مؤتمرُ أصدقاءِ برطلة أداةٌ مضافةٌ لمحاولةِ رسمِ خريطة طريقٍ، لحلِّ قضيةِ التغيّير الديموغرافي

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

محاولات عديدة نهض بها الناشطون في الدفاع عن حقوق أتباع المجموعات الدينية والمذهبية وأبناء القوميات من الذين سيموا عذاب مصطلح أقليات تهميشا ومصادرة واستلابا للحريات والحقوق. ومما يهمنا التركيز عليه اليوم هو محاولة جديدة مضافة من هذه الكوكبة الواعية التي تحمل هموم أبناء الطيف العراقي بمختلف ألوانه. تلك المحاولة التي تنادوا فيها لعقد مؤتمر (أصدقاء برطلة) بشأن دراسة التغييرات الديموغرافية: الأسباب والنتائج وسبل المعالجة.

وبدءا ينبغي التذكير بأنّ هذه المحاولة انطلقت تأسيسا في تعاطيها مع ما مرت وتمر به (برطلة)  ومحيطها من ظروف مخصوصة شديدة الوطأة وكبيرة الوجع في مجرياتها. وساهم في مهمة المبادرة أعضاء من هيأة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق، في مسعى لتعزيز العمل بملف الهيأة بشأن (التغيير الديموغرافي) وفي تفعيله عبر التخصص وعبر جذب قوى جديدة وأنشطة وفعاليات تصبّ في اتجاه معالجة جوهرية مؤملة...

ومن هنا فإنّ المهمة النبيلة هذه، ليست جديدة في طرحها؛ فلقد ساهمت القوى والحركات السياسية والحزبية وقوى مجتمع مدني واسعة في تناولها، بخاصة هنا القوى التقدمية والكوردستانية على وجه التحديد. وفي إطار دور الجامعات ومراكز البحث العلمي، يجري، على سبيل المثال لا الحصر، التحضير لدراسة علمية أكاديمية بجامعة ابن رشد في محاولة لاستقراء دقيق ربما ينتهي بنتيجة ذات أهمية عملية ميدانية.. وطبعا سبق لقوى مدنية بالمستويين الوطني العراقي والكوردستاني  أنْ فعّلت محاولاتها بالخصوص..

الجديد في انعقاد هذا المؤتمر؛ أنه يعتمد الدراسات الموضوعية  الأحدث لمجريات الظاهرة  ومناقشة القضية في أبعادها  القانونية، السياسية، الاجتماعية بكل تفاصيلها وربما نجح المؤتمر في توحيد الجهد المخصوص من أجل المعالجة الحاسمة...

ولهذا السبب ربما توسع التناول من نموذج (برطلة) وما يجري في فضائها المكاني إلى شمول قضية التغيير الديموغرافي في أرجاء الوطن وبمختلف الفئات والمكونات العراقية سواء مما يُسمى أقليات أم من غيره. ففي النهاية ستكون القضية واحدة وتُوْقِع المجتمع بأزمة التقسيمات المناطقية التي أُخْضِعت للتطهير القومي، الديني والمذهبي بما يغير صورتها ويجعلها صورة أحادية في إطار كانتونات سهلة الضبط من قوى تعادي الوجود العراقي بمستوييه الوطني من جهة والإنساني بجوهره الغني بتنوعه، مما ثبَّته الدستور بالبناء الفديرالي من جهة وباحترام التعددية والتنوع بفهم ديموقراطي يؤنسن وجودنا.

ويمكن للقارئ في هذا الشأن، بسهولة، الوصول إلى آخر الأنباء التي تشير إلى ما جرى لعوائل تنتمي لمسمى قبلي بعينه وإكراههم بالتهديد وبإيقاع جرائم القتل، على الرحيل من المناطق ذات الغالبية المختلفة مع انتمائهم المذهبي.. ويجري منذ أسابيع إعادة تفعيل جرائم الترحيل القسري بإيصال رسائل التهديد للعائلات التي تقيم في محيط طائفي مغاير. وجرت جرائم تصفية لمن لم ينفذ ما ورده من أمر بالرحيل، وقد حدث هذا في ضواحي بغداد وفي ديالى وفي محافظات أخرى مثل البصرة والناصرية....

القضية هذه تجري بقوة إرهابية واحدة في جوهرها ألا وهو الجوهر الطائفي المتشدد بجناحيه التضليليين سواء الزاعم سنيَّته أم المدعي شيعيَّته، والمذهبان وأتباعهما براء من فلسفتهما السياسية المتطرفة الخرقاء التي تقوم على إلغاء الآخر ومحاولة مصادرته أو تصفيته بجرائم الاختطاف والاغتصاب والاغتيال والقتل الجماعي...

الكارثة الأبرز والأشمل هي تلك التي وقعت وتقع بحق أتباع المجموعات الدينية التي ساهمت بإشادة تاريخ العراق القديم والحديث. وهؤلاء مثلما نعرف سويا تعرضوا للتصفيات التي تدخل بتوصيف جرائم الإبادة الجماعية...

وقد وقعت واقعة سوميل في ثلاثينات القرن الماضي ثم فرهود اليهود في أربعيناته وتعاقبت الجرائم بحق الكورد والكورد الفيلية في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته. وضمنا كانت هناك تصفيات بأساليب أخرى حيث تم حظر تسجيل الأسماء القومية والدينية وجرى تغيير الانتماء القومي والديني في الإحصاء الوطني الشامل مثلما وقع بحق المسيحيين بكل أطيافهم...

اليوم ومنذ التغيير الذي  أعقب سنة 2003 تصاعدت جريمة منظمة جديدة؛ تتمثل في  تطهير المحافظات الجنوبية والوسطى من أتباع الديانات. فجرائم الاختطاف والاغتصاب ودفع الجزية أو الفدية وتغيير الديانة وقتل رجال العوائل الصابئية المندائية ومحاربتهم في ميدان عملهم المعروف وسرقة ثرواتهم ومصادر رزقهم ومثلهم التعرض للمسيحيين بذات الجريمة أدى إلى إفراغ البصرة والناصرية والعمارة وغيرها من المحافظات من هذين الطيفين ومن غيرهما!!

جرى مثل هذا على مقربة من نقاط التفتيش والمراكز الأمنية وبمرأى من الجهات التي يُفترض بها حماية الناس وأمنهم ومصالحهم. بل وبتواطآت مفضوحة أحيانا في ارتكاب الجريمة أو في الطمطمة المكرورة على نتائج التحقيقات. حتى أن مراكز الشرطة المحلية عادة ما تنصح المواطن المبتلى بعدم تقديم شكوى إذ أنها ستقيد ضد مجهول وفي أبسط مأزق سيقع عليه أنه سيتعرض للفصل العشائري بعد أن يكون صدر القرار بعدم ثبوت اتهام، هذا غذا لم تتم تصفيته وليس من مغيث ومنقذ......!!!

لم يستطع الصابئة المندائيون ولا المسيحيون مقاومة الهجمة التصفوية الدموية وهي بسمات جريمة إبادة جماعية صريحة سافرة، فلا وضعهم العددي ولا انتشارهم وتوزعهم بين الأغلبية العددية للآخر كانت تهيِّئ إمكان المقاومة بالتحديد في ظرف لم تكفّ السلطات المحلية والاتحادية يدها عن الدفاع عنهم بل ساهمت عناصر في تلك السلطات بالجريمة بسبب الخروقات وغيرها.. وأسوأ من ذلك أنَّ الوعي العام وفعاليات التضامن الشعبي كانت دون المستوى المطلوب لأبسط أشكال التضامن، الأمر الذي تحاول مثل هذه المؤتمرات تعديله وتصحيحه...!؟

ولعل مشهد الاختطاف والاغتصاب والإكراه لتغيير الديانة لا يختلف كثيرا عما يجري بحق الأيزيدية والشبك وغيرهما في الموصل وبعض مناطق مازال القانون والسلطات الاتحادية تماطل في حسم الموقف من كوردستانيتها... وحيثما وجدت القرى والقصبات ذات الكثافة السكانية بطيف عراقي أصيل ممن يختزلونهم بمصطلح أقلية، عاث الإرهاب والترويع والجريمة التصفوية فسادا وأوقعوا أشد الجرائم فتكا لتحقيق مآربهم تحديدا في تغيير هوية تلك القصبات والمدن والضواحي ..

وينبغي التذكير هنا بأن جملة من الأمور تتضمنها حملات التغيير الديموغرافي حيث مازال تعريفه ينحصر مكانيا، فيما يلزم القول: إنّ الأمور وإنْ تحددت بالأرض ومن يسكنها فإنها أيضا تتعلق بجملة إجراءات أخرى من قبيل محق الممارسات الطقسية المخصوصة والفلكلورية والثقافية حتى أن أبناء المجموعات الدينية لا يستطيعون الصلاة في المندى أو الكنيس أو الكنيسة.. وقد طاولت أعمال الهدم والإزالة كثيرا من دور العبادة والمعالم والشواخص الأثرية وجرى ويجري التغيير على قدم وساق دون موانع.. وأيضا لابد من التذكير بتغيير الأبنية والدور العتيقة بحجج وذرائع واهية، فضلا عن الحرمان من الاحتفال الحر مخصوص الهوية، وبدلا من ذلك يضطر بعضهم للمشاركة في طقوس عامة لديانة أخرى متظاهرين بممارسة قد لا تعبر عن إيمان الأغلبية من تلك المجموعة الدينية أو المذهبية ما يشكل ليس استفزازا حسب بل انتهاكا فظا وسافرا يحيل إلى تغييرات سمات الأماكن من خلال تغييرات بشرية.. قد يكون الطاغية استغل التغيير شكلا في الإحصاءات السكانية، إلا أننا  نجدهم يمارسونها بكل مدياتها الأخرى حياتيا في تفاصيل اليوم العادي...

كما نرصد في هذه الجريمة أنشطة لأجهزة الحكومة تترصد طائفة بعينها عبر "المداهمات والاعتقالات العشوائية التي تجري اليوم على قدم وساق في العديد من المناطق البغدادية مثل السيدية والدورة والمحمودية والأعظمية والغزالية، من قبل الأجهزة الأمنية هي جزء من مخطط تهجير العوائل وبث الرعب بينهم، وهي تجري دون حساب أو رقيب" وقد بلغ عدد المهجرين على الهوية (الطائفية) ما يقارب المليون ونصف المليون!؟

هذه أرقام كبيرة! لكن الأخطر منها ما يتعلق بالمسيحيين بمختلف أطيافهم والمندائيين والأيزيديين فهذه المكونات صغيرة الحجم تشكل الأرقام الأولية لما جرى لهم  نِسباً كبيرة وكارثية تعني إعدام سمة المجتمع العراقي في التنوع عندما نعرف أن ما يزيد على 80% من الصابئة المندائيين قد رحلوا إلى المهاجر القصية ومثلهم نسبة أكثر من 66% من المسيحيين قد تم تهجيرهم قسرا من وطنهم التاريخي الأم.

وكل ما يبثه الإعلام لا يقف عند كونه بوقا تضليليا حسب بل يدخل في سياق طمس معالم الجريمة التي تحدث يوميا أمام أنظار قوى الطائفية السياسية التي تتناهب الغنيمة التي تحاصصتها في سياق حلف كليبتوقراطي للتحكم بالكرسي والسلطة.

الاستثناء الوحيد هو كوردستان التي يلجأ إليها هؤلاء المكتوين بنيران الإرهاب المقصودين بها لهويتهم القومية أو الدينية.. وهم هنا بحماية وأمن وأمان إلا أننا بتنا اليوم أمام مشهد آخر لجريمة مجرم لا يمارس جريمته بالمسدس والمتفجرات في الوسط والجنوب حسب بل هو يعمل بخطط وبتمويل من قوى إقليمية ومحلية سطت على مجمل الثروة الوطنية للشعب وباتت تمتلك قدرات الشراء والمتاجرة واختراق مناطق ما كان يمكن اختراقها لولا المال السياسي الفاسد.. والخطورة تكمن فيما تفضحه هذه اللعبة من دور بعض قوى أحزاب الإسلام السياسي مع مجرمي العصابات المنظمة والمافيات  والميليشيات المتطرفة...

هنا بات القانون وحده لا يكفي لأنه أما مفصَّل بطريقة يمكن التلاعب به أو يجري وقف تطبيقه بطرق ملتوية عديدة وطبعا بوجود غطاء سياسي صار مكشوفا ..  والرد المنتظر يكمن في الآتي:

 

1. اعتماد قانون وطني عراقي موحد يأخذ بنظر الاعتبار الإحصاءات السكانية تحديدا للعام 1957 والمتغيرات الطبيعية غير المصطنعة في الواقع حتى إحصاء 1977. وتبني إحصاء حديث شامل يعيد الحقوق لأهلها..

2. تفعيل تنفيذ القانون بسلطة مركبة بين دور القضاء من جهة واستناده إلى القانون وبين الاستماع إلى صوت المكونات مهضومة الحقوق ومطالبها الميدانية.

3. إيجاد دراسات علمية أكاديمية تستند للبحث العلمي وبإشراف مراكز البحث والجامعات، بالتنسيق مع القراءات الميدانية والتاريخية للموضوع.

4. عقد مؤتمر سنوي وانبثاق لجنة متابعة من الخبراء والمتخصصين تكون ذات سلطة استشارية فاعلة لكل من البرلمان والحكومة، وربما غيجاد دور رقيب بمؤسسة مدنية..

5. تجتمع اللجنة كل ثلاثة أشهر وعند الضرورة للمتابعة العملية لما يتحقق. وتعلن الأمر على الملأ بكل تفاصيله.

6. يمكن للجنة أن تتشكل من قسمين رسمي برلماني وحكومي وشعبي من منظمات المجتمع المدني، بخاصة هنا هيأة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب وما سينبثق عن مؤتمر أصدقاء برطلة والجهات النظيرة.

إن قضية التغيير الديموغرافي ستظل تؤرق المجتمع وتؤذيه وتطعنه في الصميم حتى يتم حسمها نهائيا بفضح من يقف خلفها ومآربه المرضية الخبيثة وبتفعيل قانون وطني إنساني الجوهر وثقافة تشيع التعايش والإخاء والمساواة وتمنع حدوث التغيير على وفق الشرعة الدولية والقوانين المحلية المرعية.

أتطلع وكل الخيرين لنجاح أعمال مؤتمر برطلة الذي تستضيفه كوردستان بقيمها وروعة خطاها ومسيرتها الناجحة وبجهود الذين تنادوا من أجل المعالجة الجدية والرد الحازم والحاسم ..