القضية السورية في أفق جديد!؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

عندما بدأت الثورة السورية كانت سلمية الأداء والمسار. ولطالما حاولت قوى الشعب الثائرة أن تحافظ على اتجاهها السلمي، على الرغم من محاولات النظام جرّها إلى العنف الدموي كعادته. ولم يفلح إرهاب الدولة الذي مارسته قوات النظام القمعية بمساعيها لجرّ الثورة باتجاه الأعمال المسلحة إلا بعد أن وظَّف قوى سبق أن درّبها على أعمال الإرهاب العنفية، وإلا بعد دخول قوى  متطرفة  لا تعرف سوى لغة الحرب وإشعال نيرانها!

في هذا الوضع، دخلت الثورة منعطف الصراع المسلح مضطرة؛ واعتمدت في دفاعها عن النفس على قواها المتواضعة من جهة العدة والعتاد معوِّلة على عدالة قضيتها وسلامة أهدافها واستنادها إلى إرادة شعبية واسعة وإلى العناصر الحية في  جهاز الدولة التي سرعان ما التحقت بالشعب وثورته لتشترك في الدفاع عن الهدف السامي ممثلا بإسقاط نظام الطغيان والاستبداد وإقامة دولة الديموقراطية وتلبية مطالب أبناء الشعب في حياة حرة كريمة.

وفي معادلة الصراع، كانت جبهة الشعب الثورية  تحت رحمة نيران طرفين؛ الأولى، طبعا، جسدها النظام وجيشه المدجج بأحدث الأسلحة وأكثرها فتكا حتى أنه أباح لنفسه في محاولات الخروج من مآزقه أن يستخدم الأسلحة المحرمة من قبيل النابالم ومن ثمّ السلاح الكيمياوي الذي استخدمه مرات ومرات كان أفدحها ما جرى في  الضربة التي وقعت واقعتها في  غوطتي دمشق العاصمة! وحتى أن هذا النظام المتهاوي اندفع لإدخال حلفائه الإقليميين في معاركه ضد قوى الشعب الثائرة.  وهكذا فعندما وجد النظام تمردا، من القوات المسلحة، على إشراكها في الحرب على الشعب وعندما رفض كثير من تلك القطعات  أوامر القتل العمد أوغل في الخنوع لقوى خارجية دخلت دفاعا عنه خارقة السيادة الوطنية سيادة الشعب في دولته. وهكذا وجدت الثورة السورية نفسها وجها لوجه مع قوات إيرانية سواء من فيلق القدس أم غيره ومع قوات مرتزقة مما يسمى (حزب الله) اللبناني ومن تسميات شبيهة لقوى العنف الإرهابية من (ميليشيات) عراقية وشيشانية وأفغانية وليبية وتونسية وجزائرية ومن إرهابيين من جنسيات أخرى مختلفة!!!

إنّ هذه الحال التي أوقعوا بها الثورة السورية هي محاولة لصنع فخ لإنهاء الثورة بدأت بجريمة النظام عندما جرّ الثورة للأنشطة المسلحة ولعسكرة الصراع  وعندما وسّعت محاولات النظام وقوى إقليمية معروفة حليفة له ذاك الفخ باستقطاب القوى الإرهابية للمعركة بين الشعب والنظام الأمر الذي فتح جبهة  دموية همجية ثانية ضد الشعب السوري وثورته قوامها ميليشيات الإرهاب  الإقليمية و\أو الدولية!

وهذه الحقيقة تؤكد أنَّ النظام الاستبدادي في سوريا صاحب مصلحة في توليد ميليشيات ترهب المنطقة وشعوبها وفي صناعتها وتأسيسها أو تشكيلها ودعمها المباشر وغير المباشر.. وهو بهذا الفعل الإجرامي غير مؤهل نوعيا جوهريا لا إلى ضرب تلك الميليشيات الإرهابية وتخليص الشعب منها ولا إلى التطهر من تحالفاته مع  قوى الإرهاب المحلية والإقليمية. إنّ صاحب المصلحة في وجود تلك القوى لا يمكنه أن يفكر بالقضاء عليها بخاصة في مرحلة محاولاته القضاء على الثورة.

من جهة أخرى يجب التذكير بأن بعض القوى الدولية  والإقليمية راهنت يوما على قوى الإرهاب (تلك) في صراعاتها كون (تلك) القوى ستنشغل جغرافيا بعيدا عنها من جهة في ذات الوقت الذي تلبي به بعض مآربها هنا أو هناك كما حصل في الصراعين الدولي والمحلي في أفغانستان وفي التجربتين العراقية والليبية، وربما عي تمارس ذات التجربة التي فسحت المجال أو جعلتها تغض الطرف عن انتقال تلك المجموعات المسلحة (الإرهابية) إلى الميدان السوري..

وبالمحصلة فإنّ ما يهم الشعب ، هو أنّ بقاء النظام لن ينقذه من القوى الإرهابية المستفحلة؛ فالنظام هو المصدر الأول لتلك القوى وهو المصدر الأول لجرّ الثورة إلى العسكرة. وبالمقابل فإنّ أطرافا دولية يحتمل أن تتدخل بضربة عسكرية (محدودة) لن تُسقِط النظام ولا تهزم القوى الإرهابية التي استفحل أمر وجودها في الميدان السوري برمته..

ففي المدن الخاضعة للنظام تنتشر ميليشيات تدعي حملها رايات (علي) بمختلف التسميات التي تبدأ بـ(حزب الله) ولا تنتهي بـ(ثأر الله) وأبو الفضل العباس وغيرها من التسميات الطائفية المعروفة تسويقا لوجودها وإخفاء لمآربها وغاياتها.. وفي المدن المحررة تنتشر ميليشيات ترفع رايات تدعي انتسابها إلى (عمر) بتسميات طائفية معروفة هي الأخرى تسويقا لمقاصدها وغاياتها. وكلاهما  رايات يحملهما طرف (واحد بجوهره) هو طرف القوى الظلامية، قوى التشدد والتطرف وإرهابه الوحشي الدموي الأبشع! والمعنى أنّ اللعبة قد نفذت من انتصار مؤكد للثورة الشعبية السورية [ولو مؤقتا] إلا أنها بهروبها المؤقت هذا فتحت السبل لترك مخلفاتها التخريبية البشعة تعيث بجرائم من نمط نوعي أسوأ، كما تشير إليها التجاريب القريبة في المحيط الإقليمي...

وبهذه الصورة المفضوحة، لم يعد الوضع مؤهلا لخيار العودة إلى (النظام) الذي بات ساقطا بعد أن قبل بتسليم السلطة على الأرض لقوى الحرب والتخريب الميليشياوية المافيوية، قوى العنف الدموي والاستغلال الأنكى عدوانية وجريمة. ولكن الجديد أيضا اليوم هو احتمال دخول قوى دولية كبرى بشكل مباشر ومرة أخرى بمنطق العسكرة واستخدام الأسلحة الأحدث والأكثر فتكا وتدميرا...!

فهل وقوع ضربة محدودة، مبرَّر ويمكنه أن يكون مفيدا للشعب ولثورته، بمعنى يمكنه أن يُسقط النظام؟ تلك القوى الدولية وقياداتها هي نفسها تؤكد أن الضربة لا تُسقط النظام ولا يوجد بمفرداتها أو نياتها [كما تقول] فكرة إسقاط النظام.. إنها مجرد (عقوبة) تأديبية (باسم المجتمع الدولي). وهي لا تتجاوز بهذه المهمة استعراض قوة بوجه النظام القمعي في سوريا، ترى أنه استعراض يفيد في تأديبه!!

بينما الحقيقة تقول: إن طبيعة النظام  لا تقبل مثل هذه القراءة أي أن تؤدبه ضربة محدودة عسكريا. فهو لم يرعوِ عن مواصلة القتل وعن الاستمرار بمجزرة أبادت أكثر من 120 ألف مواطنة ومواطن من المدنيين الأبرياء وتشريد أكثر من سبعة ملايين وتركهم في العراء والمخيمات عرضة لكل أشكال العذابات وجرائم الاستغلال والطحن الماساوي! وعلى الرغم من كل الضغوط الأممية لم يرتدع النظام ولم يتجه نحو تغيير فلسفته القمعية وآلياته العنفية الدموية في التعامل مع الشعب ومطالبه.. فهل ستغير بطبيعته (وتهديه) سواء السبيل ضربة محدودة لا تؤثر في وجوده حاكما مطلقا لسوريا!؟

إذن، لا النظام سيُنهي الإرهاب والعنف ولا الضربة المحدودة ستنهي النظام؛ وعليه فإن وقوع الضربة المحدودة أما ستدفع لمزيد إشعال نيران الحرب الداخلية الطاحنة وأما ستجرّ إلى مرحلة نوعية جديدة لعدم الاستقرار وربما لانتهاك السلم الإقليمي والدولي الهشّ..

أما البديل المؤمل فيكمن في موقف دولي فاعل وموحد يلجم من جهة النظام وعنترياته وجرائمه بخاصة منها استخدامه الأسلحة المحرمة، ويُحاصر قوى الإرهاب ويقطع عنها  شرايين الديمومة والحياة لينهيها مرة وإلى الأبد عن مواصلة جرائمها البشعة بحق الآمنين من الأبرياء وترويعهم وبلطجة وجودهم بفزاعات لا تقوى على الوجود والاستمرار لولا مصادر التمكين والدعم اللوجيستي المفضوحة من بعض الأطراف الإقليمية والدولية!

وهذا الحل يكمن في التمسك بوحدة القرار الأممي الدولي وبتخلي تلك القوى الكبرى عن نهج استغلال الأزمات ومواصلة صب الزيت في نيران الصراعات انتظارا للحظة مؤاتية لهذه القوة  الدولية أو تلك كي تحظى بحصتها من الكعكعة!!! بمعنى أن  تدرك القوى الكبرى تحديدا أن مصالحها ليست في  استمرار المحرقة وإنما في ولادة دولة جديدة دولة مدنية ديموقراطية ترعى مصالح شعبها وتتبادل معهم، أي مع القوى الدولية المصالح المشتركة على أساس الاحترام المتبادل والمساواة...

على أنّ هذا الحل لا يأتي في هذه المرحلة، إلا من خلال تعزيز تحالف قوى الحرية والسلام داخل كل مكون سوري وفي إطار مجمل المجتمع السوري شعبا قويا باحترام تعدديته، غنيا ثرّا بتنوعه، قادرا على تحدي مهام المرحلة الجديدة بفضل مثل هذه الوحدة بعيدا عن المصالح الحزبية الضيقة لهذا الطرف أو ذاك. وسيكون وجود التمثيل الموحد لكل مكون ولقيادة الشعب السوري وثورته أساسا راسخا مكينا متينا لمواجهة تلاطم الأمواج التي تسعى لغرف ما تريد من مآرب وغايات على حساب الشعب مفككا متناحر القوى!

وفي المحيط الإقليمي سيكون لجسور التحالف المستند إلى قوى التحرر والديموقراطية والسلام الأولوية في اختصار طريق الانتصار للثورة والتقليل من الآلام والفجائع الجارية. إن تحالف القوى التنويرية  مهمة رئيسة لا يجب تأخيرها بسبب مؤدلج أو تكتيكي بحت بل يجب تعجيل إنجازه للسبب الاستراتيجي الذي ما عاد يحتمل مزيد تلكؤ حيث حيوات الناس وحقوقهم ومطالبهم الأكثر إلحاحا تتعالى بصرخات المفجوعين بالجريمة الأبشع في عصرنا..

ولعل تلك التحالفات وجسور العون والدعم  لا تكتفي برعاية مصالح الشعب السوري وردّ جميله المعروف بل ستكون أيضا المصد لأية  تداعيات تنجم عن المستجدات في القضية السورية تحديدا هذي الضربة الدولية وطابعها الذي نراه بيّنا أمام أبصارنا وبصائرنا ما يظهر منه وما يختفي في رحم التحولات والمستجدات وعمقها...

فهلا التفتنا في الداخل السوري للحمة ووحدة لقوى الثورة وقياداتها المؤمنة بدولة مدنية ديموقراطية بديلة تحتضن مكونات الشعب جميعا وتعترف بحقوق مشروعة لتلك المكونات التي جرى اضطهادها عقودا مريرة...؟ وهلا التفتنا إلى أن زمن الانفراد بأمر لن يفلح وسيرتد في القريب كارثة على الجميع!؟

  وخارج الحدود السورية، هلا التفتنا إلى تمتين الجسور مع شعوب الجوار بخاصة بالاستناد إلى القواسم القومية المشتركة ولتلك القواسم التي تُعلي مصالح احترام الآخر فتجنّب الجميع مساوئ  المحتمل الذي تخبئه بعض القوى الداخلة اليوم، تقتحم المنطقة  لمآرب لا تقوم على مصالح الشعوب ولا على احترام خياراتها في السلام والتقدم والحياة الحرة المستقلة الكريمة...؟

والحليم يدرك ما ترسله المجريات القائمة وأفقها الجديد، من إشارات أو من تحذيرات، ليس سهلا إهمالها.