14 تموز بين مجدها السومري ودلالتها المعاصرة

في التاريخ العراقي القديم حيث عشرة آلاف عام خَلَتْ، وُلِد تراثُ الإنسانية هنا في حضارة ما بين النهرين. يومها انتقل الإنسان من مجتمع الصيد والغابوية إلى مجتمع الزراعة والاستقرار وإنتاج خيرات وجوده بيده وبتشغيل منطقه العقلي بما استجمع من معارف وخبرات.. ويومها وُلِدت أول بنى دولة المدينة، دولة التمدن والتحضر؛ فاتجه لسنِّ تشريعاته الناظمة لحياة مدنية، هي الدلالة الأولى على أنسنة وجوده ومغادرته منطق الغاب وفروضه وآليات عيشه الوحشية…

ومع آلاف سنواتٍ شداد، فتك طابعُ تقلباتها البيئية بما كان يبنيه بكدِّهِ وجهده، لكنَّ السومريَّ لم يتردد عن صنع أدوات وجوده المجتمعي وكتابة أسس النظام الذي يمكنُ أنْ يستندَ إليه لتجاوز تلك المعضلات الجسام… وصار على السومري واجب التحدي والتصدي لما يجابهه فكانت طقوسُ التضحية والإيثار والتعاضد في مجابهة المحن والشدائد؛ و وُلِدت معها طقوس الانتصار، طقوس الاحتفال بإنجازاته..

ولأنَّ أبرز ما وُجِد وقتها بين أنشطته وإنجازاته، هي الزراعة ومن ثمَّ حصاد ثمار جهوده فيها؛ فقد كان الاحتفال بعيد الحصاد، جمعياً يتربعُ على مجمل الاحتفالات الطقسية الأخرى؛ تلك التي ترسَّخت مع آلاف السنوات والأعوام. وبين الأسطورة التي وُلِدت وسط قدسيةٍ أسقطها على بطولات مجتمعه وأسلافه وبين رموز حاضره والطابع الطقسي للاحتفاليات، كان احتفال السومريين بعودة ديموزي\ تموز في تزامنٍ مقصود مع احتفالات منتصف تموز في (14) منه حيث اكتمال هلال الشهر رمزاً لولادة ديموزية متجددة. وبقيت شعوب سومر كافة تحتفل بهذا العيد رمزاً لانتصار العمل الجمعي، رمزاً لاندحار الموت وعودة رمز الحياة ومُنتِج خيراتها، بولادة ثمار زرعهم في منتَجٍ يحصدونه ليكون غذاءً تستمر به الحياة…

من هناك، من ذياك العمق التاريخي، ومن ميادين الفعل والبناء عند شعوب سومر، كانت احتفالات تموز، هي الاحتفالات التي علت وتعلو بطقوس الحياة وما تتطلبه من الإنسان من بذل جهوده بتنوعاتها، كيما يحظى بإدامتها صحية سليمة تأتيه بما يعيش به ويحتفي بثمار فعله ومنجزه.

إنَّ الاحتفالات بتراثها السومري ودلالاتها الحافة في تاريخ الحضارة ومجد تراثنا الإنساني برمته، لم تكن ولا يمكن أنْ تكونَّ طقسياتٍ سلبيةً مثيرةً للاحباطِ والانكسارِ و\أو البكاء على خرائب وأطلالٍ خلَّفتهْا الكوارثُ الطبيعية وأشكالُ العدوان والحروب بل هي بالأساس ملتقياتٌ تجسِّدُ الوجودَ الجمعيَّ للإنسان ودلالاته في التعبير عن تمدنه وعيشه مجتمعياً بما يستكمل فروض انتصاره لإنسانيته وقوانينها الناظمة وبناء عالمه وأيضاً استمراره في إعادة إعمار ما جرى تخريبه مراراً مما يواصل بناءَهُ.

وبسببٍ من ذياك الإصرار، ومن استمرار شعوب سومر على بناء مدنهم وإعادة إعمارها كانت احتفالات النصر والفرح والمسرة، تتجدد كل عام؛ توكيداً لما صنعه العقلُ العراقي القديم، السومري، من وجودٍ بنيويٍّ حضاري بقي درساً وعلامةً استمدتها البشريةُ في حضارتها المعاصرة.

وكان أَوْلَى بالعراقيين في مطلع ولادة دولتهم المعاصرة، أنْ يمتاحوا من دروسِ تموز التاريخية؛ ليستعيدوا مسيرة البناء وصنع التقدم وركوب سفينة التنمية في عصرهم الحديث. وهو ما حصل بالفعل، فجاءت ثورة 14 تموز لتنتصر للإرادة الشعبية التي أدركت أنّ تحررها يبقى رهناً بوحدة قواها الوطنية وبجمع طاقاتها المدنية واستثمار قواتها المسلحة في حسم انطلاقة التغيير على وفق ما فرضته الضرورة في تلك اللحظة الفارقة..

ولهذا فإنّ ثورة 14 تموز لم تكن انقلاباً عسكرياً فوقياً، وهي ليست جملة حركات عسكرية قام بها الجيش.. ولا تعبر عنها بل لا تنتمي إليها أيةُ حالة تفصيلية من وقائعها السلبية، لأنّها بجوهرها ثورة سلام وديموقراطية. جاء حراك الجيش فيها ليعبر عن استجابة إحدى مؤسسات الدولة للغليان الشعبي ولتمسكٍ بقيم الوطنية ومبادئ الدفاع عن سيادة الوطن وحرية الشعب؛ الأمر الذي تجسد عبر مسيرتها، في فعاليات استراتيجية كبرى للثورة منها: الخروج من حلف بغداد الذي أراد أن يرهن القرار السيادي الوطني لمصلحة جهات خارجية، كما حرّرت الثورة الأرض وأعادتها للفلاح صاحب الحق فيها، وأطلقت مشروعات التنمية باختلاف محاورها ومفرداتها..

لقد تجسدت الثورة بقوانين الإصلاح الزراعي التي أنهت عهود الاقطاع الذي تجذَّر طوال قرونٍ الوجود العصمللي وعقودٍ مِن تحكُّمِ الملاكين والسراكيل وسطوتهم واستغلالهم..كما تجسدت في قانون الأحوال الشخصية الذي أعاد لنصف المجتمع المستعبد حريته، إذ أعاد للمرأة العراقية إنسانيتها وجانباً كبيراً من حقوقها. وانطلقت منظمات المجتمع المدني توسِّع من أدوارها.. فيما أكدت الثورة بمبادئها وبجانب مهم من ممارساتها على حقوق المكونات القومية والدينية وعلى حرية شعوب الوطن في تقرير مصيرها…

فكانت بسلسلة فعالياتها ووجهها الإيجابي، بحق، الحدث الأعمق في تاريخ الدولة العراقية المعاصرة وشعوبها ذات الأصول التاريخية، السومرية بقيمها وبوحدة مصيرها وبروح الإخاء والمساواة في علاقاتها الإنسانية الوطنية.

ولولا بعض أخطاء وثغرات، ولولا قطع مسيرة ثورة 14 تموز بالانقلاب الفاشي الدموي لكانت مسيرةُ الثورة الوطنية الديموقراطية أخذت طابعا أعمق في تبني القيم الفديرالية وفي وحدة أطياف الشعب العراقي ولكانت تقدمت نحو آفاق ممارسة الديموقراطية بأسس أكثر نجاعة وصلابة وسلامة..

وفي 14 تموز المعاصرة، استعادت الجماهير الشعبية التئامها في حشود مليونية تحتفي بطقوسها وتعلن عن رؤاها، مثلما كانت في عهود بناء مهد الحضارة في العراق السومري القديم. وباتت احتفاليات الشعب المعاصرة هادرةً في تجمعاتها، تعلن عن صوتها وإرادتها ومطالبها بوضوح وبكل حرية.. وبارتباط جدلي بقيم وممارسات كسرت حالات الاحباط واليأس والانكفاء على الذات بروح سلبي، فـَ ـعَلا في سمائها الفعلُ الإيجابي وروح المبادرة والمشاركة الجمعية.. وتلكم هي سمات أسست لها دولة المدينة في عهدها السومري الأول، حيث الوجود المجتمعي بروح الإخاء والعائلة المتعاضدة في جهود البناء والإعمار وإنتاج الخيرات..

ولربما كانت احتفاليةُ يوم أمس محاولةً لكسر معالم جثمت على الجموع مما أراد فرضه قادة الطائفية السياسية من اجترار أسوأ ما في تاريخ عهود الظلام والتخلف من استجلاب السلبي المُحبِط لكسر إرادة التحدي وصلابة الفعل.. ولربما كانت الحشود مازالت لم تستعد سلامتها وصحتها واتساع استقطابها، لكنّ البذرة في فلسفة الفكر السومري تمتلك طاقة َحياةٍ مهولة، وهي ولّادةٌ معطاءة عندما يجري رعايتها والعناية بنموها حتى تُثمِر..

ولهذا فإنّ دلالة تموز عصرنا لا تنفك أبداً تعبر عن معطيات المعجم الحضاري السومري. إنها تؤكد المعاني والقيم التي زُرِعت يومها لتبقى ما بقيت الإنسانية. وإذا كانت حضارة الإنسانية اليوم قد امتاحت من سومر و عدَّتْها مهدَ حضارتها الأولى فإنه أَولى أيضا ودائما بالعراقيين اليوم بكل شعوبهم وبمختلف انحداراتهم القومية والدينية أن يؤكدوا تمسكاً بتلك الأصول ومبادئها التي سجلتها في معجمها الباقي.

إننا لا نمنح الأرقام قدسية خارجية لأنها مهما ضخَّمناها ستبقى وجوداً سطحياً فارغا ما لم تكن نابعة من وجود سامٍ نبيل وهو الحقيقة  التي تحملها مناسبة الرابع عشر من تموز؛ ونحن، إذاً، لا نصطنع احتفاليات بتواريخ جوفاء، لأنّنا نمتاح من تاريخ ثرٍّ غنيّ مواصلين مشوار العطاء والإنجاز والبناء والتنمية، بهمة نظيرة لما امتلكه السومريون من قدرات وهمم قارعت مختلف أشكال التخريب والتدمير الذي طاولهم.

إنّ ثورة 14 تموز والجمهورية العراقية التي جاء بها الشعب، تحفلُ بكل علامات التمدن والتمسك بالإيجابي باتجاه حركة تنمية سليمة.. ومن علاماتها ورموزها الباقية زعيمها عبدالكريم قاسم الذي استشهد دفاعا عن المبدأ، ومن علاماتها الكبيرة الملا مصطفى البارزاني الذي عاد شامخاً منتصراً للكورد ولوحدة الوطن والشعب.. ومن علاماتها أنّ الشعب الذي أحبّ قادة التحرر الوطني والقومي قدّس، بذلك، قيم التمسك بالوطني الديموقراطي وكلَّ ما أعلا من دور الشعب واعتمد خياراته جوهراً رئيسا ونهائيا للقرار والمسار..

ففي 14 تموز الثورة، لم يدفع قادة البلاد الشعبَ نحو بكائيات ومظلوميات ولم يشاغلوهم بطقسيات سلبية ولم يصطنعوا مناسبات مثيرة لكل ما هو مرضي يعرقل الهمم ويعطل جهود التنمية والبناء على مدار العام.. ولكنهم بديلا عن كل ذلك دفعوا لاحتفاليات انتصار صوت الشعب بأطيافه ومكوناته البنيوية السليمة.

لقد جابهت بالأمس البعيد، شعوبُ سومر نكبات الفيضانات والتغيرات البيئية التي خربت بيوتهم ودمرت مزارعهم وطحنت اعتداءات الهمج وجودهم وفتكت ببناتهم وأبنائهم، لكنهم لم يندبوا على مدار العام بل ساروا بثقافة الإنسان المتفتحة المتفائلة المتنورة.. ولهذا شادوا مهد الحضارة البشرية، ولهذا مازالت البشرية ترى فيهم النبراس في التمسك بمنطق العقل العلمي التنويري…

اليوم، نحن بحاجة لاستدعاء كل ما هو إيجابي في ذياك التاريخ المجيد مثلما فعلت ثورة 14 تموز، ومثلما المبادئ التي أكدتها ومثلما فلسفة التحرر والتقدم الاجتماعي  التي تبنتها.

اليوم نحن بحاجة لتوحيد جهود الشعب بمختلف مكوناته، باحترام التعددية وتقديس التنوع القومي والديني ومنحه الحريات التامة الكاملة كي يمارس وجوده ويُعلي صوته في مسيرة البناء والتنمية التي نختارها..

اليوم، نعيد لاحتفال 14 تموز السومري مجده ولدلالة ثورة 14 تموز عمقها وسلامة خياراتها في بناء الجمهورية التي تحترم المواطنة أساسا وتقدس للمواطن حقوقه وحرياته مثلما تتبنى العدل والمساواة بين جميع مكونات الشعب من انتماءات قومية ودينية…

فلنغادر ما بدا من سلبيةٍ عند بعضنا ونبتعد نهائياً عمّن أراد أن يستعبدنا بقيودِه وأن نتصدى له بإيجابيتنا وبجسور الإخاء الوطني والإنساني وبانعتاقٍ وتحرر من نير ثالوث الطائفية، الفساد والإرهاب وفلسفاتهم وآليات ارتكابهم جرائمهم…

تلكم هي  14 تموز بين مجدها السومري ودلالتها المعاصرة؛ إنها وجود يحيا في حضارة يومنا عند مجتمعات تتمسك بقيم التراث الإنساني سومريّ الهوية؛ ومثلما شعوب سومر فإن الشعوب العراقية هي أولى بحمل رايات السلام والتقدم والديموقراطية، إذ هي رايات الفرح والمسرة والاحتفال بالبناء والتنمية بدلا من إغماض الأعين والسير بدياجير الظلام وتخلفه حيث البكائيات والسلبية والانشغال عن مهام حراسة وجودنا من جرائم كبدتنا كثيراً.. وهذي ثقة بأن نحتفل بتموز العام التالي بحشد شعبي يلتقي بميادين الانتصار على الإرهاب، ميادين العمل وصنع مجد دولة مدنية ديموقراطية جسدت وتجسد حق تقرير المصير لأهلنا في الوطن بكل تنوعات أطيافهم وألوان وجودهم..

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *