الأمن عراقيا إقليميا بين الخيارات وطبيعة برامج إدارة الحكومة الاتحادية وتبادل التأثير إيجابا وسلبا

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

بدءا لابد من التأكيد على ترابط حلقات وجود المجتمعات والدول في تفاعل بعضها مع بعض. ولذا فإنّ الأمن لا يبقى حصرا داخل حدود الدولة. والأمن ليس مهمة محصورة بأجهزته المختصة، ولكنّه أبعد من ذلك يظل بحاجة لوعي مجتمعي شامل وتكاتف في الجهود بين عديد الفعاليات النوعية في إطار الدولة. ومن هنا فإنّ الدول التي تجابه مشكلات أمنية، وتعقيدات ظواهر الإرهاب والانفلات الأمني وخروقات للمافيات والعصابات المنظمة لقوى الفساد ولصراعات قوى سياسية مختلفة تستغل المشكلات لمآرب وأطماع حزبية بعينها، إن مثل هذه الدول بحاجة لبرامج مركَّبة ربما تبدأ بالإعلام وخطابات التربية والتعليم والثقافة ومنظمات المجتمع المدني والخبرات الوطنية والدولية إلى جانب تحديث الأجهزة وتدريبها والارتقاء بمستويات الجهد فيها مع دعم فعلي بمستويات المعلوماتية المخابراتية الاستباقية وتوفير الأدوات والأسلحة والعناصر النزيهة الكفوءة مع برامج علمية ناضجة...

كل هذا مجتمعا يظل غير فاعل إذا لم يربط بعضه ببعض بطريقة منسقة مدارة موضوعيا وبتفكير قيادي يمتلك الاستراتيجيات والتكتيكات المناسبة لكل حلقة أو محور بعينه. وللقيادة أن تدرك أنّ خططها السياسية الشاملة لا يمكنها إلا أن تعدم كل شيء أو تعاضد كل شيء بحسب الاتجاه الذي ستسلكه. وفي الحال العراقية؛ حيث يعتلي السيد المالكي كرسي قيادة الحكومة (الاتحادية) ويجمع بين يديه حصرا كل المسؤوليات القيادية المخابراتية والعسكرية للدفاع والداخلية والأمن الوطني مع تكليف عناصر الصف القيادي الأول والثاني التابعة مباشرة لتوجهاته والمنفذة لأوامره، في هذه الحال ينكسر أول معالم صواب التفكير القيادي وإدارة الملف الأمني بكل محاوره الخارجية والداخلية.. إذ لا يعقل في عصرنا أن يحصر شخص كل هذه المهام الكبرى بين يديه، وأكثر من ذلك فإن قيادات الصفين الأول والثاني ليسوا سوى أدوات تنفيذ لإرادة فردية وأوامر القائد الأوحد!!

إنّ هذا المدخل يطيح بإمكانات الحركة والتفكير بصواب وموضوعية في إعداد الخطط الميدانية العملياتية أو في وضع الاستراتيجيات ولم يفعل مثل هذه السياسة الانفرادية سوى طغاة قلة في التاريخ كان لهم خصوصية في إدارة العمليات الحربية القتالية والأمنية التي أدت إلى نتائج وخيمة دائما، مثلما حصل مع نيرون وروما أو هتلر وبرلين. ولا يتكرر أولئك الطغاة وإمكانات فعلهم والظروف المتوافرة لهم الأمر الذي ينجم عن محاولة التقليد الآلي الوقوع في هاوية غير معلومة المستقر تنفلت فيها الأوضاع إلى تداعيات، كوارثها غير محدودة وغير معروفة النتائج...

ومثل هذا نراه في الحال العراقية عندما نطلع على تداعيات الخراب وأشكال الدمار التي تفاجئنا كل يوم بجديد لا نعرف له تفسيرا سوى خطل الافتقاد إلى استراتيجيات سليمة وإلى تكتيكات تتجاوب مع تلك الحال. ولقد كشفت الخطط التي أديرت من القيادة العامة عن عدم وضوح في الرؤية وعن قصور لا يقف عند حدود النظيمية عندما حصر الصلاحيات بين يديه انفراديا بل وفي العلاقات الدولية حيث اتجه إلى روسيا لشراء طائرات بموديلات قديمة لا تتناسب وكفاءة تلك التي تمتلكها دول الجوار وهي لا ترقى لمهام قتالية مع المجموعات الإرهابية ولكنها يمكن أن تكون مؤلمة وقاسية فقط عند استخدامها ضد مجموعات أومكونات في العراق الفديرالي وهذا يعني أنها أسلحة ليست لضبط الأمن الداخلي ولا لحماية الأمن الخارجي أو السيادة والحدود العراقية مع دول الجوار ولكنها يمكن أن توجه ضد أطياف عراقية إذا ما احتدم خلاف بخاصة في ظل توجه خطاب الحوار السياسي لاستخدام الجيش والتشكيلات المصطنعة خلافيا مثلما حصل بتشكيل قوات دجلة على سبيل المثال بالضد من كوردستان وشعبها وقيادتها  ومثلما استغل قوات الجيش في عمليات الحويجة ضد المعتصمين! والأمثلة كثيرة لا حصر لها!!

ولكن أين خطط التسليح الاستراتيجية؟ ما طبيعتها؟ ما العقيدة القتالية التي تؤمن بها؟ كيف سيجري التنقل بين العقائد القتالية الشرقية والغربية بحسب الأسلحة المتوافرة؟ ولماذا لم يطالب إيران باسترجاع الطائرات التي بقيت (أمانة) لديها حتى يومنا بلا احتمال لعودتها وكلفتها ربما تقارب الملياري دولار...؟ وعند التوجه إلى الأسلحة الشرقية لماذا يتراجع (السيد القائد العام) فيشتري نوعيات كان الجيش العراقي تركها مثلما تركتها الجيوش الحديثة؟ ولماذا لم يطلب أسلحة ميدانية من روسيا مثل تلك التي يطلبها من الولايات المتحدة وهو يدري أسباب رفض الأخيرة تسليحه بها؟

بالأحرى كيف يُعقل طلب سلاح من دولة وهو يدخل في حلف مباشر وغير مباشر مع دول تتقاطع معها إقليميا.. بصيغة أخرى كيف يُعقل طلب سلاح قتالي متقدم من أمريكا في وقت يقيم علاقات متينة مع إيران ويسمح لها جهارا نهارا وبطرق ملتوية في احيان أخرى لتمرير أسلحة للنظام السوري ولحزب الله المحظور دوليا من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية؟  ليس من تفسير لهذا الأمر سوى في إدراكه النتيجة وإصراره على ممارسة لعبة واضحة المسار والهدف؛ إنها لعبة إيقاع البلاد بمزيد من المآزق والمشكلات والتعقديات (الأمنية)...

وكيف تدار معركة مع الإرهاب وقواه، في وقت تدار السياسة العامة بأسس الانفراد بالسلطة من جهة وتعميد الخطاب الطائفي السياسي، بل الحزبي الضيق بمقدار البحث عن حاشية محدودة وعناصر موالية وخاضعة لسياسة المحسوبية ولآليات نظام كليبتوقراطي من جهة وطائفي مرضي يعتمد أداء ميليشياوي، تصفوي في علاقته بالآخر يستغل الفرصة تلو الأخرى للإيقاع بحلفائه وإنهاء وجودهم بمختلف السبل.. ؟؟؟  كيف يمكن للمعركة أن تدار وهي تثير الشحن والتوتر وتوفر الأرضية خضراء مريحة لتوسيع نطاق من يتبنى التمترس الطائفي أمام ضغوط خارجة عن الإرادة تصطنعها السياسة الحكومية المدارة بقيادة منفردة...؟؟؟

إنّ أي عامل لتبادل الثقة يطاح به مع كل مفردة يمكن البحث فيها للوصول إلى تصور بناء للحلول الأمنية المناسبة.. فلا السياسة العامة ولا برامج الإدارة العليا أو قيادة الحكومة (الاتحادية) ولا تفاصيل بنيوية من جهة التدريب وتوافر الكفاءة ومن جهة التسليح وتوافر النوعية المناسبة ولا اتجاه العلاقات الإقليمية والدولية بمهيأة كيما يمكن بناء الأساس المكين لحل أمني مناسب. هذا طبعا غير أن هذا الحل لا يكمن في عنف الدولة المنفلت المفرط والعشوائي على طريقة الاعتقالات التي لا تستند لقانون ولا لإجراءات قضائية والضربات المتقصدة لمناطق جغرافية مختارة ليست بالضرورة هي الصحيحة في مطاردة الإرهابيين ولكنها المختارة من (القائد) العام لأسباب طائفية أو لجهل في إدارة المعركة من قبل قياداته التنفيذية ولسوء في التخطيط...

إنّ الخيارات المتاحة للعراق تكمن في عمقه الإقليمي الحقيقي المعروف جغرافيا تاريخيا، وسياسيا من دون التورط بنظم تحالفات على طريقة حلف بغداد أو ما يشابهه، سواء جاءت تلك الأحلاف بتعدد الدول أم ببنية ثنائية على طريق التحالف غير المسوغ مع النظام الذي يحكم الجارة إيران.. وربما كان التنسيق مع جميع دول الجوار من بوابة مشروطة بمحددات بعينها يأتي بتأثيرات إيجابية ويمكنه أن يوفر للبلاد فرص الانشغال بمسيرة بناء بدل البحث في إشعال خلافات واحترابات مثلما يجري عبر التحالف مع نظام سوريا الذي لفظته الأحداث والمجتمع الدولي بسبب القمع الدموي المهول للشعب السوري وثورته!

إنَّ الأسس الطائفية للتحالفات لن تأتي للمنطقة بأي استقرار بل ستشعل مزيدا من الاحتقانات وستكون مقدمة لمرحلة تالية من العداء غير المبرر.. ولكن تلكم هي التخبطات التي أوقع العراق بها انفراد السيد المالكي بالقرار. والسيد المالكي يدرك هذه الحقيقة ولهذا التجأ إلى قوى إقليمية وإلى الرئاسة الأمريكية كيما تدعم عودته لولاية جديدة مقابل أمور لم تُرْضِ الأطراف المعنية بطلب الدعم. ومحليا سيكون عليه أن يقبل بتنازلات كبيرة لمصلحة إدارة دستورية مؤسسية وجماعية لاستراتيجيات العمل قبل أن يحظى بأي اتفاق. وربما كان من الصائب الاحتكام إلى الصوت الانتخابي الوطني من جهة والمواقف المشرفة التي باتت قوى كثيرة تؤمن بها وتتجه لتلبيتها عمليا بعدد تردد اصابها طوال السنوات المنصرمة..

إذن فالقضية الأمنية بحاجة لتغيير جوهري في السياسة العامة من الطائفية إلى الوطنية ومن تبني مستتر يمرر بصمت لمؤسسات الدولة الدينية أو آلياتها إلى  بناء فعلي لمؤسسات الدولة المدنية مع معالجة جدية نوعية جوهرية للفساد حيث بات العراق يحتل الأولوية عالميا بما يعني تشكل طبقة كريبتوقراط (فساد) وتشكّل أوليات نظام الفساد (الكليبتوقراطي) .. إن إدارة دفة الأمور مجتمعيا بطريقة جديدة تتطلب ايضا إطلاق خطة بناء اقتصادي لكل من الصناعة والزراعة بحركة استثمارية كبرى وتشغيل قوة العمل المعطلة فعليا أو بصيغ مقنَّعة!

وطبعا بناء علاقات إقليمية ودولية متوازنة صحية وصحيحة تقوم على التعايش السلمي وتطمين العلاقات البناءة وفتح الجسور مع دول المنطقة كافة بصورة سليمة.. لا تقوم على خطاب الشحن والتلفيق وافتعال الاحتراب.. ومن ثم ستأتي المسألة الأمنية إجرائيا حيث التفاعل وطنيا وأوله منح فعالية أكبر للخبرات الوطنية العسكرية المخابراتية الأمنية والتفاعل مع كوردستان وقوات البيشمركة والأسايش لكي تساعد في حفظ الأمن وليس تشكيل قوات لتهديد كوردستان أو اختلاق الاحتراب والمشاغلة السياسية معها...

بهذه الطريقة سيكون لشعبنا فرصة العيش بأمن وأمان وإلا فإنه سيبقى محكوما بلعبة الموت المجاني اليومي التي تشارك أطراف إدارة الحكومة التي تنفرد بهذه الملفات بالجريمة أو على اقل تقدير يمثل فشلها وخطل برامجها سببا ينكب العراقيين يوميا ليس بالموت والخراب بالتفجيرات حسب بل بفقدان الأمن الغذائي والأمن الصحي والأمن الثقافي وكل اشكال الأمن الأخرى إذا ما أردنا التفصيل!! فهل سينظر الشعب بوضوح إلى السبب الحقيقي وراء افتقاد الأمن؟ وهل ستقف القوى الوطنية موقفا حاسما حازما من هذه الأوضاع المزرية التي وصلت بالشعب إلى حضيض الكوارث والنكبات!!؟؟

تلكم أمور ستحسمها التفاعلات المحلية والإقليمية في المدة القريبة القادمة لكن ما ينبغي للقيادات هو شديد الحذر بعد أن مُنح السيد المالكي فرصا كثيرة آذت الشعب بكل أطيافه وربما هذه المرة ستهدد مناطق جديدة بالاشتعال، والحذر واجب....