مداخلة أستاذ الأدب المسرحي الدكتور تيسير الآلوسي

في

الأغنية العراقية: ألوانها ودورها المؤثر في حياة الناس والتعبير عن مظاهرها الغنية الثرة

 

أيها الأحبة، ضروب الغناء، انطلقت مع ممارسة الإنسان الأول للأداءات الصوتية وتطويعها لتعبر عن حاجاته وأغراضه المادية والروحية النفسية العميقة الساكنة فيه؛ ولطالما سجل لنا التاريخ ألوان الموسيقا وآلاتها والأداءات الغنائية في مواسم الأعياد والطقوس المختلفة. وهذا أيضا مما يحتفظ به لنا رواد الأغنية العراقية المعاصرة سواء في بطون الدراسات أم في الذاكرة الحية التي نعايشها وتعايشنا.

عراقيا؛ تنوّعت موضوعات الأغنية (العراقية) فمنها ما نُظم في الحِكَم والأمثال ومنها ما دخل في الغزل البريء وآخر في وصف الطبيعة ومحيط الإنسان وفي الطقوس الدينية والروحية وغيرها من الأغراض الاجتماعية والأخلاقية والوصفية التي تناولت شتى قضايا الحياة الإنسانية وظواهرها...

وبشأن أنماط الغناء العراقي تحديدا، يمكن أن نذكر (المقام العراقي) بألوانه و(البستات) و (الأبوذيات) و (المربعات) و(العتابة) و(النايل) والجوبي (الدبكة)، و(المنولوجات) و(الموشحات) وأغاني الأطفال، وأغاني الأعياد وغيرها مما يشترك بعضها مع ألوان أغاني الشعوب الأخرى أو يستقل ويتميز عنها كما في المقام العراقي الأصيل...

 

ونحن من جهة أخرى يمكننا أن نجد لكل مدينة عراقية ولكل مجموعة قومية ودينية لونا غنائيا مخصوص الهوية.  ففي الموصل نجد الأغاني الموصلية، ومما اُشتُهِر فيها السويحلي والليالي. ويغلب غناء السويحلي بلحنه العاطفي في الضواحي من الموصل بخاصة في ناحيتي تلكيف وتللسقف.

وفي مدن الغربية (الأنبار) نجد غناء النايل (الذي يغنى عادة في موضوعات الفراق والمديح والفخر)  والعتابة ، مثلما نجد الأغاني البدوية كــ(الكصيد) والسويحلي (الذي يغنى عادة كما ذكرنا في الغزل) والحداء وما نسمعه من أغاني الغجر أيضا.

فيما نجد في كركوك تلونا غنيا من الأغاني المعبرة عن الطيف القومي والعرقي الأثني الذي يسكنها فنجد الأغاني التركمانية و مقامي (القوريات) والمخالف كركوك.. مثلما نجد الأغاني الكوردية بسعة ألوانها القروية والمدينية وسعة انتشارها في موئلها من دهوك وأربيل مرورا بالسليمانية وكركوك حتى خانقين، ومما يطبع تلك الأغاني المميزة الجميلة الرقص الشعبي الكردي الجبلي المعروف ...

وبالاتجاه جنوبا سنتعرف إلى الأغاني الريفية من أبوذيات ومربعات وموشحات وما يرافق  بعض الألوان من رقص شعبي... فبالإحالة إلى البصرة على سبيل المثال سنجد غناء الهيوة وبعض المقامات العراقية بنمط البحارة...

 

ولابد من الإشارة هنا  إلى مكانة  الأغنية العراقية بين مثيلاتها في المنطقة وكون مبدعيها يمثلون الآباء الشرعيين للموسيقا التراثية والمعاصرة..

و الأغنية العراقية ليس كما يشاع خطأ أنها حزينة تجتر التعاسة الإنسانية فقط! فهي لم تكن حبيسة الحزن والأسى يوما؛ بخاصة منها تلك الألوان التي احتفلت بالإنسان العراقي وقيمه الاجتماعية والروحية.. فعبرت عن أفراحه وعن تطلعاته وآماله وأعلت من مساحة التحدي وتوجه العراقي إلى بناء بيته الوطني وعَمَار روحه بالفرح والمسرات.. فكانت أغاني الأفراح والأعراس واحتفالات الخير الوطنية وكانت موسيقا الرقصات الشعبية بألوانها..

ومن رحم هذه الأغنية بالذات وُلِدت جماعات الأغنية الملتزمة وفرقها، وعلا اسم مبدعين في خيمة الأغنية التي نطقت بجماليات العشق والروح الإنساني الجميل ولكنها ظلت تغمز الأوضاع العامة بقيمها النقدية التربوية السياسية بطريقتها الخاصة..

 

هنا اسمحوا لي بتقديم رائد من رواد هذي الأغنية ومبدع  أغنى الساحة الفنية الغنائية بألحانه وبأداءاته المشهودة الباقية في ذاكرتنا والمستمرة نهر عطاء حتى يومنا.. إنه الموسيقار الفنان حميد خلف البصري.. 

 

وحميد البصري: أستاذ الموسيقا العربية الذي بدأ تدريس الموسيقا في معهد الدراسات النغمية في بغداد يدرسها اليوم في محافل أكاديمية أوروبية.. ولكن البصري الذي اشتفل في الموسيقا العربية طويلا يتحول في انعطافة مهمة في حياته الفنية نحو التركيز بالأساس على الموسيقا العراقية وتحديدا منها المقامات بالضبط بعد لقائه بالفنان الراحل شعوبي إبراهيم، الأمر الذي أثر على شكل ألحانه ونمطها من حينه..

 

البصري مواليد العام 1935 وهو ذاته الشاب الذي أصر على شراء آلة العود من خلف ظهر فنان الموشحات  (خلف البصري) الذي تمنى له مستقبلا دراسيا ومهنيا آخر لكن حميدا الشاب يبرع في التدرّب على آلته الموسيقية التي عشقها لينطلق في العام 1955 بمسيرة فنية حافلة بالمنجز الغنائي الموسيقي..

 

 

في العام 1958 يلتقي رفيقة دربه عائليا وفنيا وهي ما زالت بعطائها معه تصدح بحنجرتها الذهبية منذ غنّت لنا (ياعشقنا) فحصدت ما لم تحصده أغنية قبلها، شوقية العطار التي ستنجب خمسة من الفنانين الرائعين هي إلى جانب كونها الأم الرؤوم الفنانة المشرقة عطاء صاحبة الحنجرة البصرية العراقية بامتياز..

أما أبناء العائلة فهم عناصر فرقة البصري التي وُلِدت في المهجر الأخير بهولندا: الكبير هو الأستاذ نديم عازف الكمان والفيولا والتالي هو الأستاذ رعد المؤلف الموسيقي وعازف الكمان فالرائع سامر المتخصص بالإخراج المسرحي الغنائي و الفنان التشكيلي الرائع أور وآخر العنقود بيدر التي صار لها اسمها الفني في عالم الأغنيتين العراقية والهولندية الأوروبية..

 

حصل الأستاذ حميد البصري على أولى شهاداته الأكاديمية التخصصية العليا من تونس في العام 1976 وفي هذا العام بالذات شكَّل مع الشاعر زهير الدجيلي فرقة تموز للأغنية الجديدة التي سيصير اسمها لاحقا فرقة الطريق عندما يحلّ في مهجره باليمن الجنوبي..أما أغنيات الفرقتين بألحان فناننا المبدع البصري فظلت تحكي عن الالتزام بالوطن وقضاياه والناس وهمومهم وآمالهم.

كان البصري غادر مكرها في العام 1978 ليبدأ وعائلته وفرقته رحلة المنفى الإجباري.. وليلحّن في مطلع هذه الرحلة بعض أغاني الأطفال في الكويت.. ليتنقل بعدها بين بيروت ودمشق وعدن واحتفاليات وسط جموع هادرة بكلمات أغانيه حتى يستقر أخيرا هنا في المهجر الهولندي..

 

للبصري أكثر من 150 عملا غناسيقيا وثلاثة أوبريتات هي بيادر خير وأبجدية البحر والثورة وزنوبيا وله مؤلفات أثرت المكتبة الغناسيقية منها كتاب الأغنية الشعبية وسجل الكلمة والنوتة التي قضى في عمله به سنوات طويلة..

 

البصري اليوم نلتقيه متحدثا عن تجربته بعقود إبداعه وعن الإبداع اللحني في الأغنية العربية الشعبية في العراق.. وستشاركه في التطبيقات الغنائية لمحاضرته الفنانة المبدعة شوقية البصري غنية عن التعريف وننتظر كذلك مشاركة أكيدة للرائعة بيدر البصري في أغاني عراقية أصيلة..

 

كما لاحظتم قدمتُ مرورا سريعا خاطفا في ذكر ألوان الأغنية وانتسابها لمدن العراق وللهويات العائدة لأطياف المجتمع العراقي ومكوناته لأن محاضرة الأستاذ البصري ستصب في محدِّد أو موضوع مهم آخر ما تطلب أن ندخل أجواء الفن الغناسيقي بهذه الإلمامة السريعة..  

فأمسية طيبة سعيدة مباركة بحضوركم وتفاعلكم وأنتم تحتفون بفناننا البصري وفرقته آتين من مدن هولندا القصية إلى هذه الأمسية الجميلة المنتظرة منذ زمن.. معكم الصديق العزيز والأخ الكريم الفنان الأستاذ حميد البصري: