العلم العراقي بين خيارات اليوم والغد

بعد سقوط نظام الدكتاتورية وتشكيل مؤسسة الدولة العراقية الجديدة جرت متغيرات عديدة منها إلغاء قوانين خطَّها قلمُ الطاغية الفرد ومنها إعادة تشكيل مؤسسات أو تأهيلها.. وكان منطق التغيير بعامة، يُفترض أن يمثل تطورا لصالح التعبير عن رأي الناس ومطالبهم.. لكن أغلب ما جرى تمَّ تحت خيمة أحزاب بعينها تخبطت بمستهدفاتها أو جرى تحت مظلة  المؤسسات التي تمَّ السطو عليها مجددا بكل أمراض الفساد التي اكتسحت الأجواء العامة..

وصرنا لا نستطيع الحديث عن أي مطلب شعبي من دون التفكير بمجريات سلطة الدولة الجديدة المنشغلة بمنطق استكمال التغييرات في ضوء خطاب المحاصصة وفي ضوء المصالح الحزبية الضيقة.. وما بدأ يظهر اليوم بعد كل هذه السنوات هو الانتقال للتصفيات بين أطراف التحالفات التي جرت مطلع التغيير…

وبالتركيز على آلية المحاصصة وجدنا صياغة للدستور بما كنّا حذرنا من الوقوع به وهو كتابته بلغة الخطاب السياسي ما طبعه بعبرات إنشائية تمثل خطاب المحاصصة حتى وردت مواد وفقرات متناقضة بحسب تعبيرها عن حصة هذا التيار أو تلك الفئة! فيما تقلصت لغة الصياغة القانونية وصرنا نجد المحاصصة تجري في كل مفردة من حياة العراق الجديد..

فتحولنا لوضع طائفي مريض وهو ما أفضى ويفضي في الغد المنظور إلى أعمال تصفية للحسابات بين مقتسمي العراق بوصفه غنيمة لا وطنا ولا هوية… والفرق بين وضع البلد بصفة غنيمة ووضعه بصفة وطن فارق استراتيجي تقوم عليه خطط وتصورات بنيوية مختلفة جوهريا وجذريا…

ولأن المحاصصة موجودة بهذه الطريقة كما ذكرنا في كل المفردات فإنَّها [أي المحاصصة] دخلت على مسألة اختيار العلم العراقي وشعار الجمهورية وإذا كانوا تركوا الشعار في ضوء توافق الأحزاب الأولي على شعار 14 تموز [وهو أمر غير واضح وغير مثبَّت بقرار] فإنَّ العلم ظل في حال من الاصطراع على صيغته أو شكله!؟؟

لقد رفعت جماهير عراقية في المهجر طوال السنوات المنصرمة علم 14 تموز أو أنها شكلت من العلم العراقي قبيل إضافة العبارة المكتوبة بخط الطاغية صيغة للتعامل معها… ولكن الأمر اليوم صار أكثر تعقيدا وصار سؤالنا نحن: ما الذي يمنع الدولة من تحرير هذه الجماهير من رمز الطاغية وحكمه؟ فيما صار سؤال الآخر: إذا كانت الدولة العراقية الجديدة قد تحررت من الطاغية وإذا كانت الدولة العراقية الجديدة قد اتخذت من الديموقراطية طريقا وآلية لمؤسساتها، فلماذا لا ترفع الجماهير العلم الذي اختارته مؤسسات الدولة العراقية الجديدة؟؟!

في الحقيقة هناك تناقضات كبيرة موجودة في رحم مرحلة الانتقال من غول طغيان العقود المنصرمة؛ ومن غول الفساد والمحاصصة والطائفية والإرهاب ونحن ما زلنا في مرحلة صراعات تطهير دولتنا ومؤسساتها من صيغ سطت عليها ومن بقايا مرضية ومن أشكال الفساد فضلا عن طبيعة المرحلة التي تحكمها أوضاع شاذة تفرضها عوامل متداخلة أبرزها حالتي الإرهاب والطائفية وطبيعة العلاقة بين السلطة والقوات الأجنبية..

في هذا الخضم لم تستطع الجهة  المحسوبة مع الرؤية الشعبية أن تحسم أمورا شكلية تعبيرية رمزية كما في مسألة العلم أمام سطوة وتنفذ قوى بعينها على أجهزة الدولة ومسارها… وعلى الرغم من وجود أمور مهمة وجوهرية أخرى سيكون حسمها حلا لأغلب المعضلات والإشكالات إلا أن موضوع العلم يبقى موضعا مهما في رمزيته وتعبيره عن إرادة الرأي العام أو أغلبيته…

ونحن نشاهد أن اللعب بهذا الموضوع وتأجيله برفض المقترحات التي تقدم بها مبدعونا العراقيون والتوقف عن معالجة إشكاليته والإبقاء على الصيغة المفروضة قسرا على إرادة الناس وأوسع الفئات الشعبية سيكون عامل ضغط سلبي خطير يدفع باتجاه تعميق الصراع بين حب واحترام رموز الهوية الوطنية ورفعها عاليا في المحافل والأنشطة وبين رفض تلك الرموز التي لا يجدها أبناء الشعب ممثلة لرؤيتهم بقدر ما يجدونها ممثلة للطاغية الذي فرضها عليهم ولجرائمه بحقهم…

ومثل هذا الموقف يكرر جريمة القسر والفرض بالإكراه كما حصل من مؤسسات الطاغية التي كانت تقرر وتنفّذ  ما يراه الطاغية الفرد.. وعليه فليس من مبرر ولا نقول مسوّغ لهذا الإصرار على الإبقاء على رقعة ترمز لزمن ينبغي أن يجري تغيير  رموزه واستبدالها بإعلاء خيارات الشعب أو أغلبيته بإعلاء رمز يمثل العراق التعددي بأطيافه ويحترم وجودهم جميعا لا أن يركز على رمز مجموعة من دون أخرى…

كما يلزم أن نحرر العلم العراقي من الرموز التي لا تدخل في التعبير عن الإنسان ودولته المدنية ووجوده البشري البحت كما في الرموز الدينية وكأن الأمر يمثل راية دينية أو فكرا دينيا أو جهة دينية أو أمرا عقيديا دينيا.. إذ العلم رمز للدولة وللشعب ولهويته المدنية الإنسانية فيما إضفاء الدلالات الدينية أمر يُخرِج الشكل من تمثيل الدولة ومؤسساتها..

ألا نرانا اليوم نختلف في الحديث عن شكل العلم؟ ألا نرى بعض الناس يذهبون إلى حد تمزيقه أو حرقه تعبيرا عن موقف سياسي أو ما أشبه؟ ألآ نرى دولا تنكس علما أو تطرحه جانبا لسبب دبلوماسي مثلا؟ إذن لمن يريد احترام السمة الدينية، عليه ألا يبقى مصرّا على وضع عبارات ستؤدي إلى مشكلات لا علاقة لها بالاختلاف السياسي أو الدبلوماسي  وعلينا أن نبقي العلم بعيدا عن الأمور الدنيوية المدنية…

أما إشكال الصياغة فليس عقدة في بلد فيه عشرات بل مئات من خيرة المبدعين فكرا وفلسفة وتعبيرا جماليا تشكيليا ويمكن لأية لجنة متخصصة منصفة وموضوعية لا ترتبط بأغراض حزبية ضيقة ولا تنفذ رغبات زعامات لا تفقه في السياسة والفكر بقدر ما تفقه في تنفيذ أجندات مرضية خارجية أو\و محلية، يمكن لمثل هذه اللجنة أن تنهي الأمر في أيام أو أسابيع أو حتى شهور ولكن ليس في سنوات كما جرى ويُراد للأمر أن يجري……

لابد للبرلمان أن يتخلى عن حزبيته ومرجعياتها التي لا تنظر إلى المرجعية الشعبية وأن يطلق من القمقم قضية العلم وننتهي منه وأمامنا كثير من الإبداعات التي يمكنها أن تكون حلا مناسبا.. وإنني أضع طلبي هذا أمام الأعضاء ليتم تشكيل لجنة برلمانية وأخرى حكومية في وزارة الثقافة وتجمع ما جرى بالخصوص وتعيد الدراسة بوساطة المتخصصين وتنتهي لقرار يجري التصويت عليه وننتهي من علم لا يرفعه أغلب أبناء شعبنا وننتهي من أزمة الفرض والقسر التي تجري بحقنا نحن العراقيين عندما نحتل وعندما نتحدث رسميا في محفل أو مناسبة…

ومن الطبيعي أن تنهض منظمات المجتمع المدني وقواه الفاعلة للتعبير عن هذا الأمر بوضوح وبصلابة الموقف أمام تكلس رأي بعينه وجموده تعبيرا عن أمور مبيتة لضيق أفق وأمور أخرى… ولتنطلق حملة بالخصوص للضغط على البرلمان والحكومة ولتوجيه الأمور حيث إرادة الناس ومطالبها…

وبعض أسئلة هذه الحملة:  هل ترى أحزاب الحكم والحكومة أنها نشوى بإملاءاتها علينا ما يراه أفراد موجودون في السلطة لسنتين قادمتين؟ ولماذا لا ينفذون إرادة من جاء بهم للمسؤولية ويراجعوا هذه القضية الشكلية المهمة؟  ولماذا لا يُنظر إلى كون هذا الإصرار يتعارض مع أطياف مهمة وأساس في بلادنا وهي أطياف تمثل تاريخنا نحن العراقيين من المسيحيين والمندائيين والأيزيديين ومن الكلدان الآشوريين السريان ومن الصابئة ومن التركمان ومن جناح عراقنا الثاني الشعب الكوردي الذي اُعتُدي عليه في ظل راية الخراب والموت والسادية ومن أطياف واسعة من العراقيين بعموم وجودهم؟  وإذا كانوا عاجزين عن حل مثل هذه القضية ومعالجتها فماذا سيعالجون إذن من أمور جوهرية؟ ومتى سننتهي من هذه الإشكالية؟؟؟؟

لا ضير لشعبنا من الصبر على عديد المشكلات التي تصنعها هذه الإشكالية المفتعلة من المصرين على راية الطغاة وذكرياتهم السوداء ولكن علينا النظر لنتائج الغد فضلا عن آلام اليوم والتعبير عن إرادة الشعب وأهدافه بوضوح حتى يعيد التصويت الشعبي الحق لمن يمثل إرادته وأهدافه وإن غدا لناظره لقريب…

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *