انتخابات لرسوخ خيارات السلام والديموقراطية ولتبنّي دروب التقدم وبناء الدولة المدنية

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

هذي الانتخابات وإنْ كانت تغلي مراجلُها وتنفعلُ هنا أو هناك؛ إلا أنَّها الانتخابات التي تؤكد روعة  مشهد المنطقة الأكثر استقرارا في محيطها شرق الأوسطي بعامة، بكل المؤشرات الدولية التي تقرأ الأوضاع؛ وكذلك بتلك الطمأنينة التي يحياها أبناء كوردستان الجديدة. ومن هنا يأتي التنادي الذي أجمع عليه الكوردستانيون.. في الحزم مع أية حالة عنف فردية تظهر أو تطفو سواء عن قصد للتخريب والتشويه أم عن انفعال وتصاعد حمى التنافس وما يفتعله بعضهم بوجه قوى حركة التحرر القومي الكوردية وحلفائها في البناء وصنع التقدم ومسيرة السلام، بخاصة هنا من قوى تيارات (إسلاموية) تتخفي بالدجل وتستغل تضخيم الثغرات أو الحفر في مناطق الضعف للصعود على الأكتاف!

إنَّ قوى حركة التحرر التي قادت مرحلتي الثورة الظافرة والبناء، هي ذاتها التي انتصرت للثورة بالوصول بها إلى برّ الأمان وهي ذاتها التي صنعت السلام وفتحت بوابات التوجه نحو الديموقراطية، وهي بالتأكيد القوى التي تمكنت من التأسيس لبناء ركائز الدولة المدنية ومؤسساتها لتمضي اليوم باتجاه الانتخابات، واثقة من جماهيريتها ومن خيار شعب كوردستان ثابتا راسخا لها في ضوء ما تحياه كوردستان من بهاء الاستقرار الأمثل وسط جغرافيا العنف وتداعيات الحروب التي تطحن بشعوب دول الجوار!

ولابد هنا، تجاه بعض الأحداث الفردية ولكنها أحيانا الصادمة، من التنبه إلى ضرورة أعلى درجات ضبط النفس تجاه (الاستفزازات) التي تصطنعها بعض عناصر عنفية تابعة لهذه القوة أو تلك؛ مما ربما يشوِّه المشهد المشرق؛ فتستغله قوى معادية أو منافسة انتخابيا.. فضلا عن ضرورة ضبط النفس من قوى التنافس الديموقراطي كيما تتواصل مسيرة بهية بروعة الوعي السائدة وسط شعب كوردستان مع إدراكه العميق لقضية الاستقرار التي سطعت بعيون جميع من يتابع مسيرة الحياة وتفاصيل يومياته بكوردستان الجديدة.  ولعل ضبط النفس في الأنشطة الانتخابية هو سمة أخرى تقطع الطريق على أية حالة تشويه أو تضليل مما تعتاش عليه قوى الظلام للعب داخل المشهد الانتخابي. بينما الصلابة والقوة  التي تستند إليهما القيادة التاريخية لكوردستان التحرر القومي تتمثلان في الحكمة والهدوء والموضوعية والركون للعمل لا لزعيق العنف وتداعياته...

في الجانب الآخر لما يؤكد رسوخ الخيار الشعبي لقيادته التاريخية هو أنه خبر هذه القيادة بمرحلتين مرحلة الثورة وثباتها المبدئي على الرغم من أعتى آلات الحرب وأقسى التضحيات؛ ومرحلة البناء والتقدم وصواب الاتجاه نحو خيار دولة مدنية لا دولة ثيوقراطية للعبث ولاستغلال الناس بطريقة مرضية عبر خطاب ما ورائي غيبي يَعِدُ المواطن بدنيا الغيب وجنان في السماء فيما يبتزونه في الأرض ويسلبونه الإرادة والعيش الكريم إذا ما جاؤوا للسلطة.. وأمثلة هؤلاء من ممثلي تيار (الأسلمة) السياسية يمكن أن يراه الكوردستانيون في نموذج بغداد وسوريا وحكم الأخوان بمصر الذي انهارت في ظله كل الأحوال الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، الأمنية وغيرها...  ولولا وعي الشعب المصري واسترداده سلطته بموقف حازم من جيشه الوطني لكانت الأمور ربما أسوأ من المشهد السوري الذي يتعرض فيه الشعب لمطحنة رحاها النظام الاستبدادي وقوى إرهابية تدعي  التدين والدين من هؤلاء جميعا براء...

تؤكد هذه القراءة، أنَّ الكوردستانيين اليوم باتوا على دراية تامة بلعبة أحزاب الإسلام السياسي الأخوانية وغيرها. فهي أحزاب طائفية سياسية مرضية المآرب والمقاصد؛ لا قدرة لها على تقديم رجال دولة ولا رجال تخصص علمي مهني للبناء في أيِّ قطاع بقدر ما لديها من دعاة دجل وفكر تكفيري ظلامي.. يشاغل الناس بقضايا غيبية ويهمل قضاياهم وتفاصيل مطالبهم الإنسانية بأرض الواقع.. ولهذا يعرِفُ الكوردستانيون حجم التضليل في خطاب تلك الأحزاب واستغلالها بعض الأمور الهامشية للحطِّ من الآخر الذي ضحى وبنى وهو يتقدم اليوم نحو آفاق نوعية جديدة لحياة حرة كريمة.. وتلك الحركات [المعارِضة] لا تستطيع العيش من دون أن يكون الأمر معتمدا التضليل والعمل على أكتاف الغير وعلى حسابهم وعلى حساب الشعب ومصالحه!

إن معالجة موضوع الانتخابات اليوم تقوم على دراسة دقيقة  لآليات إجرائها من قبيل التمسك التام بالقانون وسيادته وفرض تسلسل الخطوات الإجرائية السليمة، بأجواء من النزاهة والشفافية والرقابة المحلية والدولية؛ الأمر الذي تمّ ويتم بانسيابية تامة، وبمعاضدة منظمات مجتمع مدني وفتح عيونها بدقة وموضوعية وحيادية تقترب من النموذج بخاصة مع وجود طابع الاستقرار من جهة ومشاركة أممية دولية في متابعة خطوات تلبية إجراء الانتخابات من مرحلة التحضير حتى الانتهاء وفرز الأصوات في وقت قريب لاحق... كل هذا مما يحسب لحكومة كوردستان ولقيادته كونه يجري بسلامة ونضج ومراعاة لمبدأ احترام القانون وإعلاء شأنه...

الأمر الآخر في معالجة موضوع الانتخابات اليوم هو الحملة الانتخابية التي جاءت من طرف قوى حركة التحرر القومي وقيادتها التاريخية هادئة ناضجة؛ تستثمر وعي الشعب وإدراكه ونضج خياراته وحقه في الأداء بحرية تامة.. كما تستثمر الأداء القانوني من جهة ودقة البرامج التي قدمتها بين يدي الشعب. وهنا فهي لا تقدم الأوهام  وتعهدات مجانية لجنان في السماء ولكنها تؤكد حرصا يقينيا ثابتا راسخا على العناية بكل تفاصيل اليوم العادي للمواطنة والمواطن. كما تتعهد بمواصلة مسيرة التقدم نحو مزيد من الآليات الديموقراطية من الجهة السياسية ولمزيد من فعاليات بناء مؤسسات الدولة المدنية ومنحها صلاحياتها كاملة مع تطوير فرص الأداء والإنتاج من جهات أخرى..

وإذا كانت قوى بناء الدولة المدنية قد دخلت منفردة مستقلة توكيدا لحق الخيار والتنافس الديموقراطي واحتراما للتعددية والتنوع، فإنَّها لم تترك تعهدها في العمل يدا بيد من أجل تكامل البرامج وتعزيز وسائل البناء والتنمية في المجالات الصناعية والزراعية بتنوعاتها وفي تعميد مسيرة التحديث في التعليم بمراحله الأولية الأساس والعليا الجامعية والتخصصية المهنية. وفي جعل موضوع التعليم  وتحديثه وإدخال نظم جديدة من أفضل ما وصل إليه عالمنا المعاصر كيما يكون وسيلة بناء الإنسان الكوردستاني لتخصصات تلائم مسيرة بناء كوردستان الجديدة، كوردستان الحرة، كوردستان التي تجسد جنة  شعبها بكل أطيافه ، جنته الواقعية البهية في الأرض حيث الإنسان مستخلف عليها لإعمارها لا ما تعرضه قوى أخرى من أوهام امتلاكها صكوك الجنة ومفاتيحها  ادعاء يفتري على الدين مثلما يحاول الكذب على الناس!!

إنّ مراجعة أولية للشعارات المطروحة والأولويات التي اختارتها قوى التحرر القومي والديموقراطية ستؤكد أنها تبنَّت الإنسان وإعمار الذات وإغناء الأنفس وإثراء العقول بمزيد من الاهتمام بالمعارف والعلوم عبر مراكز البحث العلمي وعبر الجامعات والمعاهد والمدارس التخصصية والتأهيل والتدريب والتمكين المتصل المستمر. وهذا الاهتمام وتلكم الأولوية تعني أن رأس المال الأهم والأبرز لقيادة كوردستان هي الإنسان لتأتي الثروات المادية الطبيعية منها والمُنتَجَة بطاقات العمل فتوزّع على الشعب.. ربما ليس آخرها صرف رواتب (الضمان) حتى لغير القادرين على العمل والعاطلين لأي سبب موضوعي ما يضمن حياة كريمة للمواطنة والمواطن..

وباختيار محور آخر لنمعن النظر في خيار الموقف من المرأة، نصف المجتمع العامل لا المعطل، نصف المجتمع الفاعل المؤثر لا السلبي المحيّد بل المستلب المُصادَر كما يرد بفكر ظلامي لتلك القوى التي تدعي أنها البديل.. وإذا كانت المرأة الكوردستانية  عانت بالأمس من الضيم والظلم من تقاليد بالية فاليوم يمكن أن يعود ذلك من [معارضة] التأسلم الطائفية السياسية، لا الدينية بجوهرها، فهي التي كانت تمارس التقتيل وفرض البالي من التقاليد على المجتمع فما بالنا لو جاءت إلى السلطة!؟ إنها ستكون كارثة على المجتمع لأنها ستصادر التفتح والتنمية والتقدم وتفرض قسرا ظلامياتها التي تدعي زورا وبهتانا لصقها بالدين!!

إنّ عجز قوى التخلف والظلام عن تقديم برامج العمل والبناء يدفعها لتقديم برامج قمع المجتمع وحرياته  ومصادرة الحقوق المدنية.. ومنها استلاب المرأة حقها في الوجود الحر المستقل وفي المشاركة بعمليات البناء والتقدم بالمجتمع الكوردستاني الغني بقيمه الإنسانية الوضَّاءة البنَّاءة...

من أجل ذلك، ينبغي التذكير حتى لتلك القوى المحافظة التقليدية في المجتمع الكوردستاني، بأنَّ اختيارَها قوى ظلامية تدعي (إسلامويتها) يعني خسارة فرصة ممارسة الحياة بطريقة إنسانية سليمة.. وسيجري انتهاك حرماتها وقيمها بطريقة خطيرة وستفاجأ بمن ربما تختارهم لمجرد تعويلهم على تقديم بعض شخوص يظهرون التديِّن ولكنهم لا  يملكون أدوات العمل والإنتاج بمستوى دولة مدنية معاصرة. بينما في ظل الدولة المدنية الديموقراطية فقط لاغير يمكن للجميع أنْ يتعايش وأنْ يعملَ بحرية وأمان وبلا قمع.. وأن يجدوا فرص الدعوة لما يروه صائبا. بمقابل ضياع فرصهم في العمل الحر الآمن المكفول دستوريا قانونيا يوم تأتي قوى تدعي تمثيل الله على الأرض افتراء وكذبا، مدعية إسلامويتها زعما كاذبا ولكنها ما أن تكسب صوتا حتى تستغله ليكون منبرا لظلامياتها وما أن تكسب منفذا آخر وسلطة حتى تسفر عن حقيقتها وتقمع الشعب بعنفها المعهود بكل التجاريب التي رأيناها للإسلامويين في دول الجوار والدول الأبعد وقريبا هناك على مرمى حجر ببغداد حيث لا ماء ولا كهرباء ولا خدمات ولا صحة ولا تعليم ولا أي مفردة من مطلب سليم قويم!!! فهل هناك من يريد التجريب؟ يومها لن ياتي سوى بالضيم والتراجع والتخريب!! فاحذروا من اللعبة والفخ...

في ضوء هذه الحقائق عرضنا للأمور بمقابلة ومقارنة بين القيادة التاريخية لحركة التحر القومي الكوردية ومن يمثلها في العملية الانتخابية وبين بعض المعارضين الجدد أو أولئك الذين استندوا لخلفية إسلاموية دَعيِّة جوهرها الطائفية السياسية ومآرب وغايات ليس من بينها فعليا أيّ مصلحة للشعب..

نحن وأغلب المحللين السياسيين، نثق بأنَّ خيار الكوردستانيات والكوردستانيين سيصب لمصلحة قيادته التاريخية ومعها كل قوى التمدن والديموقراطية، قوى التحرر والبناء والتنوير، حيث التعددية والتنوع هنا وليس خارج هذا الإطار فخارجه لا يوجد في الساحة سوى قوى للعب والعبث ولجرّ الأوضاع ليلحقوها بما يحيط بكوردستان من جرائم ومشاهد دمار وأزمات!

ولكن، ربما بعض فئات مجتمعية بخاصة من المحافظين (ربما) ظنوا تحت وطاة الدعاية والتحميس واستغلال العواطف والصلات القرابية والعلاقات المباشرة وضغوط من أنماط مختلفة، ربما تولدت عندهم غشاوة أو وقوع تحت تأثير تلاعب بمسميات تغيير وحراك واتحاد فيما التغيير والتجديد هنا لا يكمن إلا مع مواصلة مشوار البناء واعتماد برامجه الإصلاحية الجديدة، وفيما الاتحاد المكين هنا لا يوجد إلا مع وحدة الجموع وتلاحمها مع قيادة ثورتها وقيادة مسيرة التنمية والتقدم..

في هذا الفضاء ستعلو كوردستان وبقيادتها الغنية بروح ديموقراطي مدني وبرامج بناء وانعتاق ستتقدم لتحتضن مزيدا من خطى التنمية التي تحوِّل هذي الجبال من جديد إلى غابات الخير وتعمّر هذي الميادين والقرى  لتصبح مزارع ومصانع للإنتاج الوفير ولتشمخ تلك المدن الكوردستانية بجامعات ومراكز بحث علمي تحتضن قدرات العقول المنتجة للمعارف والعلوم هنا بكوردستان الجديدة..

موعدنا معكم صبيحة الانتخابات، لا تنسوا عمقكم وجذركم حيث الثورة وتاريخها المجيد، وحيث القوة التي يمكنها أن تقدم رجال الدولة، رجال البناء وتعميد مسيرة التقدم والتنمية.. لا تترددوا ولا يشوش عليكم تضخيم مثلبة أو ثغرة أو حاجة فتلكم تعالج وتأتي بمواصلة البناء لا بالالتفات إلى الوراء وليس باختيار قوى العودة إلى فكر ماضوي  يستمد منطقه من ظلاميات الكهوف أو من صراعات مفتعلة..

خياركم اليوم الثابت الراسخ لقيادة التحرر القومي الكوردية، يعزز مسيرة الاستقرار ويعلو بتلبية المطالب ويغنم الانتماء للعصر والحداثة ويكسب احترام شعوب الدول المتقدمة ويسجل هدفا باتجاه إشادة كوردستان الحرة الجديدة بعيدا عن تجاذبات المحيط وتاثيراته السلبية تحديدا.

خياركم اليوم ينتمي للديموقراطي إنسانا ومفهوما ينتمي للعصر ومنطقه وللكوردستاني ينتمي للهوبة الإنسانية متجذرة بجبال شماء منتصرة بأهلها المتنورين.. ويجمع مصطلح الديموقراطي والكوردستاني حشدا حقيقيا وطيفا واسعا من الوجود الذي خبرتموه وعرفتموه وجربتموه واخترتموه وتواصلون السير بدروب  العطاء بتلاحكم وإياه.. لا تترددوا في البحث بين تنوعات وقوى البناء والتقدم والسلام والديموقراطية والدولة المدنية من أجل الدقة والموضوعية والسلامة والصواب.