّ يغرف أو ينهب ما يمكن ويهرب؛ لتفرِّخ تلك الآلية ناهبين جدد.. والقضية لا تخص ضياع دينار أو درهم بل نهب الثروة الوطنية  بتفاصيلها وامتصاص الميزانية برمتها!؟ وتقديم الأضاحي والقرابين من رؤوس أبناء الشعب!!! والأداة في استمرار هذا أنَّ كل الوزارات الأمنية من وزارة الدفاع والداخلية والأمن الوطني وأجهزة أخرى، قد تحولت بمهامها من توفير الأمن وحماية السيادتين الخارجية والداخلية إلى أجهزة قمع وإرهاب دولة من أسوأ طراز لأسباب شتى!

إنّ هذا التحليل لا يقبل بتوجيه إصبع الاتهام إلى المواطن البسيط البريء، وهو في ضوء ذلك لا يتهم أولئك المواطنين الذين اضطروا للانخراط بعضوية التيارات والحركات السياسية لأيّ سبب يخص تمشية أمورهم الحياتية ويوفر الحماية النسبية المؤقتة لهم.. وهو كذلك لا يضع المسؤولية الرئيسة على أعضاء أحزاب التيار الديني أي أحزاب الطائفية السياسية، بل يرى تحليلنا هذا أنَّ الأمور تقع على قيادة الطبقة السياسية الخاوية التي لا تمتلك الخبرة المهنية في الأداء ولا ترتقي لمستوى مسؤولي [أو رجال] دولة ما أدى لهذا الإخفاق الذريع وكل ما تمتلكه هو خبراتها المختزنة عن عملها السابق في ميليشيات وحركات معروفة بآليات اشتغالها  وارتباطاتها الإقليمية الخارجية المبررة دائما بالعلاقات (الطائفية) ونهجها السياسي الثأري الانتقامي...

ويمكننا هنا لوصف المشهدين الأمني السياسي، على سبيل المثال لا الحصر، الإشارة إلى شعارات الحملات الأمنية [القمعية] وعناوينها من نمط ((ثأر)) الشهداء.. وهو عبث سياسي حزبوي فئوي مريض يستند لخطاب طائفي سياسي وليس إلى دين. فالدين حرّم (الثأر) والقانون حظر الانتقام  وجرَّمَهُ، فكيف لمؤسسة دولة حكومية رسمية ترفع شعارا  يستغل مفردة أو مصطلح ((ثأر!!))؟

إنّ ما تعاني منه البلاد من أزمات على الصُعُد الأمنية الاقتصادية الاجتماعية وفي الشؤون الخدمية والحقوقية العامة والخاصة إنما يعود إلى حقيقة واحدة؛  جوهرها طبيعة النظام السياسي الذي خضع لفلسفة (الطائفية السياسية) ولآليات، أسّها الرئيس الفساد بما أشاع نظاما كليبتوقراطيا من جهة وتضليلا كاذبا بالتحاف طاقية التخفي باسم الدين والادعاء بالتوجه لنظام (ديموقراطي!) يزعم معايشة المعاصرة والحداثة ولكنه بجوهره ثيوقراطي الحقيقة.. بينما برهنت التجاريب على التعارض التام بين النظامين الثيوقراطي والمدني وأن الخيار الأسلم بشكل حاسم ونهائي هو بناء الدولة المدنية ونظامها ورفض كل ما يمت لأنظمة انهارت منذ قرون ولفظتها البشرية بعد أن أطاحت بملايين بني البشر قرابين لآلتها الجهنمية!

وبناء على هذا، فإنّ كل عاقل لا يمكنه أن يقبل باستمرار وضع المواطن حجارة تتراشقها قوى الطائفية السياسية بلعبة تراشق الاتهامات وتكرار تمريرها الأزمات بمصالحات كاذبة وبخطاب إعلامي من الدجل والتضليل. والبديل الذي نقترحه، لا ينتقم من طرف ولا يثأر من آخر بل لا وجود بمعجمه لمصطلح الثأر والانتقام وهذا أول الغيث في المشروع المدني البديل.. ومن هنا إيماننا وحجيثنا الراسخ عن احترام التعددية والاختلاف وغنى التنوع وقبولنا الآخر في خيمة دولة مدنية تحتضن الجميع...

 

إنّ تحديد الجريمة وتشخيص المجرم مهمة تعود للقضاء ولآلياته بعد ترتيب مؤسسته بضمان الاستقلالية وإعداد الجاهزية من جهة مركب المؤسسة القضائية (القاضي والمحافي والادعاء) ولوائح المؤسسة القضائية والقوانين التي تشتغل بها دستوريا. وعليه فإننا نترك قضية التجريم للقضاء وليس لخطابنا قطعا. أما القضية السياسية المستعصية بالبلاد فهي مهمة نتشارك في الحوار بشأن معالجة موضوعية وبدائل تستثمر عقلنة الأمور وتحديثها ووضعها في إطار سلطة دولة مدنية، دولة مؤسسات وقانون.. ويتحمل فيها المسؤولية كفاءات ترقى لمستوى مفاصل العمل التخصصي من جهة ولمستوى توظيف النخبة الممتلئة وهي النخبة المدنية لا الطبقة الخاوية بالإشارة إلى طبقة تحالف ثلاثي (الطائفية الفساد الإرهاب) وممثليها من كل لون وصنف...

 

لقد عالجنا الموضوع الوطني هنا من جهات الاخفاقات الأمنية المريعة والاخفاقات السياسية الكارثية وهو ما لا يعني أن مستويات أخرى أفضل بل الانهيار الشامل يطفو على السطح وما عاد للأوضاع بالبلاد من دورة اقتصادية وإنتاج صناعي أو زراعي أو غيرهما ولا من بناء في الركائز الأساس ولا تلبية لخدمات عامة أو خاصة وكل شيء في مأزق تراجيدي كارثي: فماذا يتبقى من سبب ليتمسك من يدير الوضع بمركزيته المقيتة  بكرسي السلطة؟؟؟ أليس من العجب أن يقول مسؤول يُفترض أنه يبني دولة ديموقراطية: "أخذناها وبعد ما ننطيها!!"؟ أليس من العجب أن يدعي المسؤول الأمني الأعلى بالمستوى الوطني: أنه قضى على رؤوس الإرهاب وأن المعركة مع الإرهاب انتهت ثم يتكرر المشهد الدموي يوميا وبلا توقف!!؟ أليس من المأساة أن يتعرض شعب برمته للإبادة بمختلف الأسباب ويتهدده الموت المجاني يوميا ولا يرفّ لمسؤول جفن!!؟

ماذا يمتلك من يدافع عن وجود شخص بسدة الحكم وقيادة الدولة؟ هل مازلنا نعمل بتقديم الشخص على المؤسسة ومن ثمّ على الشعب؟ وهل من الصواب أن نضع الشخص فوق القانون؟ وهل من السليم أن نتمسك بالفرد (القائد) على الرغم من كل الكوارث والمآسي؟ وهل من المنطق  أن نعطِّل استثمار نظام الدولة المدنية في التداولية والتغيير؟ وهل من الصحيح أن نلغي إعلاء دور المؤسسة على دور الفرد؟ ولكي نشير إلى من نتوجه بأسئلتنا نؤكد أنها تتوجه إلى كل من يجيب بالمقلوب، إلى ذاك  الذي نراه في كل من يجادل دفاعا عن مسؤول يضع كل بيضه في سلته ، ليفرض على الشعب بأكمله أن يخضع لهذا الشخص؟ وتلكم علة العلل؟

فلنتجه جميعا للتغيير وللعمل بمنطق الدولة المدنية ولنرفض القبول باستمرار شخص على رأس مسؤولية ليس كفءا لها.. نحن هنا لسنا ضد هذا المسؤول لشخصه، ولكننا ضد برامجه التي فشلت وضد إدارته التي عجزت.. وليعتز من يعتز به شخصيا ويتشرف به ويتمسك به على رأس فئته أو حزبه لكن لا يفرضنَّ طرف على الشعب وجود تلك الشخصية بسدة القيادة.. الشعب أولى وأهم وأسبق بكل المستويات...

ومن أجل  المعالجة وتلبية الحل لابد من جملة إجراءات فورية عاجلة، تقوم على وازع ضمير وطني وعلى تغليب مصلحة الوطن والشعب ووضع الأولوية لها على حساب كل ما عداها...ولربما كان مفيدا التذكير بالمقترحات الآتية في إطار المعالجة الشاملة:

1. استكمال تشريع قانون انتخابات عادل وإقراره النهائي عاجلا بعيدا عما تم يوجري التحضير له من ألاعيب..

2. العمل من أجل سنّ قانون للأحزاب ينطلق من أسس الدولة المدنية ورفض تشكيل تلك الأحزاب على أسس عنصرية أو شوفينية أو دينية...

3. صياغة قانون مجلس الاتحاد الذي يعنى بشكل مباشر بالمجموعات القومية والدينية والمحافظات والإقاليم التي تذبح يوميا ولا يمكن الدخول إلى انتخابات حقة من دونه، إن قضية المكونات وأوضاعها ستبقى عقدة تخريب الثقة بين الأطياف وممثليها ما دمنا نكرر تشكيلة البرلمان من دون جناحه الرئيس الثاني ممثلا بمجلس الاتحاد ومن العبث دخولنا باتجاه نصف هيأة تشريعية..

4. أما المهمة الرابعة فهي ممثلة بمطلب تركيبة مفوضية الانتخابات وما يفترض أن تتسم به من النزاهة والاستقلالية الحقة وبما توافق عليه جميع القوى والحركات الوطنية من داخل البرلمان وخارجه ممن يؤمنون بالعملية السياسية وبالخيار السلمي للمسيرة.. إن اختيار المفوضية يلزمه حضور فاعل ومؤثر لمنظات المجتمع المعنية ولقوى الحركة الديموقراطية المبعدة خارج العمل المؤسسي العام.

5. إجراء إحصاء سكاني  شامل لجميع أقاليم البلاد ومحافظاتها.. مع توفير أسس إحراء الإحصاء من أدوات تنفيذية ومن نماذج مكتملة تأخذ بنظر الاعتبار معالجة ما اختلقته الإحصاءات السابقة من تغييرات ديموغرافية أو من اعتداء على الحقائق  والهويات الفرعية...

6. اتخاذ التدابير الإجرائية وخطوات التقدم الحاسم والنهائي باتجاه الحل.

 

إنّ مثل هذا الاتجاه هو ما ينبغي أن تستجيب له جميع القوى سواء بخيارها وقبولها التغير والانتهاء عن التمسك غير الموضوعي بالسلطة بالضد من مصالح البلاد والعباد أم  بفرض الحل بوساطة حركة شعبية واسعة مثلا النهوض بحملة وطنية  توجز أمور بالخطوات المشار إليها ويوقع عليها المواطنون في سقف زمني لا يتجاوز الأشهر الثلاثة. لأن حسم ترتيب تشكيل حكومة كفاءات سيكون جهدا تأسيسيا فضلا عن ترتيبات القوانين التي يُفترض وضعها برلمانيا. بخلافه فإن البلاد ستبقى اسيرة مطحنة الآلة الجهنمية لنظام الطائفية السياسية...

فهلا تنبهنا عاجلا للمسؤول الحقيقي عن الكارثة التي نحن فيها وأدركنا المعالجة الأنضج لأمرنا!؟