حول ظاهرة العنف في الميدان السياسي والاجتماعي العراقي الراهن

تطفو على السطح اليوم في عراقنا المتحرِّر من ربقة عبودية الدكتاتورية وحكم الظلاميين الأجلاف, ظاهرة العنف السياسي والاجتماعي. حتى أنَّ مشكلة الأمان والاستقرار الأمني صارت تستحوذ على الأولوية من بين أولويات العمل الحكومي الحالي. فمن يقف خلف هذه الظاهرة؟ وما تفسيرها؟ وما إمكانات الحلول الناجعة لها؟ وما نتائج استمرارها في أفعال التخريب والتدمير؟

يقرأ علماء النفس والاجتماع هذه الظاهرة  بوصفها نتيجة تنجم عن طبيعة الشخصية الإنسانية عندما تخضع للضغوط والتوترات التي تدفع بها إلى ردود فعل انفجارية أو عنفية شديدة. ولا يبتعد الساسة في قراءتهم عن تلك القراءة من جهة تبعيتها للتوترات السياسية والاحتقانات الاجتماعية. وهو ما مرَّت به بلادنا طويلا فتعرَّضت لشرور نتائجه.

لقد وُضِعت الشخصية العراقية طوال العقود الأربعة الأخيرة أمام امتحان الكبت والمصادرة والاستلاب والمنع وجملة تنويعات عريضة من الضغوط السياسية والاجتماعية.. فإذا كان الأمر السياسي قد أخذ من القراءات كثيرا فضلا عن فضائح ما بعد السقوط والانهيار لنظام المغامرة والعنف, فقد اختفت نسبيا قراءة الاحباطات والضغوط الاجتماعية التي تعرض لها شعبنا وفئاته العريضة.

ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر مصادرة حقوق الشبيبة في ممارسة حياتها الحقيقية وتمَّ الزج بها في أتون حروب أكلت منهم مئات الآلاف وعوّقت أكثر وتركت المرأة العراقية في مشكلات كبيرة جدية من مثل مشاكل العنوسة أمام مصاعب الزواج ومشاكل الحظر الاجتماعي بتعميق مظاهر انعدام الثقة وتعزيز مظاهر التخلف وتشويه العلاقات الاجتماعية وتخريبها حيث سيف تراجع القيم الاجتماعية التنويرية وتسليط سيف التقاليد البالية على رقاب فئات مجتمعنا..

فليست الشبيبة ولا النساء وحدهم هم من يقع تحت ضيم هذا الواقع المتردي بل الفئات الأخرى من مثل الآباء الذين يظلون تحت الشدِّ والتوتر قلقا أو خوفا على أبنائهم من الوقوع أسرى العلاقات المرضية كما هو حال الرعب من عمليات التسقيط التي مارستها أجهزة السلطة واتحاد نسائها تجاه المرأة العراقية, وصارت لغة التهديد والوعيد ورفع الأصبع أمام أنف المتغطرس علامة فارقة للوضع العام. كلّ ذلك وغيره صبَّ فيما خلق حصرا تلك الضغوط التي تولَّد عنها ردود الفعل العنفية الشديدة..

لكنَّ  حالة اتساع الظاهرة اليوم ليست خصيصة طبعية ملازمة للشخصية العراقية.. إنَّها إذا كانت مفسَّرة بجملة الظروف والعوامل التي مرَّ ذكرها فهي على صعيد الحياة العامة القائمة تعود إلى أسباب مختلفة تماما.. فاليوم نحن أمام انفلات أمني يعود إلى الهزيمة المنكرة التي تعرض لها حامي السيادة العراقية (الجيش) نظرا لعملية إشغاله بحماية النظام والدكتاتور لا غير ومن ثمَّ فالحقيقة هي في كون جيش السيادة قد سُحِق منذ زمن بعيد (منذ تولت العصابات أمر تطويعه وإخضاعه أو إذلاله)..

ونحن كذلك أمام انفلات أمني داخلي يكمن في خروج الأجهزة التي حمَت النظام بالأمس من الساحة وكانت تفرض بالحديد والنار الصمت على الميدان الذي كان يغلي  ويمور وهي التي ساعدت بشكل مباشر على هذه الحالة المنفلتة عندما أطلقت قبيل الحرب التي أشعلتها سراح آلاف من المجرمين القتلة الذين صاروا اليوم مأجوريها مثلما عُرِف تاريخها عندما كانت تؤجّر البلطجية والشقاوات في محاربة الخصوم السياسيين.. ولكنَّها اليوم لا تتورع عن الضرب خبط عشواء في مجتمعنا لأنَّ المهمة تكمن في إثارة الرعب والهياج والقلق ومنع الاستقرار..

من جهة أخرى  واتت القوى المتطرفة وليدة ذلك النظام المقبور ووريثته الفرصة حيث لا رادع لها من أجهزة حكومية منذ الانهيار المعروف. وبرزت لتتسيَّد الساحة , وهي تعرف رفض المجتمع لمنطقها ولهذا تلجأ للترويع والتخويف فوقف المجرمون المحترفون في بوابة الجامعات والمدارس والدوائر الحكومية ليكونوا حكّام الشارع الاجتماعي والسياسي بقوة القبضة والعصي والهراوات أو بنار الرصاص وسطوته…

وليس بعيدا عن هؤلاء بعض الساسة وبعض الوجاهات (بالقوة) الذين تعوزهم الحيلة والذكاء مع ضعف برامجهم ورؤاهم وانعزالهم, فيلجأ بعضهم إلى سياسة الاغتيال والاختطاف والتهديد وأشكال العنف المختلفة.. ونحن نشهد يوميا أشكال العنف هذه ومظاهره المختلفة وأكثر ما توجَّه ضد الفئات الشعبية بغاية واضحة هي إخضاعها لسياسة هذا المتطرف أو ذاك البلطجي وهما صنوان…

وفضلا عن هذه المصادر للعنف هناك قوى أخرى تقف وراءه.. تلك هي قوى وليدة جديدة من شبيبة تربَّت في ظل ظروف قاسية ومشوّهة تحاول الاستقلال بخطِّ تفسيرها الوقائع القائمة وأحداثها وتربط خطأ بين جدل العنف وجدل الانتصار للمستقبل المستقل وانتقاما من كلّ من يرون أنهم تخلوا عنهم في الظروف المعقدة السابقة وعلى أية حال فإنَّ هؤلاء إذ يضعون أنفسهم اليوم في خضم ظاهرة العنف يمكن تقويم أوضاعهم بخصوصية مختلفة ولكنهم بالمحصلة اليوم يخدمون الظاهرة ويفعِّلونها بمسميات مختلفة متعددة  باتجاه الأسوأ..

تلك هي القوى التي تقف وراء ظاهرة العنف اليوم وهي بالأساس (وفي الغالب: حيث توجد أقلية مخدوعة) قوى سياسية ليس من مصلحتها استقرار البلاد وأمان العباد.. لماذا؟ لأنَّ ذاك سيكون الطريق لنهاية سطوتهم وسلطتهم من جهة.. ولأنَّ ذلك سيكون الطريق للحريات الاجتماعية والسياسية ووقفا لدولاب العنف وقواه وأنصاره بل إنهاء له وتجفيفا لمنابعه.

إذن فالحلّ لهذه المعضلة ممكن وليس ببعيد. ولكن قبيل التأكيد على هذه الحقيقة لنضع إجابة عن حال استمرار الظاهرة وسيطرتها على الواقع العراقي؟  إنَّ النهاية المأساوية وسطوة الظلام المطبق لعصور لاحقة ممكنة ومحتملة في حال سيطرة الظلاميين الإرهابيين بأي شكل وبأي مظهر.. والثمن هو حياة شعبنا ومصيره ومستقبله بالكامل! وسيخلو عندها الجو لسلطة العنف, القتل, الاغتيال وامتهان الكرامة ولا أحد بمقدوره البوح باسمه وبشخصه إلا بإذن البلطجية القتلة..

 إنَّ الصورة لن تقف عند إجبار الطلبة والطالبات على قبول حمايتهم بل ستتجه إلى الخطوة التالية إنها خطوة طلب الثمن.. وسيبتدئ بوضع الخارطة الفكرية السياسية لهم على جدران الحياة وليس المدارس فحسب. ثم يلي ذلك تعطيل الطالبات عن الدراسة بالمطلق والعودة لا إلى عصر الحريم بل إلى عهد التسرِّي والإماء والجواري وما ملكت أيمان (عضلات وأموال) أولئك الجهلة, أما الرجال فسيكونون أسرى عصر العبيد (الخصيان: نورد المصطلح هنا لأسباب تتعلق بتحليل مستهدفات أولئك المغامرون المرضية) ..

إنَّ أبسط متعلم يمكنه الحكم على ما يجري وعلى منطقه وعلى ما يراد منا نحن العراقيين, والصراع اليوم يقوم بين الجهل والظلام وقوة البلطجة من جهة والمتنورين والعلماء وكل فئات الشعب صاحبة المصلحة في امتلاك حرياتها وحقوقها والوصول إلى ما تتطلع إليه في حياتها الجديدة.. لذا فبداية الحلّ رفض الخضوع لتهديدات الأوباش وعلى المجتمع أنْ يولّد آليات دفاعه الحضاري عن خطوة تحرره من عبوديته وتوجهه إلى عالم حريته ولا نستحي من تضافر جهود الخيرين في العالم ولا من استغلال التعارض بين مصالح الأشرار وليس في السياسة ما يمكن أنْ نخجل منه إذا ما صبَّ في تأكيد مسار مصالح الشعب والوطن .. ومصالحنا في مزيد من تأكيد لغة السلام الاجتماعي والسياسي من جهة ورفض لغة العنف وعزل قواه وإسكاتها بحجة القانون ووسائله المتحضِّرة…

ولا حراجة من وقف حتى تلك المرجعيات الدينية والسياسية والاجتماعية عندما تدخل بوعي أو بغيره في مسلسل خطايا العنف ومردوده الخطير على مصالح شعبنا الحيوية في حاضره ومستقبله على أنْ يتمَّ كلّ ذلك على وفق إجراءات تحالفية وطنية معلومة.. وأضع هنا مقترحا آمل تفعيله بخلق تحالف شعبي عريض ضد الإرهابوالعنف بعامة ويقوم بفعاليات حضارية متنوعة تقف بوجه هذه الأوضاع الشاذة وهذا هوموضوع تحليلنا التالي…

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *