بأيِّ منظور نتحدثُ عن القضيةِ الكوردية ونعالجها؟

ما القضية الكوردية؟ وما حدودها؟ وما خلفيتها؟ وما تاريخها؟ وما جديدها؟ عند تحديد إجابة عن تلك الأسئلة، ستجد أننا أجبنا عن المنظور الذي يمكننا عبره أنْ ننظر إلى القضية الكوردية. ولأنّ العنوان يتحدث عن المنطلق والتأسيس لرؤية تعالج تلك القضية فسنحاول الابتعاد عن التفاصيل لنركز على إجابة مناسبة تتحدث عن المنظور المعالج…

ولطالما جابه أصدقاء الشعب الكوردي اتهامات كثيرة بسبب معالجتهم تلك القضية وتناولهم لمفرداتها. ولعل أبرز مهاجمة تعرض لها أصدقاء الكورد تلك التي جابهتهم عند تأسيس (التجمع العربي لنصرة القضية الكوردية) على سبيل المثال لا الحصر. فلقد تبرعت عناصر من شتى المشارب والانتماءات القومجية وحتى اليسارية المتشنجة أو المتشددة المتطرفة، لمهاجمة تلك المنظمة ومهامها التضامنية مع أمة مزقتها اتفاقات دولية معروفة تاريخيا…

إنّ أول إشكالية هوجم فيها هذا التجمع تمثلت في إنكار وجود الأمة الكوردية على خلفيةِ فرضية عدم وجود دولة كوردية في العصر الحديث! وهو إنكار يقوم على ربط وجود الأمة بالدولة ليقروا لها بالوجود!! كما يتابع أصحاب الإنكار ليلغوا ظهور جمهورية مهاباد وثورات شعوب كوردستان المجزأة.. وطبعا يتغافلون عن اتفاقيتي سيفر ولوزان التي وعدت الكورد بدولتهم ثم تخلت عن الوعد في متغيرات دولية لاحقة، في لحظة ولادة الدول الونية والقومية الحديثة مطلع القرن الماضي..

الأنكى أن توجد أمة بعشرات ملايينها فيما يتحدث بعضهم عن قسم جرى تتريكه وآخر جرى تفريسه وثالث جرت محاولات تعريبه ولكن بجميع الأحوال، انكسر ذلك اللغو والتعتيم التضليلي، وانتصرت إرادة شعوب كوردستان والأمة الكوردية  في دحر محاولات الإذابة وتمسكوا بعناصر وجودهم القومي.. كما أعلنوا ثوراتهم القومية التحررية على مدى القرن الماضي ومطلع القرن الجديد…

إنّ وجود الأمة (الكوردية) لا يمنعه غربال القومجية وقواها الشوفينية في الأمم المجاورة من فرس وترك وعرب.. وأبعد من ذلك فإنّ قوى التحرر التقدمية في تلك القوميات المجاورة للكورد أعلنت بوضوح عن تضامنها الإنساني وعن تبنيها طريق التعايش السلمي والتآخي واحترام وجود الآخر وحقه في تقرير مصيره..

ومن هنا نشأت غب الثورة الكوردية التحررية فديرالية كوردستان في إطار العراق الاتحادي الجديد تدعم هذه المسيرة قوى عربية ترفض الخطاب الاستعلائي الشوفيني وكانت صاحبة المبادرة لاستعادة التحالف التاريخي بين الأمتين العربية والكوردية بقواهما التحررية، إنهاءً لكل المآسي التي جرتهما إلى صراعات غير مبررة وإلى جرائم فاشية ارتكبتها نظم طغموية دكتاتورية بحق الكورد في وقت لم تعبر تلك النظم الشوفينية إلا عن مآربها الدنيئة وليس عن العرب لا في العراق ولا في غيره من دول المنطقة…

إنّ الحراك التقدمي للعرب ولقواهم التنويرية أكد دائما على الروح الأممي في التحالف مع الشعوب والأمم المتجاورة المتعايشة في ذات المنطقة تاريخياً. ولطالما أكدت وعبرت تلك القوى الحية عن الشعوب العربية وتطلعها للتعايش السلمي وللتحالف البنيوي في إطار استراتيجي يعترف أولا بحق تقرير المصير ويؤكد ثانيا على خطى تحقيق تلك التطلعات في بنى تتدرج باتجاه تلبية أبعد الآمال وفي الوقت ذاته لا تقوم إلا على الاختيار الحر وعلى استفتاء الرأي العام لدى جميع الأطراف..

لكن مع ذلك علينا أن نلاحظ بعض السلبيات التي مازالت تنبعث بين الفينة والأخرى.. من قبيل مهاجمة التجمع العربي لدفاعه عن الكورد وتضامنه معهم بذريعة أن الكورد حصلوا على ((كل حقوقهم))! ومثل هؤلاء يحصرون القضية الكوردية بحدود العراق وينظرون إلى الكورد كونهم فقط أولئك الموجودون في الحدود المرسمة للدولة العراقية!؟ وطبعا يصورون كوردستان العراق بطريقة مرضية كما يحلو لأوهامهم أن تفتهل من صور.

 بينما القضية الكوردية أوسع من ذلك تشمل أوضاع الكورد بأجزاء كوردستان الأربعة في سوريا وتركيا وإيران إلى جانب العراق.. كما أن القضية الكوردية لم تنحسم حتى بشقها العراقي إذ مازالت تتعرض لانتهاكات سافرة بخلفية العنجهية التي تمارسها قوى مرضية وريثة لقوى الشوفينية والروح القومجي الاستعلائي عند بعض العروبيين وبقايا التشوهات في خطابهم…

ينبغي أن نرصد التذبذب في تصريحات زعامات بلدان مثل تركيا وإيران ومواقفهما تجاه القضية الكوردية وتلك التصريحات عادة ما رافقتها جرائم ضد الإنسانية وإلغاء لأي اعتراف بالقضية من أصلها.. ومن هنا فإن التضامن مع الأمة الكوردية ليس نكاية بأحد ولا استعداء له أو وقوفا بوجه أمة أخرى أو على حسابها بل دفعا باتجاه الحلول السلمية التي ينبغي اعتمادها في التعايش والتآخي وفي تبادل الاعتراف واحترام الآخر وحقوقه كاملة بلا مثلبة او منقصة..

وهكذا فقد كان ويبقى التضامن مع الكورد في كوباني ومآثرها البطولية هو ذاته في التضامن مع شرق كوردستان في التصدي لما جرى ويجري من قمع وجرائم وقعت وتقع بطريقة تعسفية خطيرة…

إن التجمع العربي بناء مؤسسي للتنويريين العرب، يريد أن يبرهن على وحدة الشعوب والأمم وعلى سلامة العلاقات الودية، علاقات التعايش بينها بديلا عن نغمة بعض النظم وما ارتكبته بحق الكورد مذكرين هنا بجرائم الأنفال وحلبجة وغيرهما مما ارتكبته سلطات الفاشية الشوفينية. ويريد أن يبرّئ الشعب من جريمة النظام ويحصرها بمن ارتكبها..

ومثل هذا لا يأتي إلا من ثقافة تنويرية إنسانية متفتحة تعترف بالآخر وبحقوقه ولا تبقي على مشاعر الاستعلاء والتصدق تجاه الآخر أو النظر إليه على وفق الحجم العددي للأمم بل تتخذ منظور المساواة بين الأمم والعدل والإنصاف تجاه حقوقها وتلبيتها من بوابة احترام الآخر وحقه في تقرير المصير بكل أبعاده.

إن القضية تكمن في قراءة المشهد من جديد على وفق العهود والمواثيق الدولية من جهة وعلى وفق منطق الدساتير العراقية التي أكدت احترام تركيبة المجتمع بكل تنوعاته وتعددية بنيته.

بخلاف ذلك سيبقى الأمر مجرد اجترار ثقافة شوفينية مرضية وإن تقمصت تبريرات أو استندت إلى تفاصيل خلافية وإلى أمور سياسية برغماتية ضيقة بنت لحظتها وليست ابنة الاستراتيجي في منظورنا للقضايا الكبرى ومنها القضية الكوردية.. طبعا يبرر وجود الشوفيني بين العرب ظهور عناصر مماثلة في الطرف الآخر وكلاهما لا يمثلان الأمتين وشعوبهما بقدر ما يمثلان أمراضهما ومآربهما..

وعلى سبيل المثال فإنّ بعض ضيقي الأفق ينظرون إلى ما تحقق من استقرار ومن علامات بناء وتنمية في كوردستان الجنوبية وكأنها عائدة لعيش على مائدة ثروات الجناح الآخر من العراق الفديرالي؛ كما يحاول بعضهم تصوير الأمر بأن ذلك متأت من نفط البصرة أو من ميزانية البلاد!! كما يصورون مشكلات الشعب تنتمي إلى ذرائع تقع هناك في كوردستان وتنبع منها، افتراء على الحقائق، طبعا بخطابات مختلقة بقصد تشويه المنجز الكوردستاني من جهة والتضليل على موضوع جوهري يخص (حق تقرير المصير) بالمشاغلة في مناطق أخرى خارج الجوهري من الحوارات والتفاعلات بين الأمتين

إن عبثية خطاب إنكار الآخر وحقوقه ومنجزه، تبقى الركن المكين لاستراتيجية الخطاب الشوفيني الاستعلائي  وما يختلقه من صراعات تتوالد بمشكلات تظل بحال تفاقمٍ واضطراب لتتفجر بين الحين والآخر بصيغ دراماتيكية تقف بوجه ثقافة التعايش السلمي والمساواة..

إذن، ببساطة ينبغي أن يكون احترامنا لوجودنا ولهويتنا مبتدئاً باحترام الآخر وبالقبول به على أساس المساواة وعلى أساس التعايش الإنساني السلمي وعلى أساس التعاضد والتعاون لا على أساس التنافس السلبي القائم على منطق الصراع التناقضي كما تحاول قوى الشوفينية في جميع الأطراف تغذيته لمآرب ضيقة خاصة بها..

من هنا كانت وتبقى مهامنا كامنة في التنوير ونشر ثقافة التسامح والإخاء والتعايش واحترام الآخر وإزالة المنطلقات الخاطئة في منظورنا إلى الآخر.. وأن نتأكد أن هذا الموقف الجوهري تتبعه تفاصيل ربما مختلفة في الشأن السياسي بما يتفاعل مع الأحوال كافة من ثبات الاستراتيجي في منظور العلاقات وتنوع التكتيكي لكنه قطعا بما لايتعارض والاستراتيجي ولكنه يقر بخصوصية كل حال..

وعليه فالتهم الجاهزة بخصوص المواقف السياسية وبخصوص المواقف من الحراك المجتمعي وهي تلك [التهم] الخاصة بخطاب لا مساومة أبدا حتما ستوقع بتناقضات تهد العلاقات الإيجابية لتقيم المواقف انطلاقا من أسس تناقضية للصراع بين الأمم والشعوب وهو ما لا يصح في العلاقات بينها ولا يخدم مصالحها جميعا ولكنه يقف عند خدمة قوى الشوفينية المرضية أو قاصري النظر وضيقي الأفق في قراءتهم المشهد العام..

إن مشكلات جمة تظهر في التطبيق والممارسة وفي مجال التعامل بالخطابين الثقافي والسياسي التنويريين بسبب من بقايا آثار خطاب الاستعلاء والشقاق والاحتراب المفتعل وهو ما ينبغي أن نقف عنده في دراسات جدية مسؤولة توضيحا للحقائق وإيصالا لها لأوسع جمهور درءا له من أن يقع خلف قشمريات التضليل، تلك الأضاليل التي تبقى أسهل انتشارا وأخطر في إشعالها نيران التعارض والاصطراع مثلما هدم عمارة أسهل من بنائها..

إننا نبقى بحاجة لتعزيز وليدنا المدني في مد جسور التضامن بين طرفي المعادلة، الشعبين والأمتين، وفي فهم جذور العلاقة التاريخية وقراءتها من منظور أممي إنساني لا يقبل بتمييز ولا بميل لكفة الميزان لطرف على حساب آخر وطبعا بعيدا عن تفاصيل المواقف من الأطراف السياسية الحزبية وغيرها وجعلها منصة لتبرير الموقف الضمني في معاداة الآخر وتمريره بمغالطات التكتيكي المغلوط على حساب الاستراتيجي السليم…

ولربما أتيحت فرصة أخرى لاستكمال محاور هذا الموضوع.. لكن ما يبقى واضح المعالم هو سمو النضال من أجل أعمق تحالف بين الأمتين وعلى أفضل أسس العلاقة الإنسانية السامية القائمة على إنصاف الآخر والاعتراف به من منظور المساواة وليس التعطف عليه بصيغة صدقة من كبير على صغير بل من حال من تعادل الكفتين وتساويهما وحق كل طرف في تقرير مصيره وفي التحدث من منبر يتساوى فيه الأنا والآخر بلا تمييز..

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *