يا أهل البصرة.. يا أهل الطيبة والفكر والتسامح!

د. سعدي المالح

                               لا شك أن جميع العراقيين يؤكدون على طيبة أهل البصرة وكرمهم ومعاملة الآخرين بالحسنى والاحترام. وكذلك تُعرف منطقة البصرة، ومنذ نشوئها، سواء كانت بصرياثا منذ القرون المسيحية الأولى أو الخُريبة منذ ظهورها كمدينة عربية إسلامية في أوائل القرن الهجري الأول ( حوالي 635م)، بكونها مدينة ذات طابع تجاري وسياسي وثقافي متنوع. لقد كانت البصرة دائما جسرا إلى بلاد فارس والهند يمر بها طريق الحرير برا وبحرا،  وهذا ما جعلها مدينة مفتوحة على مجموعة كبيرة من الأعراق والثقافات والأديان والأفكار، في كل العصور.

                               ففي تاريخ الفكر الإسلامي قدمت البصرة واحدا من أكبر فلاسفة عصره، الحسن البصري الذي كان من كبار التابعين وصاحب نظرية العدل والتوحيد، ومن حلقاته خرج المعتزلة الذين دعوا إلى حرية العقل والأخذ بالمنطق أساسا رئيسيا في التشريع. ومن البصرة أيضا خرج إخوان الصفا بمزيج من الفكر الإسلامي واليوناني.  

                              وفي ظل هذا الانفتاح الفكري نشأ في البصرة ومربدها أبو نؤاس وبشار بن برد والفرزدق والجاحظ والأصمعي وابن المقفع. وفي أواسط القرن الماضي بدر شاكر السياب ثم سعدي يوسف وغيرهما.  ومع أن البصرة المعاصرة نشأت مدينة إسلامية إلا أن نسبة عالية جدا من سكانها كانوا - وفق جم&يع المصادر التاريخية- ومنذ نشوئها من غير العرب، من سكان البلاد الأصليين، من الكلدان والآشوريين والسريان المهتدين إلى المسيحية. وكانوا يمتهنون المهن والحرف الأساسية في المدينة، والتي لم يكن العرب القادمين من الجزيرة بقادرين عليها أو كانوا يترفعون عن ممارستها كونهم محاربين، كالبناء والحدادة والصّيرفة والزراعة وغيرها.

                              وكان المسيحيون أصلا منتشرين في المنطقة قبل ذلك بعدة قرون، إذ يشير "مجمع ساليق" المسمى بمجمع مار اسحق المنعقد في سنة 410 ميلادية، والذي يعتبر أول مجمع هام للكنيسة الشرقية في ذلك الوقت، إلى مشاركة مطران فرات ميشان (أي منطقة البصرة الحالية كما كانت تسمى في سجلات الكنيسة) فيه. وتورد لنا المصادر الكنسية منذ ذلك الوقت أسماء الكثير من مطارنة البصرة بالتواريخ سواء قبل انتشار الإسلام أو بعده في عهد الخلفاء الراشدين أو في العهدين الأموي والعباسي.  

                               وأيضا يخبرنا "التاريخ السعردي" للمطران أدّي شير بأن البطريرك إيشوعياب الثاني الجدالي الذي تبوأ سدة البطريكية في الفترة من عام 628وحتى646م قد أنفذ هدايا إلى النبي محمد(ص) مع أسقف فرات ميشان(البصرة) وكان هذا الأخير عالما فاضلا، فذهب إلى يثرب لكنه وصلها متأخرا بعد وفاة النبي، فأوصل ما كان معه إلى الخليفة أبي بكر(رض).
                               كما وأن اثنان من قدماء مطارنة البصرة يحملان بشرف لقب البصري، الأول هو إيشو عدناح البصري ( النصف الثاني من القرن التاسع) وله العديد من المؤلفات منها تاريخ كنسي في 3 مجلدات و" كتاب العفة" الشهير. والثاني سليمان البصري الذي عاش في النصف الأول من القرن الثالث عشر.

                               حتى السجل الكنسي العثماني يشير وعلى مدى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على وجود عدد لا بأس به من المسيحيين بمختلف طوائفهم في البصرة، ويحفظ هذا السجل الفرمانات التي منحت لرؤساء هذه الطوائف لتشييد الكنائس والتمتع بحرية ممارسة الشعائر الدينية. ناهيك عن الوجود المسيحي الكثيف في البصرة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وحتى الآن.

ومن الجدير بالذكر أيضا أن واحدا من أكبر علماء اللغة السريانية في القرن العشرين، وهو العلامة يعقوب أوجين منّا (مؤلف أكبر قاموس سرياني- عربي معاصر) كان مطرانا على البصرة منذ عام 1921 وحتى عام 1927م وكان في ذلك الوقت عالما لغويا معروفا ومؤلفا لعدة كتب في اللغة والنحو والأدب.

                                 لقد عاش مسيحيو البصرة من كلدان وآشوريين وسريان جنبا إلى جنب إخوانهم المسلمين من الشيعة والسنة، والصابئة واليهود، بتآخي ديني وقومي، وبروح ملؤها المحبة الصادقة والتعاون، وفق مبادئ ثابتة صاغها المجتمع العراقي منذ أزمنة قديمة. وقد قدم الكلدان والآشوريون والسريان خدمات جليلة إلى مدينتهم الحبيبة وعاشوا مع أهاليها السراء والضراء في كل العهود بإخلاص وتفان لم يكدر صفاء تلك العلاقة أية أحداث تذكر، على الأقل منذ تأسيس الدولة العراقية.

                               لكن ما نسمعه اليوم من تكرار عمليات القتل العمد للمسيحيين الكلدان والآشوريين والسريان (وإن كانت أحداثا فردية لكنها قائمة على الهوية الدينية والقومية) وملاحقتهم في بيوتهم وأماكن عملهم، وتهديدهم بالويل والثبور عبر منشورات أو دعوات مباشرة إذا لم يجبروا نساءهم على ارتداء الحجاب أو ينصاعوا لرؤاهم الشخصية في ممارسة حياتهم الاجتماعية، لهو حالة شاذة وغير مسؤولة ومستهجنة في البصرة، وربما لم تحدث مثيلاتها في تاريخ المدينة إلا في عهدي الحجاج والمتوكل.

                                 لقد خلقت هذه الأعمال الإجرامية والممارسات المنافية لأبسط حقوق الإنسان والمواطنة أجواء مشحونة بالتوتر والخوف والقلق على المستقبل لدى مسيحيي البصرة، وضغوطا اجتماعية مختلفة بحيث أصبح من الصعب على التاجر المسيحي أن يؤمن على تجارته، وعلى الموظف مزاولة عمله، وعلى النساء عموما الخروج إلى الشارع أو الذهاب إلى الأسواق. أما الطالبات فتركن بعضهن دراستهن في الجامعات والمدارس خوفا من اعتداء أو إهانة ويواجهن غيرهن تحديات كبيرة في مواصلة الدراسة.

                                إن هذه الأجواء والضغوط المستجدة في المدينة، في الأشهر الثمانية الأخيرة بالذات أدت إلى ترك ثلاثة أرباع مسيحيي البصرة مدينتهم التي ولدوا وسكنوا فيها والتوجه للإقامة المؤقتة في بغداد أو القرى والقصبات المسيحية في شمال العراق باعتراف عدد من رجال الدين المسيحي. علما أن عدد مسيحيي البصرة من مختلف الطوائف حتى سقوط النظام الدكتاتوري البائد كان يقدر بنحو 4 آلاف عائلة مسيحية، أي نحو 25-30 ألف نسمة، يمارسون شعائرهم الدينية في 13 كنيسة.

                                إننا نعرف أن بعض أفراد العصابات المتهورة التي تستغل انفلات الوضع الأمني، سواء كانوا من داخل البصرة أو من خارجها، يقفون وراء مثل هذه الأعمال الإجرامية، لكنهم قطعا لما تجرأوا على تنفيذ جرائمهم تلك، بالسهولة وبرودة الدم هذه، لو لا حصولهم على الدعم المعنوي و"الفتاوي" من غلاة الفكر التكفيري والظلامي المسيئين لفقه السنة والشيعة، والبعيدين كل البعد عن تعاليم الإسلام السمحة.

                                 إن القرآن الكريم ينص علانية أن " لا إكراه في الدين" البقرة- الآية 256. ويظهر الكثير من المودة للمسيحيين بقوله " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا، الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون." المائدة- الآية 82. فضلا عن ذلك فإن الرسول (ص) نفسه يأبى أن يظلم المسيحي فيورد عنه ابن الجوزية في أحكامه على الرغم من أنها كانت أحكام شديدة وقاسية على أهل الذمة " أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد، ولا تظلموهم فمن فعل فلا ذمة له" . هذا ناهيك عن الكثير من العهود والمواثيق التي كانت بين المسلمين والمسيحيين في مختلف العصور.

                                    أما في إطار الدولة العراقية فينبغي أن يكون للمسيحيين أسوة ببقية أبناء الشعب العراقي جميع الحقوق في العيش الكريم والحرية الفكرية والسياسية والدينية. ولم يتمكن نظام الحكم السابق على الرغم من كل جرائمه ومواقفه المثيرة للتفرقة الدينية والطائفية من إشعال نار مثل هذه الفتنة بين المسيحيين والمسلمين. وكانت البصرة مدينة للمسيحيين، الكلدان والآشوريين والسريان، أبناء العراق الأصليين، مثلما كانت مدينة غيرهم من العرب والمسلمين، السنة والشيعة، مثلما كانت مدينة كل العراقيين.

                                     لا ندري لماذا تسكت سلطات الاحتلال، ومجلس الحكم على مثل هذه الممارسات في العهد الجديد؟ إن عليها أن تتخذ إجراءات سريعة وفعالة لعودة مسيحيي البصرة إلى ديارهم وتوفير أجواء الأمن والاستقرار المناسبة لهم بحيث يتمكنوا من مواصلة حياتهم الطبيعية.
لماذا يسكت رجال الدين المسيحي في العراق ومن جميع الطوائف أمام هذه الموجة الظلامية ولا يتحركوا سريعا لحماية رعاياهم وخلق الظروف المناسبة لعودتهم إلى مدينتهم وأعمالهم.
لماذا لا نسمع أي رأي لرجال الدين المسلمين، الشيعة منهم والسنة، المعتدلين منهم خاصة في الدفاع عن هؤلاء المسيحيين من الكلدان والآشوريين والسريان، سكان البلاد الأصليين الذين يشاركونهم العيش في وطن واحد حفاظا على الوحدة الوطنية والتآخي الديني.

                                     وكيف يفسر مثقفو العراق وخاصة التقدميين منهم هذا السكوت عن ما يجري بحق سكان البصرة الأصليين. إنني لم أقرأ إلا مقالا واحدا للدكتور تيسير عبد الجبار الآلوسي المحلّل السياسي والناشط في مجال حقوق الإنسان، واقدر جرأته وتحليله السليم .

                                     لماذا لا يتضامن مثقفو البصرة وأدباؤها وكتابها وفنانوها مع أهلهم من الكلدان والآشوريين والسريان ويرفعوا أصواتهم دفاعا عن أخوة لهم ساهم الكثير منهم في رفد الحركة الفكرية والثقافية في البصرة على مر العصور بعصارة أفكارهم؟ أين أنتم أيها الأصدقاء والزملاء، شركاء الفكر والأدب والصحافة؟  

                                    أين أنت أيها الشاعر الكبير سعدي يوسف، قريبا لن يبقى في البصرة " كنائس يرهف فيها القدّاس" ، نريدك أن تصرخ بالقتلة. ألم تعلمنا: اصرخوا بالقتلة/ يا جميع الشرفاء/ يا جميع الشعراء. وأنت أيها القاص المبدع محمد خضير كيف ترضى أن تخلو بصرياثا السريانية من السريان! وأنتم يا أخوتي وأصدقائي الشعراء والكتاب والفنانين: محمد سعيد الصكار، عبد الكريم كاصد، ياسين النصير، مهدي محمد علي، جاسم المطير، فؤاد سالم، وعشرات آخرين من المثقفين التقدميين، فإذا كان الظلاميون يقتلون اليوم الكلدان والآشوريين والسريان لا لشيء إلا لكونهم مسيحيين يختلفون معهم في العقيدة الدينية وأسلوب الحياة، فغدا سيأتي دوركم، كونكم تختلفون معهم في الفكر، كونكم متنورين ومنفتحين على الآخرين، كونكم ضد التعصب والغلو والتكفير.
يا أبناء البصرة الطيبين، كيف ترضون أن تحرمكم فئة ضالة من ذوي التفكير المريض من جيرانكم وأصدقائكم الطيبين، من أناس اختبرتموهم طويلا وعشتم معهم حياتكم كلها بمحبة وأمان.            
                                 إنني أدعو الجميع أن يرفعوا أصواتهم عاليا ضد هذه الجريمة البشعة ليجنبوا وطننا بشكل عام والبصرة بشكل خاص شرور الهجمة الظلامية المتعصبة، التي تكاد تعصف بالعراق، حتى لا يتكرر هذا المشهد في مدن أخرى.      

1