الصوت الانتخابي بين واجب المشاركة ومعانيه

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان

tayseer54@hotmail.com

 

موسم انتخابي مبكر ينطلق اليوم. فمعظم الأنشطة والتصريحات تتركز في هذا الموضوع ومحور قضيته الرئيسة. وإذا كان بعضهم يريد من وراء هذه اللفتة تمييع الأجواء باتجاه لفلفة الأمور وإبعاد الأنظار عن واقع الحال من مشكلات وحياة مزرية تطغى على وضع المواطن المغلوب على أمره؛ فإنّ بعضاُ آخر يحاورُ من منطلق محاولة التأسيس لوضع نوعي مختلف يضمنُ ممارسة انتخابية تغادر سلبيات ما سبق منها في الدورات السابقة.

القضية باتت صارخة في فجاجة استغلالِ مؤسساتٍ حكوميةٍ لمصلحةٍ فردية لزعامةٍ تتفرّدُ برأسِ الحكومة أو لمصلحة جهة حزبية أو لجهة حركة أو تيار! حتى أنّ بعضَ الزياراتِ الخارجيةِ لأعلى مستوياتٍ رسمية طفت فيها تعليقاتُ قادةٍ سياسيين لتؤشر بحثها في تأثيرات هذا الخارج لاستعادة مركز أو مواصلة استئثار به!! وفيما الانتخابات وطنية أو قضية عراقية داخلية، تتصل بعض قيادات ظهرت بعد العام 2003 بقوى أجنبية لتستقوي بها وتحظى بممالأتِها ودعم ترشحها لولايةٍ جديدة!

وهكذا فإنّ انطلاقة الموسم الانتخابي لا تفضح ما يريدون التستر عليه حسب بل تفضح الارتباطات والامتدادات الخارجية الدولية منها والإقليمية.. بالإشارة هنا إلى ما اكتنف زيارة وفد عراقي عالي المستوى لدولة إقليمية وما أفضت تلك الزيارة عن تصريحات وما سُمّي منجزات لا تكاد تسدّ قيمة ما خُطّ من أوراق أو أجور الرحلة ذهابا وإيابا! ما يعزز تلك الاتهامات التي تناولت الزيارة واقتصارها على طلب الدعم الانتخابي لولاية جديدة!؟ إلى جانب ما تفضحه معركة كشف الحساب بين بعض القوى المصطرعة على تقسيم الغنيمة!!

 

وعلينا بعد هذه التوطئة أنْ نكتشفَ، كم سيتحمل المواطن البسيط من ضغوط إعلامية دعائية وحروب سياسية ومعارك انتخابية من قبيل تصفية الحساب؛ حيث التسقيط السياسي واستغلال النفوذ من المال السياسي مرورا بأشكال الارتباطات الخارجية والدعم الأجنبي حتى نصل المناصب الحكومية وتوزيعها وتجييرها بطريقة خرقاء؛ عادة ما كانت على حساب المواطن ولمصلحة المتطاحنين على (الكرسي) الذي كان ينبغي أنْ يكون أداة الدولة المدنية للبناء وتقديم الخدمات، فصار أداة  البلطجة ومصادرة الحياة الحرة الكريمة واستعباد الإنسان بقيود انتمائه لكانتونات الطوائف وقادتها وسطوة ميليشياتهم!

هنا وبكثافة واختصار تؤكد التجاريب: أنّ المواطن هو من يمكنه فرض خيار التغيير. لكنَّ الأغلبيةَ الصامتةَ تمارسُ أداءً ((سلبياً)) بصمْتِها ذاك وتسمح لمن يشارك بدوافع مصطنعة مفتعلة أنْ يقرر لها من يتحكم بحيواتها ومصائرها. وهذا المشارك انتخابياً بتلك الدوافع المرضية أما يخضع لشراء صوته بالمال السياسي القذر، أو يستسلم خانعاً لبلطجة مافيات وميليشيات وعصابات منظمة أو لكليهما معا..

وبالنتيجة فإنّ من يأتي هم  نفس وجوه باتت تتحكم بالمشهد عبر لعبة قوة الطاغية وقدرته على فرض استبداده لا تأتي إلا على أكتاف الخانعين الضعفاء وطبعا بشرط وجود الأغلبية الصامتة أي السلبية في أدائها وتفاعلها، على طريقة نصِفُها بالعراقي المحكي الدارج أو تجسدها عبارات: الشعلينة لازم وآني مالي شغل بالسياسة أو احنا ياهو مالتنة وأريد أعيش أو أدبّر لقمة عيش لأطفالي وما شابه من تبريرات يدرك قائلها قبل غيره عدم صوابها...

ما يصبح مطلوبا منا كافة وجميعا، لتغيير هذي الصورة النمطية السلبية بل الكارثية التي ماجلبت لنا سوى البلاء والمآسي، هو ((تسجيلُ أسمائِنا في قوائم الانتخاب وتوكيد حقنا في اختيار من نضعه في سدة قيادة السفينة والربان الذي سيدير مقودها ويضع خارطة طريق للوصول إلى موانئ السلامة)). وكلّ صوتٍ يتخلف عن التسجيل ومن ثمّ عن التصويت والاختيار هو مواطن مستسلم خانع يقبل لنفسه أنْ يكون مجرد كيس يتمترس خلفه الفاسدون للاستيلاء على المناصب والمسؤوليات وتحويلها إلى كراسي سلطة قمعية استبدادية لا يعنيها من أمر المواطن شيئا سوى استغلاله لمآربها وجعله بيدقا في حروبها (الطائفية)  الأداة التي يتمترسون بها للبقاء في سدة حكم فاسد استبدادي، وبالمقشر العراقي هو من يدري بأنَّ هذا الفساد سيمَسَّهُ في ضميره وشرفه ووجوده ويغض الطرف عنه بسلوك النعامة...!!؟

إنّ المشاركة في التصويت الانتخابي، ليست انخراطا في قضايا عامة خارجة عن مسؤولياتنا ولا هي كمالية تجاه مهامنا الشخصية والعائلية التي نعاني فيها بل هي في صميم وجودنا الخاص والشخصي أو العائلي الذي يعتقد السلبيون أن الانشغال به لا يكون إلا بالانقطاع عن القضايا العامة. غير أنَّ تلك القضايا العامة تحديدا المتعلقة بتحديد من يتسلم مسؤولية الحكومة ويدير برامج البناء والخدمات هي ما يحدد حل معضلاتنا ويعالج مشاكلنا التي ينبغي أن ننشغل بها بطريقة موضوعية لا بالانغلاق السلبي.

وفي ضوء ذلك فإن وعي التصويت الانتخابي يفرض واجبا مهما وذا أولوية  بتحديث وجودنا في السجلات الانتخابية وهو ما يبقى ضرورة ماسة في الشأنين العام والخاص في ذات الوقت.. أيّ ضرورة ماسة لوجودنا الخاص، ولقضايانا التي نمتعض يوميا منها وآلامها، أو التي تنهكنا وتستنزفنا في تفاصيلها العادية لكن وجود برامج بناء حقيقية تُعنى بنا يمكنه أن ينقذنا من آلام وأوجاع لها أول وليس لها آخر.

ومع إدراكنا أنَّ الوعي لدى المواطن ودرجة المعرفة التي يمتلكها هي ما سيساعده على اتخاذ قراره المسؤول في المشاركة  بالتصويت من عدمها، فإننا أيضا ندرك أن اتصالنا هذا ودعواتنا للمواطن كيما يشارك في التصويت ستكون له فاعليته ونتائجه، الأمر الذي يجب أن يتعزز ويمنح الفرصة المناسبة.

ويمكننا المقارنة، على سبيل المثال بين نسب التصويت في المحافظات والأقاليم الفديرالية. إذ نلاحظ أن النسبة في كوردستان ترتفع في مؤشر لمستوى التعليم وحجم المعرفة والإدراك بالمسؤولية تجاه قضاياهم القومية والحقوقية الإنسانية والوطنية أي تجاه  تحديد درجة المساهمة في العراق الفديرالي بطريقة تؤكد نضج الجهود ونجاحها بكوردستان، من جهة وعي المشاركة بالقضايا العامة ومنها الانتخابات. وقد يثير هذا تحفيزا مؤاتياً لبقية المكونات  كي تدرك الدرس بوضوح وتلتحق بمساهمة جدية فاعلة تغير المشهد نحو أفق جديد.

إنّ استمرار مسيرة بناء وتقدم وتحديث في كوردستان مع وجود انكماش وتراجع وتردٍ للأوضاع في بقية المحافظات العراقية يعود في قسم منه إلى خيار العراقيين أنفسهم. ففي كوردستان اختاروا قوى مدنية والتحموا بتاريخهم وبهويتهم التحررية فكانت النتائج ماهم فيه ويستحق شعب كوردستان أن يحصد ثمار خياره ومشاركته في التصويت بوعي وإدراك وصواب أداء..

ومن هنا فسيتعين على العراقيين، أخذ الدرس الكوردستاني الإيجابي في خيارهم وهو ما يمكن الحديث عنه أو معالجته باستقلالية في مقال آخر؛ لكن ما يهمنا هنا هو التركيز على ((واجب المشاركة بكثافة كيما نوقف تلك السلبية)) التي تركت الميدان واسعا للصوت الذي قبل البيع والشراء، أو وقع تحت التضليل والمخادعة بخاصة في ظل ظاهرة الجهل والأمية الأبجدية والثقافية فضلا عن حال الوقوع تحت سطوة البلطجة والعنف الممارس بحق البسطاء ممن لا ناقة ولا جمل لهم في معارك الطبقة السياسية الخاوية!!

 ولنغادر معاني المشاركة لنشير إلى من هي الفئات التي تمّ تعطيلها وإشاعة سلبية الموقف تجاه وجودها أو واجبها الانتخابي. ولعل أول هذه الفئات هي النساء اللواتي يشكلنّ نصف المجتمع فأما تجلس بلا حول ولا قوة مستضعفة في البيت مستلبة الإرادة ومصادرة في حقها في التعبير عما تريد وتتطلع إليه أو أنها تؤخذ عنوة مجرورة لتكتب ما يُفرض عليها من زوجها أو أخيها أو أيّ رجل يرافقها لمجرد كونه (الذكر؟)!

إن النساء يمكن أن يقلبن الطاولة ويغيرن المعادلة بخروجهن للتصويت الانتخابي وبتعرفهن إلى أهمية وجود أصواتهن عبر التصويت للأفضل وللمرأة التي خرجت باسمهن ايضا متحدية الصعاب وولجت عالم الترشح والانتخاب.. أما كيف ستشارك النساء فهذا يحتاج لآليات اتصال ومسارعة للمعالجة في موضوع  وسائل تسجيلهن وكيفياتها...

الفئة الأخرى التي مارست السلبية في التصويت هي فئات الفقراء والمعدمين أو المهمشين من العمال وكسبة قوتهم بالأجر اليومي ومن التقاطه عبر أنشطة  هامشية إلى جانب فلاحي الريف الأكثر فقرا مثلما فقراء ريف السماوة الذين يشكل الفقر نسبة تكاد تصل الـ90% منهم!! هذه الفئات هي الأخرى تحتاج لوسائل تسجيل مخصوصة وواجبة على الجهات المسؤولة من جهة وعلى المنظمات النقابية المدنية والحركات والقوى المدنية..

والمهم هنا أن ندرك أنه لا هذه المقالة ولا مثيلاتها ستصل إلى هؤلاء ممن لا يقرأ صحفا ولا يمتلك وسائل اتصال ولن تصل إليه حتى الدعايات المتلفزة للهيأة المختصة. ومن بوابة المهام الوطنية يلزم اتخاذ وسائل مخصوصة للوصول إلى هؤلاء أو البحث في وسائل مشاركتهم وقبول الوثائق المناسبة لتلك المشاركة مع الوصول إليهم  بطرق مستحدثة...

على أن فئة ثالثة مهمة وذات دور فاعل إذا ما ارتفع صوتها مشاركا سيكون له دور الحسم، لمصلحة عراق ديموقراطي فديرالي يعتد بتنوعه وتعددية أطيافه وبدولة المواطنة والبناء مدنيا. إن هذه الفئة هي الأخرى جهة مهمشة ممثلة بالأطياف المصادرة من الكورد الفيلية التي جرى وضعها تحت جنح الطائفية السياسية بمصادرة مقصودة عبر استغلال العامل الديني المذهبي فيما رابطها القومي التحرري ظل مقتلعا بمبررات تضليلية. ومثلهم حال تفكيك السريان وتمزيقهم ومصادرة للصوتين الأيزيدي والمندائي فضلا عن مجموعات قومية ودينية ظلت بعيدة عن المشهد العام وينبغي لها أن تدرك اليوم واجبها بالالتحام النوعي المختلف مع القوى الديموقراطية وقوى كوردستان التنوير والتقدم لتكون الامتداد الوطني الحر بعيدا عن وسائل تهميش لم تقدم لهم سوى وعود هي ركام أوهام لا تنمو فيها بذرة أو زرعة!!

لكن قائمة المعزولين عن دائرة القرار بسبب الصمت والسلبية يتمثل أيضا في قسم من أبناء الطبقة المتوسطة للمجتمع وهي طبقة عريضة يوجد من عزف ويعزف عن الانتخاب! ومثل هؤلاء من ينبغي أن نجد وسائل الحوار وقبله الاتصال كيما نوفر القناعة بمشاركتهم وإنهاء سلبية الموقف من مساهمة واجبة في اختيار الإيجابي لإدارة البلاد وتوجيه المسار نحو البناء والتنمية.. وفي هذه الطبقة هناك تنوعات في المبررات التي تساق في عدم التصويت. وهو ما ينبغي أن يدرس بعناية ودقة وموضوعية لكسب مشاركته.

إنّ الطرف الخاسر سياسيا انتخابيا من وراء تدني نسبة المشاركة في التصويت هو التيار الوطني الديموقراطي، تيار البناء والتنمية، تيار الفعل الحق وتلبية المطالب. لأن هذا الذي لا يصوت هو من يجري تهميشه واستغلاله والبناء على صمته وسلبيته كي يتمترس المستغل فوق كرسي استبداده وهو ما يشير إلى فرحة الفساد وقواه باتساع السلبية والعزوف عن المشاركة.. لذا سيكون على التيار المدني واجبا مضاعفا كي يدفع باتجاه المشاركة الإيجابية الأوسع...

من أجل متابعة هذه المعالجة واستكمال محاورها الأخرى سنواصل التناول بشكل متسلسل الموضوع الانتخابي ونترك للجمهور حرية التفاعل وحق اتخاذ القرار الذي يراه واثقين من أننا نؤدي واجبا تجاه هذا الجمهور ينبغي أن نعزز وسائل الوصول إليه بمختلف أدواتنا وبكامل طاقاتنا. إنها معركتنا ضد التضليل ومن ثم ضد الفساد الذي يكاد يلتهم عراقنا الجديد ويحيد به عن طريقه الديموقراطي الفديرالي وصوت المواطن الواعي المدرك لأهمية خياره قوى المدنية والبناء هو من سيحسم الأمر لمصلحة الوطن والناس.