تغلغل طائفي بحاجة للتصدي له في آليات عملنا

تشتغل الطائفية في أداء وظائفها بجوهر الفرض القسري وبروح عنفي في ممارساتها.. وتنقسم ضغوطها بين الأفعال العنفية دموية الطابع، عبر ميليشياتها المسلحة وبين الأفعال العنفية القيمية الروحية.. حيث الضغط بأدوات التضليل من جهة بكل ما ينجم عنه من أرضية إيمان متوهم الفروض والقواعد وأدوات العنف النفسي من جهة أخرى بكل ما ينجم عنه من ضغوط اعتبارية تدفع باتجاه ممارسات قيمية سلبية خطيرة؛ هي في المحصلة الأساس الكارثي لتمكين سلطة الطائفية السياسية من إدارة الوضع العام لمآربها المرضية البعيدة والقريبة…

وإذا أجلنا هنا مناقشة الضغط عبر بلطجة القوى الميليشياوية الطائفية المسلحة بما تشكله من مخاطر على هوية الدولة والمجتمع؛ وناقشنا الأمور القيمية السلوكية في الممارسات وتفاصيل اليوم العادي للإنسان في دولة السلطة الطائفية، فإنَّنا سنجد معالم مثيرة بحاجة لمراجعة وتوقف أمامها..

إنّ حال التقسيم الطائفي للمجتمع يخلق جملة محاذير مسبقة من الآخر. حتى عند العناصر الإيجابية الوطنية ينفذ الضغط [الطائفي] إلى دواخلهم ليشوّه الأسس القيمية، وقد يصيب معايير التحليل عندهم لا في الأطر السياسية بل في الأطر المجتمعية والبنى النفسية ومن ثمّ في الارتباطات والعلاقات الاجتماعية بالآخر..

وكلما تضخّم الأثر الطائفي السياسي، تضخّم معه دوره في توجيه الخطاب المجتمعي. ولعلنا بحاجة دائما لقراءة وسائل أدائنا وممارساتنا اليومية في توجيه خطابنا الشخصي من جهة وفي التحكم بعلاقاتنا وإدارتها إيجابيا من جهة أخرى…

وبالإشارة إلى حوارنا الداخلي الذي يرسم صورة لتداعيات منولوجات أنفسنا؛ وكيف تقرأ الأمور يتخذ الفرد عددا من المعايير الغريبة في معالجة موضوع أو قضية كما يتخذ تلك المقاييس ذاتها في التعامل مع الآخر. إنّه يعالج مادته بآثار سلبية لفكر الطائفية السياسية ومقدار نفوذ قيمها ومعاييرها في دواخله، حيث تصنع رقيباً داخلياً وتغرس صفارات إنذار وتحذير (طائفية) المنهج.. وبهذا تجد المواطن واقع في مصيدة أو شرنقة التمترس الطائفي بقناعات تتوهم أنّ تلك المتاريس  هي ضرورة دائمية أو مؤقتة لحمايته؛ الأمر الذي يدعوه لمعالجات نفسية ذهنية تتخذ من قيم الطائفية وسيلة تحليل ومعالجة، فيما يُظهِر للعامة في محيطه استمراره في تبني خطاب الوطنية والفلسفة المدنية العلمانية.. وهو في كلاهما صادق إلا أنه في الحقيقة واقع في أسر مصيدة الطائفية وآلياتها.

وليس أبرز من التحليلات والمواقف المتخذة تجاه حدث أو آخر. إذ يكون المواطن واقع بأولويات ترتيب الأعداء على سبيل المثال.. فأولئك المنحدرون من الانتماء المذهبي السني يجدون العدو هو السلطة الإيرانية وتدخلاتها وتأتي دول إقليمية أخرى بتسلسل أو ترتيب تالٍ وقد لا يوردونها  بقائمة العداء والتدخل السلبي؛ بحسب أثر التخندق والتمترس الطائفي وتمكنه من الشخص في تحليلاته، فيما يضع المتحدرون من انتماء مذهبي شيعي  السعودية وقطر وما يسميه الخطاب الطائفي الدول السنية على رأس الأعداء والمتدخلين سلبيا في الشأن العراقي..

هذه القضية تنعكس بشكل أعمق في التحليل الداخلي. إذ تجد الأسبقية للأثر السلبي تنوعا لتقديم القيم الطائفية في الحكم. فعندما يتحدث شخص في تحليل قضية فإنه قد يقع بمصيدة التأثر بمعايير مرضية يُضاف إليها أن يكون ردّ فعل الآخر بمزيد من الحفر في خنادق التمترس الطائفي ويقف على النقيض فيقرأ تحليل الآخر بوساطة آلية طائفية ولكن بتمترس مع الجناح الذي ينتمي إليه مذهبياً..

وتبدأ دوامة ابتلاع الاثنين اللذين يرغبان في الانتماء الوطني وفي التصدي للطائفية ولكنهما مُبتَلَعان في الثقب الأسود لتأثير الخطاب الطائفي وآلياته المرضية بحجم ضغوطه المهولة وسيادة منطق المحاذير الاضطرارية.. تلك المحاذير الناجمة عن قوة السحق سواء المتأتية من أنهار الدم لجرائم الميليشيات وعصابات المافيا المسلحة بالرصاص والبارود أم المتأتية من إمكانات التضليل وأوهام الاحتماء بالميتافيزيقي المعلن بصورة إيمان ديني أم المتستر بصورة احتماء نفسي وما يلجأ إليه الفرد من ممارسات وعلاقات وفي ضوء الواقع السائد…

إنّ هذا التشخيص لا يغفل ما تفتحه قيم الحرية والمساواة من فرص لظهور بعض الثغرات السلبية من قبيل ضياع محددات التمييز بين الجهد التخصصي للعلوم والعلماء وللمعايير والثوابت التي تفترضها مناهج البحث والتحليل علمياً بمقابل الفهم الخاطئ لمعنى المساواة الإنسانية وحق التعبير

إذ بات يخلط كثير من جمهور البلاد بين أمرين يجب احترامهما على حد سواء بالتمييز بين احترام حق التعبير في ميدان الرأي وتبادله وبين احترام منطق العقل العلمي وما يفرضه من محددات بشأن الجهود المبذولة في إطار التخصص ومن قبل المتخصص…

إنّ فتح السجالات مع المتخصص في ميدان تخصصه بدل ممارسة الحوار والإصغاء للمنجز وطرح الأسئلة للاستفادة الموضوعية القصوى هو ما يسود في ظل منطق الطائفية وأمراضها وتحكمها بالشأن العام.. فالجمهور يرى الجهلة يتحكمون بالوضع العام فيسمح لنفسه بما يدخل في السجال لا الحوار أو بفوضى وعبثية ليس لهما محدد سوى وهم ممارسة حق التعبير ونشخصه بالوهم كونه لا يمارس حق التعبير في ميدانه بل خارجه بما يعرقل بل يعطل منطق الأداء وفرص بنائه العقل العلمي وذهنية التفتح بأسس سليمة..

مثل هذا يتأسس على الجهل بجغرافيا ميادين الحوار وآلياته السليمة ووقوعه أسير نهج التضليل الذي تمارسه آلية بيانية، هي آلية التفكير الأسطوري وأدنى منها آلية منطق الخرافة حيث تسطيح العمق الفكري الفلسفي لكل الموضوعات والقضايا وسذاجة المعالجة التي تنتمي لمحاولات التعويض النفسي والاجتماعي. النفسي والاجتماعي بمقدار ضغط الشعور الداخلي بشأن الإحساس بالتأخر عن مواكبة الآخر وطابع معقد من الأحاسيس الناجمة عن زمن الضيم والظلم والعذابات والاعتقاد ببديل يظنه تعويضا عندما يقوم على فلسفة الثأر والانتقام والاقتصاص بكل ما يحمله من غضب وثورة عمياء بلا مبادئ ومحددات للبديل الموضوعي توقع في مطبات مماهاة المجرم وهي غاية الطائفية وعرسها لأنها بهذا تتجنب البديل الموضوعي الذي يعني الانتهاء من وجودها ومحوها بالتقدم بالإنسان والمجتمع إلى ميدان فسيح للعقل العلمي ومنطقه وآلياته…

انظر إلى تصريحات قادة الطائفية، فهم دائما يذكرون الناس بأنهم مازالوا يخوضون المعركة التي خيضت بين طرفيها قبل 14 قرنا والثأر يبقى ابديا في فلسفتهم وفي الحقيقة فإن عدم وجود ما يبرر الاحتراب والتخندق العدائي بين الناس في عصرنا يجعل الطائفية تضع متاريسها في ضوء اجترار الماضي من جهة وبناء على استدعاء منطقه وتغريب عيش المواطن عن عصره بإعادته القسرية التضليلية إلى مراحل تاريخية مرضية أغلب صورها مفتعل ويقوم على اصطناع ما يبرر جرائم الطائفية إخفاءً لمآربها الحقيقية في استغلال الناس والتحكم بهم…

إنّ التعرف إلى تلك الآليات بدراسات تخصصية لمختلف العلوم السايكولوجية والسوسيولوجية والسياسية والتعرف إلى معايير البديل بصيغة نوعية مختلفة هي أول الطريق لتطمين أسس التغيير.

على أن يلتفت الساسة إلى واجباتهم في إيصال القراءات الموضوعية بشجاعة في تبني الرأي والموقف الأنضج والأكثر سلامة لا الذي يمالئ الوضع العام للطائفية ونظامها الكليبتوقراطي الموجود فعليا اليوم في العراق. ومن دون ذلك سنترك المواطن المغلوب على أمره واقع في مطبات كارثية كل يغرد في ضوء تأثراته بضغوط الطائفية وفلسفاتها…!؟

شخصيا أسجل أن الميول الطائفية وآثارها القيمية ومنطق فلسفة الأداء باتت اليوم تؤثر حتى في أكثر الحركات توجها مدنيا علمانيا لأن تلك الحركات لا تتشكل من ملائكة ومن عناصصر من خارج المجتمع المصاب بهذا الوباء ولهذا فإن التغيير البنيوي يبدأ من داخل تلك الحركات وممارساتها وخطابها.

فإن لم ينطلق الخطاب موضوعيا وبمنطق العقل العلمي فإن التمترس الطائفي سيصل مبتغاه في إنشاء كينونات طائفية أو كانتونات تخضع لدموية الاقتتال بينها وتقبل بلا مناقشة ما يبرره لهم قادة جريمة امتصاص دماء البسطاء في خيمة التجهيل والتعمية والتضليل وتمكن خطاب التضليل وتجذر روح الثأر والانتقام…

دعوني أذكِّر هنا بأن الخطاب التضليلي المفروض قسراً مما شاع  وتمكن من المشهد العام يتحدث عن السنّة والشيعة وعن معركتهما التاريخية فيما يستسهل أنصار الخطاب البديل استخدام المصطلح الطائفي ويكررون استعماله بلا روية وبلا تفكر أو تدبر وإن كانوا يقرّون بخطئه.. أليس هذا مما يفضح طابع المعركة الحقيقية وجوهرها؟

إننا بحاجة لإعادة تذكير أنفسنا بمهمة التصدي لهذه القيم السلبية المرضية وكيفية التخلص منها بدل استسهال التعامل بها وتمريرها بما يمرر مآربها ويخدم قوى الطائفيية السياسية…

إن كل من يتمسك بالوطني بجوهره الإنساني وبالمدني بقيم العلمنة يبقى بحاجة للبرهنة على موقفه في ممارساته اليومية بأن تكون محاذيره من الثغرات التي تسمح باختراق خطابهب ومنطقه وفي كون معركته في الفكرة الطائفية كونها جرثومة وجودنا الإنساني الوطني..

إننا لسنا في حرب مع الآخر وجودا إنسانيا بل مع أمراضه الفكرية الفسلفيية ومع آليات عيشه وبرامجه في الحياة. نريد أن نأتي ببرامج عمل وآليات تخدم الجميع بلا استثناء وليس في إقصاء أو إلغاء يبرر جرائم الثأر والانتقام ومحاولة إبادة الآخر وتصفيته جسديا دمويا….

وإلا فإن على أصحاب منطق الثأر والتمترس الطائفي وقراءة الآخر من منظور الانتماء المذهبي قبل منظور دراسة رؤيته وممارسته وآليتها، عليهم أن يدركوا أنهم لا يختلفون عن الطائفي وأنهم يسهلون جرائمه ويشاركونه مزيد ارتكابات إجرامية دموية وحشية الآليات!!

وعسى تكون هذه المعالجة ذات أثر ونفع تكتمل بقراءة الآخر وإنضاجه منجزها باتجاه مقاصدها وأن تتلقى حوارا يعمقها ويعالج نواقصها وما فاتها. وللقراءة بقية…

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *