منذ إقرار الدستور العراقي بات العراق رسمياً دولة تعتمد النظام الفديرالي. وصار لزاماً تجسيد الحراك وآليات اشتغال مؤسسات الدولة على هذا الأساس البنيوي الجديد. وإذا كان صحيحاً أن المجتمع العراقي مجتمع مركب يتشكل من مكونات رئيسة من العرب والكورد ومن حال من التنوع بفسيفساء الوجود القومي والديني، فإنَّه من الصحيح أيضا أن بنية الدولة وهياكلها اليوم صارت أوضح تجسيداً بالخطاب الدستوري المعبر عن الوضع.
ولكن، ولحداثة هذا البناء القانوني في البلاد، نجد أنَّ التعامل في إطاره ما زالت تكتنفه تعقيدات جمة. بعضها يعود لطابع الثقافة الشوفينية الاستعلائية التي تربى عليها قسم غير ضئيل من المجتمع. هذا فضلا عن استمرار ضخ خطاب التحريض السياسي عند بعض القيادات الجديدة في البلاد. وبالنتيجة فإنَّ حال الانفراد بالسلطة السياسية مازالت ذيوله مؤثرة وتجترح لوجودها حفائر مرضية خطيرة…!
ولعل أخطاء رئاسة الحكومتين السابقتين وإيغالها بخطاب الانفراد واستخدام لغة المركزية على حساب التعددية وغنى التنوع المجَسَّدَيْن بالدستور، كان هو الآخر سبباً في تفشي الثغرات في العمل الفديرالي. ومن الطبيعي أن يكون الاستمرار بالمماطلة بموضوع قانون المجلس الاتحادي بوصفه المعبر التشريعي عن البنية الفديرالية سببا آخر يؤكد تلك الثغرات السلبية الفادحة.
على أنّنا نجابه اليوم في إدارة الخارجية العراقية وجهودها بخاصة عندما يتعلق الأمر بممارسة لرئاسة الحكومة الاتحادية، نجابه اندفاعاً وإيغالاً غير مسبب في تعمّد تكرار تشكيل الوفود بطريقة لا تتضمن انعكاساً إيجابياً للبنية الفديرالية. ولربما أمكن تمرير هذه الممارسة في بعض القضايا العامة للوجود الوطني العراقي، ولكن كيف يمكننا استيعاب تشكيل الوفود بصيغ (أحادية) البنية والتعبير، مع أنَّ القضية مركبة وتتحمل عبئها بشكل نوعي فديرالية كوردستان كونها الجناح الآخر في الدولة العراقية ذات النظام الفديرالي!؟
كلنا يعرف حقيقة ما تحمَّلته وتتحمله اليوم كوردستان من آثار مباشرة لانهيار مؤسسات الدولة الاتحادية في المحافظات المتاخمة لها (لكوردستان) وما تسبب هذا من إيجاد بؤرة تهديد القوى الإرهابية التي اشتدّ عودها بسلاح الجيش (الاتحادي) سواء كانت تسمية (الاتحادي) مجرد تسمية و\أو غطاء لجيش المالكي أم تعبيراً عن إشكالية أخرى كجريمة الفساد المتمظهرة بتركيبة من عناصره الفضائية الوهمية التي كانت تُصوَّر على أنها جيش العراق الاتحادي حتى انكشفت الأمور!!
إنّ قوات البيشمركة الكوردستانية هي الوحيدة طوال الأشهر المنصرمة التي استطاعت البرهنة على سلامة البنية وطابع العقيدة العسكرية الصحية في الدفاع عن الأرض والشعب.. وهي التي برهنت على الجاهزية الأنسب والأفضل للتصدي لعناصر الإرهاب ومحاولتها استباحة البلاد برمتها.. كما أن قوات البيشمركة هي التي قلبت الموقف اليوم وصارت تستعيد الأرض بحجم اقترب من الـ700 كم مربع أو بحزام 65 كم حول الموصل المستباحة على الرغم من الحصارات التي عانت منها…
فيما ترك (الجيش الاتحادي أو عناصر جيش المالكي!) ما تقديره 55.000 خمس وخمسين ألف كم بأيدي فوضى انهيار مؤسسات الدولة واستباحة شراذم الإرهاب! مع بقاء التعويل الوطني على الاعتماد على قوات البيشمركة بشكل رئيس لحين استكمال تشكيلات مضافة جديدة للجيش الاتحادي الجديد من 12 لواءً منها ثلاثة كوردستانية.
إننا هنا نتذكر كيف كان لسحب الصلاحيات وتركيزها الفردي المطلق بيد شششخصية واحدة سبباً خطيراً للانهيار واليوم تتبدى مظاهر الأحادية في الخطاب الذي يوجه الحوارات والتفاعلات بين العراق والجهات الدولية المعنية. وعلى سبيل المثال فقد توجه وفد العراق الفديرالي وهو يخلو من دعوة الطرف الكوردستاني بوصفه الجناح الرئيس من بين جناحي العراق الفديرالي، عدا عن تحمله عبء التصدي اليوم للتهديدات الإرهابية..
إنّ هذا يمثل مثلبة واضحة في التعاطي مع تركيب الوفود من جهة وطابع التمثيل الحقيقي بهويته التعددية وبهوية من ينهض بالمهام الفعلية ميدانيا.. وأبعد من ذلك مثَّل الأمر استهانة غير مقبولة بحقيقة التضحيات والفعل الميداني للبيشمركة ولطابع انتشارها والمهام التي تتحملها في لحظة لا توجد قوات اتحادية في أغلب المناطق التي تنتشر بها حاليا قوات البيشمركة وبطولاتها..
وبالمحصلة فإنّ القوة الميدانية المباشرة الفعلية هي التي ينبغي أن تكون موجودة على سبيل المثال بمؤتمر لندن لقوات التحالف بقصد المشاركة في بحث أفضل وسائل التصدي ميدانياً للجرائم الإرهابية وتنظيف الأرض وتطهيرها منهم. ولا يمكن هنا لمنطق أن يبرر موقف التحالف عند عدم توجيه الدعوة أو أن يتعكز عليه ولكن الأجدى كان يتمثل بمبادرة قيادة الحكومة الاتحادية لاعتماد ممثلي كوردستان بصيغة تتناسب وواقع الحال ميدانياً..
فلماذا لم يتم فعل ذلك!؟
كما أسلفنا القراءة، فإنّ استمرار نهج الأحادية هو ما يعتقده بعض من يتصدى للمسؤولية برئاسة الحكومة (الاتحادية). وهذا يدعو للتذكير الصريح والمباشر إلى واجب التغيير على وفق القوانين الدستورية المعمول بها وعلى وفق المؤمل مما يلزم وجوبا عدم التلكؤ بصياغته من قوانين تستكمل بناء المؤسسات الفديرالية..
إنّ تسريع مسيرة استعادة سلطة الدولة ومؤسساتها في المناطق التي انهارت فيها وتعزيز مكانتها وهيبتها في أرجاء البلاد التي تتناهبها الميليشيات وسلطة الفوضى لا تأتي إلا من بوابة تعميد المنطق الدستوري بقوانين وبمؤسسات رسمية وبالتأكيد بنهج جديد مختلف نوعياً ينطلق من قناعات جديدة تتفق وآليات الوجود الفديرالي..
وبخلافه فإنّ شروخاً عميقة الغور تتعمق بين أجنحة الفديرالية؛ فتختلق أزمات وصراعات غير مبررة تتقاطع ومسيرة البلاد نحو تطبيع أفضل علاقات الإخاء والوحدة الوطنية. وهذي الثقافة السلبية تطفو حتى بما يوصف بكونه ممارسات فردية كما بإيقاف الشاحنات والعربات التي تعود لكوردستانيين على بوابات العظيم وغيرها عند محاولتها الاتجاه إلى بغداد!!
إنّ الصائب ليس الفلاح بالإعلان عن تبرير لهذا الأداء أو ذاك ولكن في إشاعة ثقافة فديرالية صائبة اختارها العراقيون بكل اطيافهم ومكوناتهم وفي التصدي الفعلي من القيادات للقضية عبر ممارسات جدية فاعلة ومؤثرة.. ونحن بشكل عام لا نلحظ هذا بقدر ما نلحظ تسطيح الأمور وتركها لتدور ولتلوكها ألسن تصريحات من وضعته المحاصصة في موقع المسؤولية.. وكثرما شهدنا القنابل النارية بتلك الممارسات العنترية بعنجهيتها واستعلائيتها!
إنّ المعالجة هذه تطالب القوى العربية في العراق الفديرالي لتحمل مسؤولياتها بهذا الخصوص. مثلما تطالب بأن يكون الأداء الفعلي للسياسة العامة متأسساً على الوجود الفديرالي بكل ما يعنيه المصطلح من أبعاد استراتيجية تدعو لاستكمال مؤسسي ولنشر ثقافة فديرالية سليمة وأخرى مباشرة تتعلق بالإجراءات الكفيلة وبشكل فوري عاجل بإزالة العقبات والثغرات ومحو ما يمكن من سلسلة خطى العمل الاتحادي ببغداد تحديداً.
وبشأن موضوع بناء الجيش الاتحادي ومهمة التصدي لاستعادة الأرض المستباحة من زمر الإرهاب وعناصره المتجحفلة بكل من خلفها من قوى وإمكانات، ينبغي أن تتضح الصورة بالصيغة المعبرة عن معطيات العمل فديرالياً. وعليه فإن مجلساً مركبا للقيادة العامة للقوات المسلحة واستكمال الوجود المؤسسي بكامل الصلاحيات الفعلية هي مفردة وخطوة بنيوية جد مهمة وذات أسبقية في الحراك نحو إعادة الدولة وهيبتها وسلطتها في الأراضي التي انهارت فيها.
كما أن البحث في أشكال التخطيط وبناء ألوية الجيش الاتحادي ومهمة تزويد البيشمركة بالسلاح والعتاد وفرص التدريب الأحدث يلزمه أكثر من الاعتراف اللفظي بوجود تلك القوات وكونها جزءاً رئيسا من منظومة الدفاع الوطني العسكرية الأمنية للعراق الفديرالي.
وإذا لم تتوافر أرضية رحبة ومتينة وثقة وطيدة فإنّ طابع العمل سيظل متمترساً خلف الإبقاء على استقلالية البيشمركة بوصفها ضمانة ضد الأصوات المتعالي صياحها وصراخها بالمركزية وبإشادة الوجود الوطني على اساس الأحادية المرضية التي تلغي الآخر وحقه الثابت في الوجود بإطار دولة فديرالية تؤمّن ألا تُرتكَب بحقه مجدداً أية جريمة أخرى كتلك التي دخلت سجل جرائم الإبادة الجماعية في التاريخ البشري المعاصر.
إنّ الحرص على الوطني العراقي وعلى وحدة البلاد وعلى سلامة مسيرتها تتطلب بدقة حرصاً مماثلا على احترام طابعها التعددي وجوهرها الفديرالي كونها تتركب من جناحين رئيسين منذ أول تشكيل الدولة العراقية وما تم تثبيته بالدستور، وإنْ لم يجرِ احترامه وممارسته، وحتى يومنا حيث بات العراق دولة فديرالية دستورياً وأصبح ملزما العمل بهذا المعنى المنظم للوجود العراقي الجديد…
ولا يجوز للعراقيين إضاعة مزيد وقت بسجالات تجرهم إليها عناصر مرضية سواء كانت عناصر سياسية فارغة ساذجة لا تدرك عمق وحجم موضوع إدارة دولة مركبة أم ممتلئة ولكن بفلسفة الحقد والكراهية والشوفينية في التعامل مع الآخر.. فمثل هذا يجعلنا ننحدر أكثر نحو الهاوية الفاغرة الفاه لالتهامنا وسط منطقة ملتهبة بصراعات معقدة…
لعل نموذج مؤتمر لندن، يبقى حدثاً استثنائياً مما لا يجب القبول بتكراره ولا يجب أن يكون نموذجا للعمل الاتحادي بعراق فديرالي جديد. ومن ثمّ فليكن هناك توجه عملي مباشر لمعالجة ما جرى وردم الهوة التي حفرها وذلك بتبني خطوات عملية تسد الثغرة وتعالج ما نجم عنها وليكن موضوع الحرب على الإرهاب بوحدة مكينة وثقة وطيدة بين أجنحة العراق الجديد عراقاً فديرالياً لا يقبل بهضم حقوق أو مصادرة وجود أيٍّ من أجنحته التي يتركب منها.
إن هذي المعالجة تتطلع أيضا لجهود البرلمانيين بلجان الاختصاص وإلى العناصر الإيجابية بالحكومة الاتحادية وإلى القيادات الوطنية الحرة والقوى الديموقراطية المؤمنة بعراق فديرالي بالجوهر والتفعيل لا بالمظهر والتضليل.. وتلكم قضية وجودية لنا جميعاً، فلا ينتظرن أحدنا لحظة لات ساعة مندم…