الخطاب الطائفي بين الدعم الإقليمي الدولي للسيادة وخروقاتهما لها؟

في كل إجراء أو قرار يندرج في إطار أداء حكومة بغداد، تتكشف تفاصيل جديدة لطابع الخطاب الطائفي ومنهجه في إدارة السياسة العامة. وقد تأتي بعض الإجراءات باتجاه صائب؛ إلا أنها لا تُتخذ إلا في ضوء محدّدات طائفية.. ولقد كان من آخر تلك المواقف المعلنة ما ارتبط بوجود قوات تركية في الأرض العراقية!؟

ومن الطبيعي أنْ يكون تشخيص وجود قوات أجنبية في أيّ بلد من دون طلبه وموافقته تدخلا سافراً يمسّ سيادة البلد ويمنحه حق اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لاستعادة حقوقه. وتتدرج تلك الإجراءات من الحوار الثنائي والعودة إلى المنظمات الإقليمية والدولية والضغوط الدبلوماسية حتى تصل إلى أشكال من المقاطعة والضغوط الاقتصادية وقد تدخل منطقة منفلتة من عقال الخطاب السلمي متداعية نحو أعلى أشكال الخطاب السياسي عنفاً، بوصفه الحل الأخير ضد التدخل وإخراج القوات…

لكن، ماذا بشأن الحالة العراقية بوجهها العام؟ وماذا بشأن وجود قوات تركية في الأرض العراقية؟ كيف يمكن قراءة الأمور؟ وفي ضوء أية محددات؟ مع الاحتفاظ بمبدأ أساس اشرنا إليه برفض التدخل بكل أشكاله ومن تركيا تهديداً مثلما من غيرها.

معروف أن القضية العراقية جرى تدويلها، منذ قرارات مجلس الأمن وما تلاها بشأن النظام الدكتاتوري في العراق، والحرب التي خيضت على أرضه، بقرارات دولية، نجم عنها إسقاط الطاغية وحل مؤسسات الدولة العراقية وتنصيب مؤسسة بديلة قامت على أساس لا صلة له بالدولة المدنية الحديثة! حيث جرى التأسيس لنظام محاصصة طائفية، لم يعرفه العراقيون لا في تاريخهم القديم ولا الحديث.

وقد ترتب على ذلك، تسليم مقاليد السلطة لأطراف استدعت الخطاب الطائفي من أدراج تاريخ انتهى أممياً دولياً في التاريخ الإنساني منذ قرون. وأسست لتقسيمات مجتمعية مفروضة بسلطة ميليشياوية مسلحة وإرادة سياسية (طائفية) بامتياز…

وكان لابد من جهد داعم لمثل هذا الانقسام من جهة، وتسويق لوجيستي خارجي من جهات إقليمية، وإلا فإنّ تلك القوى الهشة فكرياً سياسياً ستنتهي سريعاً.. وتتعرض البنى الجديدة لانهيار سريع، لا توجد بدائل جاهزة له بسبب الانكسار العسكري لمؤسسة الدولة العراقية وتفريغها من محتواها أصلا من قبل النظام القديم ومن جهة هشاشة المرحلة الانتقالية وبدائلها السلبية المرضية التي أتت…

لقد تمّ إقصاء أية محاولة لبناء أسس دولة مدنية سليمة عدا تلك التي واصلت نموها في كوردستان بعيداً عن سطوة الطائفية وخطابها. وهكذا تحالفت القوى المتحاصصة التي اقتسمت بنى الدولة غنيمة خاصة، تحالفت مع جهات إقليمية توفر لها الدعم اللوجيستي من جهة وتوجد الأرضية المناسبة لبقائها في سدة (الكرسي) الغنيمة!

وعلى خلفية الخطاب الطائفي السياسي جرى ويجري التعامل في العلاقة مع المحيط الإقليمي. وبدل وجود استراتيجية لعلاقات مبدئية تقوم على حسن الجوار والتعايش السلمي وتبادل المصالح المشتركة، جرى تمرير الأمور بتحالفات خارج المصلحة الوطنية العراقية ومحدداتها ومقتضياتها. وبات جناحا الطائفية المهيمنان على الأوضاع [والحكومة بشكل جوهري] يقدمان التبريرات للتدخلات الإقليمية وتحولت (بعض قطاعات) فيهما إلى حصان طروادة  لتلك القوى الخارجية على حساب السيادة وعلى حساب الشعب العراقي!

لقد دعمت قوى إقليمية بعض التشكيلات المسلحة المتمردة وأخرى الدخيلة على العراقيين كما حصل بالمناطق الغربية؛ ووصل الأمر إلى مستوى استباحة تلك المنطقة لاحقا من قوى الإرهاب في ظل مثل تلك الجرائم التي سوّقت لوجيستيا ووجدت من وفّر لها بسهولة استباحة المنطقة عندما سحب عديد القوات المسلحة العراقية بل حلّها وسلّم الأسلحة لشراذم إرهابية، بالإشارة إلى (القائد العام) الذي أدار هزلية تسليم الموصل!!

ونفس القيادة العامة التي أمسكت بالسلطة لثماني سنوات عجاف، لم تُبدِ حتى احتجاجاً للتعمية على الاعتداءات التي ارتكبتها الجارة الشرقية عندما قصفت مناطق جنوبية وغيّرت في العلامات الحدودية واحتلت آبار نفط فيها وعندما قصفت مدناً وقصبات كوردستانية وعندما تجاوزت الخطوط الحمراء في المياه الإقليمية وباتت تسرح وتمرح وتعتقل الصيادين وحوّلت أكثر من أربعين مسار مياه عن مجاريها المتجهة إلى العراق وأرسلت بديلا في نهر الكارون مواد كيمياوية وملوثات نووية!! وعندما أدخلت ما يفتك بالثروة المائية والإحيائية في المناطق الجنوبية كما في البصرة والعمارة وأنهارهما واهوارهما!!

وينطبق الأمر على الطرفين الطائفيين مقتسمي السلطة الغنيمة بموقفهما من تركيا؛ التي قصفت في الأراضي الكوردستانية وقطعت نسبا خطيرة من الحصص المائية في دجلة والفرات واندفعت بأعماق مخالفة حتى الاتفاقات التي وُلِدت في ظروف سلبية سابقة.. ولم تقدم احتجاجا على أشكال الأعمال الحربية التركية وأحد الأجنحة يرحب ويهلل لتلك الأعمال المجرَّمة دولياً ويجتهد لتبريرها!

لقد تغيرت الخارطة الجيوسياسية إقليمياً وتطلبت الأوضاع جملة اتفاقات جديدة، نجم عنها اتفاق بين حكومتي بغداد وأنقرة بشأن تدريب قوات عراقية وفي الإطار تحديداً تدريب قوات كوردستانية.. وفي ضوء ذلك تم استحداث جملة من الإجراءات الميدانية على الأرض تنفيذا لتلك الاتفاقات سواء مع القيادة الحكومية السابقة أم مع القيادة الحالية..

إنّ القضية، إذن، تتعلق بصيغ وجود تلك القوات وحجمها وكيفية اشتغالها ومناطق تنقلها وحركتها من جهة أساس وليست قضية إدخال قوات بلا علم وبلا اتفاق، كما يوعل بعضهم في تصويره والتطبيل لغوغاء انفعالية لا تنظر بعيداً…

وإذا كان صحيحاً تماماً أن تخضع تلك القوات التركية، القديمة والبديلة الجديدة، لمحددات الطلب العراقي الرسمي.. وإذا كان صحيحاً أن تنسحب حال طلب الطرف العراقي الرسمي على وفق الأعراف والقوانين الدولية، فإنه من الصحيح أيضاً أن يتم التعامل مع القضية بأسسها وخلفياتها المحددة في الاتفاقات القائمة بين الطرفين، وليس عبر الشحن وغثارة العبار إعلاميا بكل ما يعنيه ويمرره مثل هذه الآلية…

ومن هنا نقترح التصور الآتي في التعامل الرسمي والشعبي مع هذه القضية:

  1. أنْ يتم حصر الحوار الدبلوماسي بالخطاب الرسمي المعتمد وعلى وفق الاتفاقات التي تحترم السيادة وتمنع أيّ شكل للاعتداء والتجاوز وتلتزم بالاتفاقات الجارية ومحدداتها الأصل.
  2. أنْ يجري تحديد متطلبات المرحلة ومستحقاتها عراقياً، في ضوء التوجه لاستعادة سلطة الدولة بمناطق الموصل وغيرها؛ وأن يتم هنا أخذ الدور الكوردستاني ومن ثم رؤيته للقضية كون المعركة الجارية تتم بثقل مباشر عليه..
  3. أن يجري وقف الخطاب السياسي والشحن الإعلامي السلبي، بخلفيته الطائفية من جميع الأطراف.
  4. أن تتم معالجة الأمور على وفق المصالح العراقية العليا وأولياتها الخاصة بها وفي ذات الوقت، أن يتم وقف تحويل العراق إلى ملعب للصراعات الإقليمية والدولية والحراك كصدى لتلك الإرادات..
  5. إبعاد القوى الميليشياوية (الطائفية) بجناحيها من التدخلات العابثة بمصائر العراقيين بوصفهم شعباً واحداً لا غنيمة مقسومة بمحاصصة طائفية.. ويقتضي هذا ضمان مصالح الشعب العراقي العليا من طرف الدولة العراقية وإنهاء حالة البلطجة ومقتضياتها المؤدية لاستدعاء الدعم اللوجيستي من أطراف خارجية، بخلفيتها الطائفية.
  6. أن يكون لدى الحكومة العراقية موقف يستند أولا للدفاع عن السيادة العراقية ومصالح البلاد العليا تجاه (كل) الخروقات الإقليمية بكل أشكالها ومن (كل) المحيط الإقليمي وثانيا في مشروعات محددة الخطى في ضوء الاتفاقات والقوانين الدولية عند التقدم للمنظمات الأممية ومنها مجلس الأمن، بشأن أية قضية..
  7. أن يجري ضبط العلاقات الإقليمية والدولية على أسس تحكمها مصالح العراق المشتركة مع الجميع لا أسس عبثية تعزز الانقسام الطائفي وتمعن في حماقات السياسة الطائفية وجرائمها بحق الشعب ووحدته وسيادتيه الداخلية والخارجية.

من جهة أخرى فإنَّ الأوضاع تتطلب اليوم، وعي القوى الوطنية العراقية لطابع ما يجري؛ الأمر الذي يفرض عليها ألا تنجرّ للعبة الطائفية وخطابها ومرجعيات صراعاته وتحالفاته، وألا تقبل بتجيير مواقفها الوطنية لصالح الخطاب الطائفي السائد في المشهد العراقي. ومن ذلك فإنّ صبّ مزيد زيت على نار الشحن، الطائفي المرجعية، لا يندرج ضمن الدفاع عن مصالح الوطن ولا عن سيادته بل سيقع في إطار تعميد الخطاب الطائفي والتمترس خلف من يقف مع هذا الجار أو ذاك .. وبالمحصلة فإنّ ترتيبات وخروقات دولية أخرى يتم تمريرها وسط ضجيج وعجيج لا يعالج المشكلة ولا يتصدى للخروقات الأخطر..

إنّ على هذه القوى الوطنية أن تمتلك البديل. وليس هذا البديل في التطبيل لأحداث هامشية فيما أحداث أخطر عمقاً تجري على الأرض! ومعروف أن المهمة الاستراتيجية اليوم تكمن بمحورين جوهريين رئيسين هما:

  1. بناء الدولة بأسس وطنية لا طائفية ومحاربة الفساد الذي نخر البنى والركائز الجوهرية للدولة.
  2. تعزيز الاستعدادات العسكرية الأمنية مع مواصلة خوض معركة استعادة سلطة الدولة على ما اُستبيح من البلاد من قوى الإرهاب…

وسيتطلب هذا إعادة النظر في المواقف من التحالفات الإقليمية ومن أشكال المساعدات التي تتطلب اتفاقات بعينها في إطار التحالف الدولي الإقليمي في محاربة الإرهاب.. وينبغي للعراقيين رسميا شعبيا أن ينأوا بأنفسهم عن الاشتراطات الأجنبية الممثلة لمصالح قوى دولية وإقليمية لا تلتقي بمصالح متبادلة مشتركة عراقية…

إن مثل هذا يستلزم ضبط النفس وإن كانت بعض القوى الإقليمية والدولية توغل في استغلال المشهد العراقي المتداعي المنخور.. لأنَّ الأولويات تفترض شيئا من الخسائر مقابل ربح الهدف الأول والأعلى الأسمى باستعادة وجود الدولة ووحدتها وحماية مصالح الشعب بكل مكوناته..

من جهة مهمة أخرى، الآن وليس في أي وقت آخر علينا ممارسة الموقف السليم من الدور الكوردستاني عراقيا بنيويا وليس الانجرار وراء عنجهية المركزية حيث لا تعبر تلك العنجهية عن هويتها بقدر ما تعبر عن مواقف خارجية تفرضها جهات ذات مصالح لا علاقة لها بكل العراقيين وبالعراق الفيدرالي وجناحيه..

من هنا فقضية وجود قوات تركية تستلزم موقفا ينسجم مع استراتيجيات وطنية ومشتركات بين البلدين، يمكننا عبر فرض أسسها السليمة، الوصول إلى تلبية تطلعاتنا وحماية سيادتنا مع توفير التعبئة الضرورية لمعركة أكبر وأهم هي ليست الافتعالات والانفعالات مع الجارة التركية أو الإيرانية أو العربية ولكن البحث عن أسس توفير الدعم اللوجيستي حاليا لمعركتنا من جميع هذه القوى بعيداً عن مثالب وارتكابات بعض ساسة و\أو قادة في تلك البلدان تجاه العراق والعراقيين..

وإن هي إلا لعبة السياسة وفروضها وشروطها وليس عبثا يجهل كيف يدير معاركه فينتقل من مطب ليقع في آخر حتى يقضي عليه التداعي والانحدار التراجيدي الجاري!

أجزم أن خطاب التصعيد والجعجعة عند أطراف جناحي الطائفية ليسا إلا التخريب بعينه فيما الأمل بموقف وطني مناسب لا ينخرط في تلك الانفعالية السلبية بل يتعامل مع موقف إيجابي جديد يستند لفهم صحيح ورؤية سديدة لمعاني الدعم وأداء صحي في التصدي للتدخلات…  و رسميا يُنبئ به الموقف الكوردستاني الحالي، فيما شعبيا نحتاج للانعتاق من الانقسامات وتأثيرات التسبيق الطائفي، ولعل ذلكم بعض الحل….

فهلا استوعبنا الدرس!؟

للمعالجة بقية بين ثنايا ما تطرحونه من تساؤلات وتفاعلات

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *