العراق الفديرالي 2013 بغداد أربيل بين مسارين؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

في نهاية سنة أخرى من عشر عجاف، مضت منذ بدأ العراق الجديد مسيرةً  تطلعَ فيها الشعبُ إلى بناء فديرالية تمنح أطيافَهُ ومكوناته الحقوقَ والحريات لتعيش بروح الإخاء والمساواة بدل حال الاحتراب والخراب، يجد من يقرأ حصاد الأوضاع وتفاصيلها تسيّدَ ما هو سلبي؛ حتى أن العراق بات اليوم على رأس قائمة البلدان في مستويات التدني والتخلف!؟

وفي مثل هذه الحال المأساوية لا بصيص أمل ولا علامة إيجابية إلا إذا تطلعنا باتجاه كوردستان، الإقليم الفديرالي الذي استطاع أن ينأى بنفسه عن مسار التراجع وتدني الأوضاع  واتجه بمساره إلى أمام عبر برامج البناء والتقدم بخلاف ما جرى ببغداد من طوفان المشاغلة بالأزمات  المفتعلة، الأمر الذي كان يمرر جرائم مثلث الطائفية الفساد الإرهاب يومياً...!

إنّ أبسط قراءة لمنجز حكومة بغداد مقابل منجز حكومة أربيل، ستكشف لا البون بين المنجزين ولكنها تفضح الفرق بين اتجاهي المسار في بغداد وأربيل. والاختلاف يبدأ من حيث اتجهت حكومة بغداد بوضوح نحو خطاب ثيوقراطي بالتأسيس على الروح الطائفي السياسي وهو الأرضية لولادة نظام كليبتوقراطي تديره طبقة الفساد بالاستعانة الممنهجة بأعمال مافيوية لبلطجة الميليشيات وهذه الأخيرة هي المشرعنة بقواعد قانونية مشوهة معوجة وهي غير مكتوبة ولكنها مفروضة قسرا عبر ممارسة لسطوة انفرادية بالسلطة ببغداد بما يحوّل الإرهاب إلى مستوى إرهاب دولة... بينما بمقابل هذا الاتجاه المرضي أكدت حكومة أربيل خطاب بناء الدولة المدنية بما يحمله من رسائل وبرامج للبناء والمكاشفة وتعزيز دمقرطة الحياة والارتقاء بمفردات الحياة من وفرة الاستقرار والسلم الأهلي وتقديم الخدمات العامة والخاصة والتنمية البشرية وتعزيز مسار احترام الحقوق والحريات وإعلاء روح الإخاء والمساواة بين الأطياف المكوّنة لشعب كوردستان...

وإذا كانت أية مسيرة لا تخلو من ثغرات أو سلبيات فإنّ كوردستان لم تخلُ من ذلك ولكن ربما من بين الأسباب الرئيسة التي أوجدت ثغرة أو أخرى، هي حال الضغط السلبي من بغداد على أربيل في مفردات عديدة سياسية واقتصادية وغيرهما، الأمر الذي خلق ويخلق مصاعب وتعقيدات غير سهلة المعالجة. ولكن المسار الإيجابي بكوردستان مازال مكينا باتجاه بناء مستقبل أفضل.

إذ ينتظر الاقٌليم الفديرالي تشكيل حكومة بخطى جديدة مضافة من جهة اعتماد تركيبها على كونها حكومة كفاءات، حكومة برنامج بناء، وهي حكومة مواصلة العمل البنّاء، وليس المحاصصة ولا كل تلك الإشكالات التي تضخمت بها حكومة بغداد [الاتحادية] من جهة التظاهر بتمثيلها لمكونات البلاد ولكنها في الحقيقة تجسد تمثيل الخطاب الطائفي وأجنحته المتصارعة من جهة وتجسيد المرضي بأداءات حكومة السيد المالكي بجميع المستويات والمحاور من جهة أخرى.

ونحن الآن أمام صورتين متناقضتين في النظر إلى بغداد وأربيل. صورة الأولى تحمل الهموم والمشكلات والأمراض العضال للشعب العراقي فيما صورة مشرقة بأربيل تتقدم نحو آفاق جديدة في خطى التقدم. ولعلني ومن يقرأ هنا لسنا بحاجة لمزيد جهد كيما يطلع المرء منا على حصاد سنة الشدة 2013. فهي السنة التي وُصِفت بأنها النسخة الثانية من العام 2006 عندما كانت المليشيات تحكم الشارع بدموية جرائمها الطائفية وحملات القتل على الهوية..

ويمكننا الإشارة الآن إلى آلاف الضحايا الذين ذهبوا قرابين للجريمة الممررة بحكومة ترفض الاعتراف بكونها السبب فيما يجري وكأن الجرائم يرتكبها وهم يأتي من الفضاء الخارجي متسللا خلسة بعيدا عن أعين الحكومة وجيوشها الجرارة من قوى ميليشياوية ومآربها التي تلتحف بغطاء حكومي رسمي بأغلب فعالياتها وكرنفالات الدم التي يعيشها المواطن الماسور المغلوب على أمره!!

القضية هنا ليس فيها حاجة لا لفبركة ولا لعمل مصطنع في الصورة  فمشهد يومي لا يفارق العراقي من التفجيرات الإرهابية. الكارثة أننا لم نشهد تحقيقا رسميا في أية جريمة لا في اغتيال إنسان ولا في اختطافه ولا في تفجيره بأي صيغة مما انتشر بهذه السنوات وبات علامة ثابتة باسم العراق الجديد!! وإن سمعنا عن تحقيق فهو ليس غير خبر يتيم عن تشكيل لجنة يتم تناسيها مع تراكم يومي للجرائم بمئات اللجان الوهمية التي تعتاش على صرف مبالغ مهولة للسرقة في المال العام من جيوب الضحايا بلا نتائج تذكر!!؟

العراق البغدادي المرجعية صار البحث عن تسلسله عالميا في أيّ شأن وميدان لا يقع إلا في مؤخرة تلك البلدان أو بالمقلوب على رأس الدول الأكثر فشلا والأكثر فسادا والأكثر خطرا على الصحفيين وعلى الأساتذة والعلماء والمتخصصين والأسوأ في الحريات والحقوق التي تخص المواطنين البسطاء وهو البلد الأغنى طبيعيا بثرواته ولكن مواطنيه ليسوا الأغنى، حيث نسب الفقر والبطالة تسجل أرقاما قياسية  فلكية.. طبعا وبالتأكيد الأمور بالاتجاه المعاكس كوردستانيا ففي وقت كانت نسبة الفقر في السماوة حوالي الـ90% الفقر في السليمانية نسبته 09% وهو في أربيل 03%  وقس على ذلك في البطالة وفي الاستثمارات  ونسبة الإنجاز وفي جديد المنجزات...

ولا يسألن أحد عن الخدمات فأمطار غير استثنائية وجد عادية أغرقت بغداد والبصرة وغيرهما، أما بكوردستان فالحياة تنتعش بالمطر حيث هو الخير مع وسائل تصريف المياه وتوجيهها بطريقة سليمة... والكهرباء التي لا تنقطع بكوردستان لم تنقطع سيول وعود وزيرها البغدادي بأنهم سيوفرونها وسيصدرون!     ولكن سنة تأتي وسنة تروح والوعود هي الوعود لا أحد يستطيع القول إنها كاذبة وإنها دجل وتضليل أما الصحة فلا إحصاء يعلو على ما يحصده السرطان من أرواح بريئة والبيئة هي البيئة وأسباب المرض تستمر باستيراد الأغذية الملوثة المسرطنة مع أن حكومة بغداد لا تنظر إلى قطع أمواه عشرات الروافد من الجارة إيران بل هي لا تنظر إلى ما ترسله من ملوثات عبر دفق تصريف نفايات الكيمياوي وغيره في وادي الكارون المجفف من المياه الصالحة فضلا عن الأملاح وتبوير الأرض وإرسال ما يضر الثروات الطبيعية من نباتات وأحياء من طيور واسمالك وغيرهما!!!! فمن المسؤول عن الحماية؟

في كوردستان الحدود هي الأرض التي يستنبتها الكوردستاني وهي محمية لمصلحته ومستثمرة لمصلحته ومستنبتة لمصلحته.. الزراعة والصناعة هي ما تنتظره الخطط المتجددة... والاستثمارات قبل أن تكون عقارية وتخدم بمواضع بعينها تتجه اليوم لتخدم الإنسان الكوردستاني حتى باتت كوردستان موئل اللاجئين هربا من ضيم وقع بأرضهم وبهم وهي موئل الباحثين عن عمل يأتي بلقمة نظيفة...

لكن ما ينبغي في ضوء الصورتين المتناقضتين هو تعزيز مشوار تأمين كوردستان ضد التهديدات القادمة من محيطها وربما تطلَّب الأمر التوجه نحو الكونفديرالية من جهة العلاقة مع بغداد ومزيد من خطط مثمرة في العلاقات الإقليمية والدولية بما يحمي استراتيجيات الوجود الكوردستاني.. ومن السليم هنا ضبط ميزان التحالفات السياسية على المستويين الحكومي الرسمي والسياسي الحزبي بفتح علاقات أوضح وأعمق مع التيار المدني الديموقراطي لمزيد قوة تسترجع التوازن في المستوى الرسمي الذي حاول طوال العشر العجاف إقصاء الاخر والانفراد بسلطة القرار ببغداد وتكرار جريمة المركزية الشوفينية المقيتة.

ولعل أول الطريق للتغيير النوعي في المستوى الفديرالي العراقي يكمن في خطاب انتخابي ينفتح على المستوى الوطني بعلاقات حيوية مع القوى التي تحمل الخطاب المدني الديموقراطي. ذلك أن أول هجوم للطائفيين سيتمثل في التشويه بالحديث عن ضيق الأفق القومي غير الموجود في الخطاب الكوردستاني المعمد بمسيرة التحرر ودمقرطة الحياة والتوجه المدني البهي. وللرد ينبغي  الالتفات إلى مباشرة خطاب وطني عراقي عبر مستويين المستوى الأول يكمن بتأكيد هذا الخطاب الذي طالما عُرِفت به القيادة الكوردستانية عبر قنواتها الإعلامية والسياسية والآخر عبر فتح جسور متجددة للعلاقة الأوضح مع التيار المدني والتفاعل معه وإن بصيغ جديدة ليست بالضرورة تلك التي كانت موجودة تاريخيا بما استجاب لمراحله السابقة. ومن الطبيعي أن يكون للجسور الجديدة وسائلها المتاحة في التفاعل وفي استثمار فضاءاته إيجابيا.

إنّ قوة الحركة الشعبية وانتصارها لعراق فديرالي ديموقراطي جديد تقدم نفسها اليوم بمتطلبات جديدة وبرامج جديدة ولا يمكن التعاطي مع حاجات مراحل سابقة وتكرار برامج عالجت ظروفها في وقت تتأكد المتغيرات بحاجات مختلفة نوعيا لتحالفات وسياسات جديدة تستجيب للمرحلة ولآفاق التصدي لتهديدات اليوم والغد من محاولات تسلل وطعن في الظهر والخاصرة ما يجب الانتباه عليه وعدم الاكتفاء بالتوجس من تهديداته بل الارتقاء إلى مستوى جديد من الفعل المتقدم..

ومع حل معضلات ما يجري ببغداد ستتسارع خطى البناء والتقدم أكثر بكوردستان ولكن الأمر لا يأتي بتكرار القوى التي تحكمت بالمشهد طوال العشر العجاف وليس 2013 فقط.

صورتان متناقتان ولكن العمق الوطني لكوردستان العمق الفديرالي لكوردستان سيبقى الركن الأهم لمدنية الاتجاه في العراق الجديد وسيكون الانتصار لهذا الاتجاه المدني متأت من اندحار الخطاب الطائفي وجناحيه الكليبتوقراطي والإرهابي لتبنى دولة مدنية لعراق فديرالي ديموقراطي قوي بأهله ووحدتهم وصواب برامج من يختارونه مطلع العام الجديد...  فلتبقى شمس كوردستان بهية بأهلها وقيادتها ولتولد الشمس السومرية مجددا من وراء غيوم حجبت سماء العراق الجديد لعشر عجاف.. وكل عام والجميع بخير وسلام وحركة بناء وتنمية وتقدم.