استراتيجيات تشكيل الحكومة الكوردستانية

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

مع انتهاء الانتخابات الكوردستانية تتجه الأنظار نحو تشكيل الكابينة الجديدة، وأمام مثل هذه المهمة نجد كثيرا من المحاور التي تنتظر الاستجابة والتفاعل إيجابا من جميع  الأطراف المعنية بتشكيل الحكومة. ومبدئيا تستند هذه المهمة إلى جملة أمور منها ما أظهرته النتائج الانتخابية ومنها ما يتعلق بالخلفية التاريخية لمسيرة شعب كوردستان منذ التحرير والانعتاق من نير الدكتاتورية وعسفها وطبيعة العلاقات الحزبية السائدة والاتفاقات المعقودة، فضلا عن بعض العوامل الأخرى من التأثيرات الداخلية والخارجية.

وأبرز القضايا الكبرى والاستراتيجية المؤثرة في تشكيل الحكومة، تكمن أولا في أنّ الأوضاع في كوردستان لا تنطوي على اختلافات طائفية دينية؛ إذ تسود المجتمع الكوردستاني حالة من الانسجام والألفة وروح التسامح ووطيد التفاعل إيجابا بين مكوناته كافة. ففي ثقافة مدنية متفتحة راسخة انعكست في النتائج الانتخابية عندما اختار الشعب القوى المدنية بنسبة جوهرية حاسمة، لا توجد معضلات بخلفية طائفية أو عقد ومشكلات دينية. ولطالما نحا أبناء الشعب منحى يقوم على احترام الآخر وعلى مشاركته طقوسه واحتفالاته وتقديس الحقوق والحريات للآخر. وقد جاء هذا من تلك الثقافة المدنية العلمانية التي تحدثنا عنها ومن روح التسامح والإخاء والتعايش بأسس السلم الأهلي ومن تقديم مبدأ المواطنة والانتماء لكوردستان على أيّ مبدأ آخر للانتماءات الفرعية.

وطبعا هذا بخلاف ما نراه في بغداد من تمكن قوى حزبية بعينها من غرس الخلافات وإثارة النعرات الطائفية وفرض فلسفتها على نظام الحكم وعلى تشكيل الحكومة. وهو الأمر الذي طالما أثار التعقيدات وعرقل أيّ حال من الاستقرار. على أنّ القوى والحركات الدينية في كوردستان تدرك معنى اختيار شعب كوردستان للقوى المدنية وتحديدا للمكانة المميزة لقيادته التاريخية، ممثلة بالديموقراطي الكوردستاني. ومن ثمّ فهي لا يمكنها أنْ تذهب بعيدا في اختلاق ضغوط ومطالب ليس لها أرضية تقبل التداول مثلما الحال ببغداد...

وإنّ توجه تلك الحركات لأمور مطلبية  لا يمكنه أن يرقى لمستوى مطالب سياسية تصل مثلا للمشاركة الرئيسة المؤثرة ولا نقول مطالبتها بتوجه (ديني ثيوقراطي) لنظام الحكومة. إذ  لا حجمها يؤهلها لمثل هذا المطلب ولا طبيعة المجتمع الكوردستاني بقابل بهذا الاتجاه... كما لا يمكنها أن تطالب بصيغة محاصصاتية على الطريقة الطائفية في بغداد.. من جانب آخر تعرف تلك الحركات أنّ ما تعكزت عليه من وعود بشأن قضايا مطلبية لن يسعفها في الصلات الجماهيرية الضاغطة لأن امتدادها محدود ولأن حقيقة تلك المطالب هي مجرد أوهام أو خطاب تضليلي، إذ الواقع أن الحكومة الكوردستانية تسير بخطى ثابتة نحو مزيد من المنجزات التي لبَّت وتلبي المطالب الواقعية للشعب.

إنّ شعب كوردستان يجد نفسه بكل مكوناته ممتلكا للحريات بخاصة منها تلك المتعلقة بحريات المعتقد الديني من جهة وفي ممارسة طقوسه الدينية من جهة أخرى. ولا توجد لديه أية مشكلة بهذا الخصوص. والحماية متوافرة ليس للمسلمين حسب بل لكل أتباع الديانات الأخرى  ومنها المسيحية والأيزيدية وغيرهما من متنوع الانتماءات الدينية والمذهبية. وهو أمر جد طبيعي في بنية دولة مدنية تؤمن بضمان حق المواطن في الاعتقاد وفي ممارسة الطقوس...

إذن فقضية الخلفية الدينية الطائفية لا وجود لها وهي قضية بعيدة عن أجواء كوردستان. ولن يكون لها وزن يذكر في الحوار من أجل تشكيل الحكومة. ومن ثمَّ فالاستراتيجية المكينة هنا بكوردستان تكمن في ثبات التجديد الذي منحه شعب كوردستان لقيادته في تبني مسيرة بناء الدولة المدنية ومؤسساتها، خارج إطار التأثيرات الخاصة بالتوجهات الثيوقراطية  التي تحيط إقليميا بكوردستان سواء ببغداد أم طهران أم أنقرة أم حتى في سوريا التي تحاول بعض القوى سرقة الثورة وتوجيهها توجيها ثيوقراطيا ظلاميا على طريقة دول القرون الوسطى المنقرضة! وعلى هذا فإنّ تشكيل الحكومة سيركز بقوة على بنية مدنية لا تخضع لأية ضغوط لحركات الإسلام السياسي وإن مارستها تلك القوى فإنها غير قادرة على التأثير الحقيقي الملموس.. بخاصة في ظل ضمانات واسعة الانتشار والعمق للحريات المتعلقة بالمعتقد والطقوس الدينية.

القضية الاستراتيجية الأخرى التي تحكم التوجه نحو تشكيل الحكومة، تتعلق بالقضايا الاقتصادية؛ والخطط التي ترتبط بموضوع التقدم بمسيرة البناء. وهنا لابد من الإشارة لنجاحات مهمة تحققت في ظل الكابينة الأخيرة بخاصة في مجالات استثمارية متنوعة غير المجال العقاري. بالإشارة إلى قطاع الطاقة والركائز البنيوية، الأمر الذي يتيح للحكومة أن تتشكل بتركيبتها التي حققت النجاح وببرنامجها مع تعزيز تبني مفردات ورقة الإصلاح المعروفة.

وفي الاتجاه ذاته، فإن استمرار الكابينة الحالية، أمر جد مطلوب ومنتظر كونها أدت دورا بنيويا مهما في مجال الاهتمام بتحديث التعليم  بوصفه الأساس الاستراتيجي الأهم والأبرز في توفير البناة الحقيقيين لمجتمع جديد، ينتمي للعصر وأدواته ومعارفه وعلومه.. إن موضوع الاهتمام الاستراتيجي الثابت بالتعليم ومنه التعليم العالي سيبقى المفردة البرامجية الأوضح مما تنتظره الحكومة الجديدة.. بصيغة أخرى فإن القضية الاستراتيجية الثالثة المؤثرة ستكون قضية التعليم وتحديثه وتبني برامجه الأنجع عالميا.. وهذه قضية تتفق وما  تضمنه برنامج  الكابينتين الأخيرتين، وكذلك مع الحركات المدنية الفائزة بالانتخابات وعلى رأسها الحزب الديموقراطي الكوردستاني.. ما يساعد على اتفاق منهجي في استقرار وسرعة حسم الموضوع  باتجاه تأليف الكابينة الجديدة.

فإذا انتقلنا إلى القضية البارزة الأخرى استراتيجيا في مؤثرات تشكيل الحكومة، فلن تكون سوى القضية السياسية تحديدا بإطار بناء العلاقات الحزبية التي تمتلك أرضية اتفاقات سابقة أو التي تتطلع لتغييرات تتلاءم والمستجدات التي أفرزتها نتائج الانتخابات. وبجميع الأحوال، كان الدرس الانتخابي قد قال: إنّ تلك العلاقات ليست هي السر وراء الفوز والتراجع، الأمر الذي ارتبط بطريقة الأداء لكل حزب وحركة وليس بعلاقته أو اتفاقه مع هذا الحزب أو ذاك. ومن هنا فلا يمكن التفكير بكسب الشارع من خلال الضغط الحزبي على موضوع تشكيل الحكومة. إنّ تأليف الكابينة يبقى قضية إجرائية تجسد النتائج من جهة وتعكس البرامج التي تتبنى مسيرة التقدم والتنمية.. ومن هنا فالاستراتيجية الأوضح هنا تكمن لا بموضوع نسب المشاركة الحزبية وطبيعتها بل في طبيعة البرنامج الحكومي ومتابعة تنفيذه. ولن يكون من مصلحة أيّ طرف أن يناور ضاغطا لحصاد (حصة) على حساب المصلحة العامة.

وبهذا لا تحيل التوقعات والقراءات السياسية إلى إشكالية معقدة في مسألة تشكيل الحكومة، من جهة تضاغطات العلاقات الحزبية بل يتأكد يقينا الدور الإيجابي لفهم القيادات الحزبية لحقيقة التعاضد بنائيا بكل ما يتعلق بالتشكيلة الجديدة بعيدا عن حجم المقاعد الحكومية.. إذ هذا التعاضد هو  ما ينأى بالوضع عن أي تداعيات سلبية تحيط به، وهو ما يجعل تلك القوى تربح الصوت الشعبي عندما يراها تقدم مصالحه على المصالح الضيقة الكامنة في الحصص الحزبية من المناصب والكراسي.. ومثل هذا يقدم درسا مضافا مؤملا تنهض به القوى الكوردستانية الأنضج وعيا والأغنى برامجيا، في المحيط الفديرالي والإقليمي برمته...

ولابد من التذكير أن كوردستان التي تجد نفسها في علاقة فديرالية مع بغداد، ووسط محيط إقليمي  متفجر بالحروب وبانعدام الاستقرار، لا يمكنها أن تشتغل بمعزل عن هذا المحيط. ومن هنا فإن القضية الكبرى المؤثرة الخامسة ستكون تأثيرات الخارج الإقليمي والدولي. وما فيه من امتدادات مصالح مشتركة وجسور وعلاقات متبادلة، ليست جميعها مما يقع في الإيجاب. وهذا الأمر يبقى بحاجة لأن تأخذ التشكيلة الحكومية بنظر الاعتبار تلك المصالح المشتركة موضوعيا بما يجعلها تصب في دعم كوردستان بأفضل المنتظر المؤمل.. مثل هذا يؤشر بوضوح نحو من يمكنه تشكيل الكابينة الجديدة وكيف يمكنه تحقيق ذلك وعلى وفق أية تركيبة وأية برامج بخاصة منها ما تريده كوردستان من علاقاتها الخارجية مرحليا واستراتيجيا.

وإيجازا يمكن إجمال المؤثرات في التشكيلة الجديدة للحكومة الكوردستانية ممثلة في عوامل داخلية وأخرى خارجية فأما الداخلية فتتمثل في النتائج الفعلية  للانتخابات وفي خيار شعب كوردستان للاتجاه العام  المدني ولتشخيص من وضع بيده الأغلبية التي تقود الإدارة للمرحلة الجديدة وتجديد العهد مع تلك القيادة. إلى جانب طابع البرامج المنتظرة بنيويا حيث ورقة الإصلاح تبقى بيد من بادر بها وأخرجها لحيز التطبيق والعمل  حيث يبقى الأجدر بالاستمرار والمتابعة فيها.. أما خارجيا فستكون للعلاقة مع بغداد ودول الجوار والتضاغطات الوافدة منها، مناخات تحتاج الحكومة بل أمر تشكيلها نظرا عميقا تمتلكه القيادة الكوردستانية في رسم التصور الأنسب للتعامل والتفاعل مع الآخر، بعيدا عن الهزات الراديكالية ورياحها...

وما ينبغي توكيده هنا، يؤكد على عمق الوعي الكوردستاني للدروس التاريخية ومنع المقامرة مهما كانت المناورة الضيقة ذات ضجيج سياسي إعلامي جذاب لدى حزب أو آخر، فالاستراتيجي المؤمل هو تعزيز مكاسب كوردستان ووجودها الفديرالي وسط تهديدات خارجية وأصابع داخلية ربما تشكل صدى للتهديد، ما يتطلب سرعة الحسم  في تشكيل الكابينة في ضوء النتائج الانتخابية وتجسيدا لإرادة شعب كوردستان وعلى وفق أسس تعميد العلاقات الداخلية في الظرف الراهن.

كما تجدر الإشارة إلى تركيبة الكابينة التي ينبغي أن تعتمد من جهة التكنوقراط والعقل العلمي الكوردستاني وأصحاب التخصص والمهارة والكفاءة ومن جهة أخرى قيادة سياسية تستند إلى خيار الشعب الذي وضعه في الفائز الأكبر وبمساندة جدية تامة من القوى والمكونات الكوردستانية المدنية الأخرى مع تجنب وضع أية اشتراطات في عدد المقاعد وطبيعتها أو فرض الاشتراطات المسبقة الخاصة بأفق المستقبل. فكل قضية ينبغي أن تؤخذ بمحدداتها باستقلالية امنع إخضاعها لشروط خارجها، وبهذه الفلسفة ستكون التركيبة المختارة نموذجا جديا مميزا، في طريق البناء والتقدم والتنمية. وتلكم من الموضوعات التي تنتظر معالجات أكثر دقة وأعمق وأكثر دراية بتفاصيل الأمور الجارية. الأمر الذي نعد بمعالجة أخرى فيه.