استغلال المنصب الرسمي العام؟!!

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  01 \ 15

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

ناقش مثقفونا وسياسيونا بالأمس القريب مسألة طفت على السطح وصار الناس يتحدثون فيها بألم؛ ألا وهي استغلال بعض الأحزاب لنفوذها لكي تحتكر  الوظائف العامة في الوزارة التي تتبع للحزب المعني..  وطفح الكيل عندما صار بعض ممثلي هذه الأحزاب يستغلون منصبا سياديا هو رئاسة مجلس الحكم ليطلقوا عقيرتهم بتصريحات غير مسؤولة تبرعوا بها سلفا وبغير مناقشات ومفاوضات واستشارات, تبرعوا بتعويض إيران عن حرب الطاغية من أموال الشعب العراقي وكأنَّ الثروة الوطنية العراقية صارت من الخزائن الخاصة لأولئك يتصرفون بها كيفما ترى أهواؤهم أو برامجهم الحزبية وميولها..

لقد تصدَّت الأقلام العراقية الشريفة لتلك الأفعال وعمل المناضلون العقلاء على وقف ما يسيئ إلى الوضع العراقي ويزيده تعقيداَ َ .. وعلى الرغم من الهدوء والروح السلمي الموضوعي غير المتشنّج الذي مورس في معالجة الأمور إلا أنَّ القوى ذاتها ذهبت بعيدا في منح نفسها صلاحيات إصدار القرارات وتمريرها في ليل أظلم هندس أو كما يقولون خارج الشفافية ومن دون سابق مناقشات علنية..

وحصل هذا عبر (توظيف) السيد عبدالعزيز الحكيم لرئاسته الدورية الشهرية لمجلس الحكم سواء بالتصريحات التي أطلق بها تبرعاته بتعويض الجارة إيران من أموال (خزائن صار مؤتمنا عليها مؤقتا) حتى يجري الانتخاب الحقيقي.. وها هو يمضي أبعد من ذلك إلى حيث يفاجئ شعبا بأكمله بقرار لا يقف عند حدود إشكالية الزواج فقهيا ولا يقف عند حدود إشكالية التعامل مع المرأة ومع الحقوق المدنية للإنسان ممثلا في نصف المجتمع ومن ثمَّ في بقيته ممثلة في مصاب العائلة بكلّ مكوّناتها بل يمتدّ إلى مصادرة رسم تشريعات مجتمع بأكمله في يومه وفي غده وما بعد غده ...

إنَّ تحديد مجتمع يضم إلى جانب الفقه الشيعي الفقه السني بــ (أربعة مذاهبه) ويضم أيضا المسيحيين بكل أطيافهم والصابئة والأيزيديين واليهود وغيرهم إنَّ جميع هؤلاء يخضعون لجرّة قلم السيد في مكتبه العتيد.. ولست أدري إذا كان قد ناقش مرجعية دينية شيعية أو سنية أو مسيحية أو غيرها وما إذا كان قد ناقش مرجعية سياسية في إقدامه على اتخاذ هذا القرار.. ولكنَّ ما أدريه هو أنَّ اتخاذ قرارات مصيرية تحدد حاضر شعبنا وغده لا يجوز أنْ تتمَّ كما كان يجري خلف أسوار مكاتب الطغاة حيث نمسي على وضع ونصبح على آخر بحسب أهواء الحاكم ومن دون سابق إنذار..

إنَّ أول أمر اليوم يجب وضعه في الحياة العراقية الجدية العامة والخاصة هو منع استغلال الوظيفة العامة أو تجييرها لأهواء شخصية أو ميول حزبية أو مذهبية.. فعراقنا يجب أنْ يتحرر من زمن القرارات الفوقية ولاتخاذ أيّ موقف أو قرار يجب مناقشته والاجماع أو الاتفاق بأغلبية  قبل التوقيع عليه, بل يجب أنْ يكون اتخاذ القرار تحصيل حاصل الحوار الجمعي يمتنع فيه الفرض والإكراه ويُحظر فيه على الشخصية العامة الاستغلال الفردي الخاص للوظيفة بحيث تكون مهمة الموظف العام مهمة تنفيذية لبرامج يجري إقرارها جمعيا وليس طبخها  خلف الكواليس وفي العتمة..

والأمر الثاني يجب أنْ يلتزم فيه أعضاء مجلس الحكم ورئاسته بالتحديد بالتداول والمناقشة الجماعية وبتجنّب كلّ ما لا يقع في صلاحيات المجلس ومن ذلك تحديد مستقبل العراق ووضع دستوره ومكونات أو أسس قوانينه وجوهرها كما هو الحال لقوانين الأحوال المدنية .. إنَّ المناقشات الجدية الحقة لم تكد تبدأ بعد فكيف بقوة من القوى أو شخصية من الشخصيات تحدد مسار القوانين وفلسفاتها .. ما هذه (الجرأة) أو (السمة) التي سمحت بمثل هكذا قرار؟! هل وصلنا إلى حدّ إلغاء الشعب نهائيا من حسابات القرارات فتركنا لأنفسنا صلاحيات توجيه فلسفات قوانيننا؟؟!

والأمر الثالث يخص هذه الشخصية التي تدور بين البلدان فتجاري إيران على حساب العراق في ظل ادعاء إنصاف المعتدى عليه وكأنَّ شعبنا العراقي المسالم هو الذي خاض الحرب على الجارة إيران وأنَّه لم يكن الخاسر الأول فيها.. وتجاري تركيا على حساب العراق في ظل ادعاء الحفاظ على الوحدة الوطنية العراقية وكأنَّ الفديرالية وخيارات لا ندري ما سيستقر عليه بشأنها شعبنا هي من الصعوبة على الشعب ومن السهولة على السيد وجماعته بحيث يطلق التصريحات التي لا تنسجم حتى مع الضرورة الدبلوماسية.. وما يخص شخصية السيد الحكيم على وفق ذلك حرصه على كلّ شئ إلا ما يخص العراق ومصالحه إنَّ العراق شعبا وأرضا هو الطرف الأضعف إذ يعتقد أنْ لا جهة من القوة تستطيع صده ووقف نهجه فيما يريد من وراء تلك التصريحات والقرارات..

ولقد عبرت النسوة العراقيات عن موقفهنّ عبر مظاهراتهنّ وها هم اليوم مثقفونا وسياسيونا يعبرون عن رؤى الشعب وردّ فعله.. وإذا كانت ظروف العراقي اليوم محكومة بانشغالات كثيرة خطيرة أخرى تمسّ حياته إلا أنَّه من المؤكد يعوّل على الأصوات النبيلة المدافعة عنه لكي ترفع الصوت في اللحظة الراهنة لوقف التجاوزات التي عبرت كلّ الخطوط الحمر.

ومن الخطورة بمكان أنْ يمرّ في مجلس الحكم أمر تحديد الدستور على أساس من موازين القوى داخله بخاصة ونحن نعرف وجود قوى عراقية كثيرة ما زالت خارجه من جهة وأنَّ خيار المجلس هو خيار وضع المسؤولية أمانة مؤقتا حتى يتمكن الجمع العراقي من أخذ قراره بالتراضي والتوافق عبر القنوات الديموقراطية الصحيحة المنتظرة..

ولم يرتقِ بعد مجلسنا الموقر حتى إلى مجلس وطني أو برلمان كامل الصلاحيات ليتخذ القرارات المصيرية الحاسمة التي ليست من صلاحيات برلمان بل هي من صلاحيات الشعب يُستفتى بها وعليها فقط... أما تقاسم وضع القرارات وإصدارها بمقايضة بين القوى أيّد ْني في هذا القرار وأؤيدك في ذاك فهو أمر لن يمضي من غير تعقيد الواقع العراقي أكثر مما هو معقد من أمسه ويومه.. إنَّ كلّ حزب وكل شخصية ممثلة له أو وطنية مستقلة تسكت اليوم على قضية كهذه إنّما يشترك في تعقيد الوضع وتشجيع التأسيس لأصول وقواعد خطيرة في حياتنا السياسية والاجتماعية المقبلة..

ولا أكون مبالغا إذا ما قلت إنَّ هذا القرار قد أشعل أول فتيل خطير في التخوف من إمكان السماح للأحزاب السياسية التي تقوم على أسس دينية وفوق ذلك طائفية بالعمل السياسي.. بل إنَّ كثيرا من كفاءءاتنا الموجودة في الخارج ومن فئات شعبنا من الطوائف والديانات غير الموجودة في الفقه (الخاص بالسيد الحكيم) قد ارتبك أمر عودتهم أو قرار عودتهم فإذا كان السيد لم يتسلم السلطة بعد وأصدر مثل هذا التشريع فكيف به إذا ما تسلّم السلطة؟ وبالمرة هذا يذكرنا أنْ لا حماية من هكذا توجهات استغلالية إلا الدستور الأمثل الذي يمنع اتخاذ القرارات خارج المؤسسات التشريعية المنتخبة وخارج إجماع الشعب بأطيافه المختلفة المتنوعة بما يضمن حقوق الجميع ولا يتجاوز على حق لطرف...

وبعد فلا يمكن إلا أنْ يعلن النبلاء من ابناء البلاد غضبهم لامتهان أصواتهم وتجاوزها والامتناع عن سماع مشورة أهل العلم والتصرف الفردي كما كانت بلادنا وفي الوقت الذي ساندنا فيه مجلس الحكم أداة مؤقتة ورفضنا أقوال من نمط ذهب دكتاتور وجاء أكثر من عشرين ننتظر أنْ يبرَّ ممثلو الأحزاب الوطنية ويتقدموا ببرنامج عمل واضح لا لبس فيه يقرون بأنَّ صلاحياتهم تتمثل في التحضير للدستور والتحضير لمؤسسات الديموقراطية والتحضير للانتخاب واستفتاء الشعب في مصيره لا غير وفي الاستجابة للحاجات الضرورية القصوى المباشرة .. وبخلاف ذلك فإنَّ كلَّ شئ ينبغي أنْ يكون من قرارات الشعب القادمة بصوته لا بصوت من يرى في نفسه في مكتبه ممثلا للأغلبية أو لقسم أو لجزء من غير تخويل أو صلاحية..

 

1