بين ذهنية الخرافة والخطاب البياني و التفكير العلمي

تتنامى وتتصاعد أصوات وتساؤلات عن السر الكامن وراء الحجم المتضخم لقوى الطائفية بكل ما تعنيه من جهل وتخلف وابتزاز وبلطجة للناس حتى أنها أوصلت خزائن أغنى بلدان العالم (العراق) إلى الخواء في ظل جرائم النهب والسرقة بلا رحمة وبلا احترام لعقول الناس! ويبرز سؤال كيف يمكن لزعيم طائفي أن يلفَّ حوله كل هذا العدد من الفقراء وأن يستغلهم أبشع استغلال بوضعهم خلف متاريس حروبه المدافعة عن غنائمه وفساده وعن همجيته!؟ إجابات كثيرة متاحة من العقل العلمي العراقي ولكنني أحاول هنا أن أساهم بمعالجة متواضعة في الإجابة وتنوير أجوائنا بما يساعد على انتباه فعلي يقف للمجرمين ولفسادهم ولإرهابهم ولفكرهم الظلامي بكل نتانة ما يجتره من جثث الكهوف المتعفنة.. هذه مجرد محاولة ولكنها بكل تأكيد تكتمل بفضل مساهماتكم وتداخلاتكم وما تضيفونه ولو بسؤال أو حوار أو أية ملاحظة.

لكل إنسان منطقه الذي يتبناه في تعاطيه مع الآخر وفي معالجة قضاياه الحياتية المختلفة.. وفي هذا المسار قد نجد من يشتغل بمنطق موضوع سليم وقد نجد غيره… وما يجب التنبيه عليه هنا، هو ألا يعتقد أحد أن تسمية (العلمي) هي مطابقة سطحية لأداء العلماء وتفكيرهم بما ينحصر في عمليات إجرائية تخصصية لكل منهم؛ بكل ما تتضمنه من معلومات دقيقة في شأن من شؤون الحياة ومفاصلها. إذ أن مقصدنا في استخدام توصيف التفكير العلمي لا يتجه إلى التخصصات المعرفية المحددة وما يعالجه العالِم المتخصص برموز ومصطلحات مخصوصة في حدود تداولها، وإنَّما  يتجه إلى تفكير ((كل إنسان)) عندما يتسم بـ (التنظيم) في معالجة إشكالية أو أخرى.. ومنذ آلاف السنوات انطلقت أولى محاولات (تراكم وتناقل) المعارف المحدودة لتضع اللبنة الأولى للتراكم المعرفي وتطلق الأسطورة ومن بعدها الفكر الفلسفي ومنطقهما في قراءة الذات والمحيط الكوني.

لقد ترسبت بقايا أشكال منطق التفكير الأسطوري والاعتقادات الروحية القديمة في المجتمع البشري وما زال منها ما يطفو ويظهر حتى بين بعض أصحاب المهن والتخصصات المعرفية وحتى في بلدان التقدم التكنولوجي فما بالك في بلدان التخلف!

إنَّ طفولة العقل البشري رضيت بالتفكير الأسطوري  الذي منحها وحدة الوجود وتحقيقا لحلم الإنسان إلى الحد الذي يتدنى فيه ذاك الحلم ومنطقه إلى مستوى الخرافة.. وبينما يحاول التفكير الأسطوري سد فراغ عدم وجود العلم ومنطقه وتفسير العالم بطريقة كلية شاملة؛ ترفض الخرافة وفكرها أو معتنقوها التفكير العلمي وتتقاطع معه مناقضة حقائقه ومناهجه على أنها تقدم جهدها بآليات جزئية مفتتة لتهاوي منطقها ومحدوديته وحصره في قراءة جزئيات الوجود مفردة منفصلة عن الأخرى..

غير أن هذا التعارض لا ينحصر مع الخرافة ومنطقها فمنطق التفكير الأسطوري الأساس يقوم على مبدأ (حيوية الطبيعة) حيث  يُسقط الإنسان بتفكيره الأسطوري أحاسيسه ورغباته وانفعالاته على الطبيعة فتكون العواصف غضبا وغيرها من الظواهر تعبيرا عن الحب والكره والفرح وغيرها!

لقد بقي التفكير الأسطوري يمتلك حيله ووسائله للإبقاء على منطقه وتمتلك الحياة اليومية المعاصرة أمثلة كثيرة على ممارسة سلوك أو آخر لأسباب غائية كأن يفعل رجل السلطة والجاه و\أو رجل الدين وكهنوته، أمراً لغاية في نفسه من تبريرات ذاك الفعل. والخطأ هنا هو في منطق التبرير (التضليلي) حيث إسباغه على ظواهر الطبيعة فيجري مدّ الحياة في مبدأ (حيوية الطبيعة) ليقول أصحاب التفكير الأسطوري: إنّ تسونامي حصلت معاقبة لأهلها على فعل ما! أو أن اتساع الفقر وشموله أغلبية الشعب هو عقاب لهم على أمر ارتكبوه بحق أولياء الأمر! فيما تعلم الأغلبية اليوم أن الزلازل والبراكين والعواصف تحدث بأسباب كشفها العلم وبات يستطيع تحديدها..

وهكذا فنحن، لم ننتهِ فعلياً من هذا المنطق السلبي المرضي نهائيا بخاصة بحال سطوة قوى تضليلية كالقوى الطائفية وما تجتره من ماض يتعكز على قيم التخلف المرضية؛ ونحن عراقياً اليوم، لم ننتهِ من وجود الخرافة وفكرها في سطوتها على بعض العقول البشرية اليوم!

لقد نجح العلم في السيطرة على الظواهر عبر كشفه إياها بمقابل عجز الخرافة عن ذلك وضمان العلم لنتائج تجاريبه وتحكمه بمسارات الظواهر بفضل تنبؤاته التي برهن عليها بمنهجه ومنطقه بمقابل إخفاق الخرافة في تحقيق مطالبها؛ فأكد ذلك انتشار منطق التفكير العلمي واتساع مساحة المؤمنين به في وجودنا المعاصر وبين شعوب العالم..

ومع ذلك فما زلنا نجد من يؤمن بكاشفي المستقبل وقارئي الحظ ونشير عراقيا إلى من يلهث متبركا بجلباب من أسقط على نفسه قدسية (السيد) وارتدى عمامة التخفي والتضليل زورا وبهتانا. ومثل هذا يعتمد خواء التفكير وإخضاعه لحال من الشلل تحت حالات الرعب والهلع، ثم استغلال ميل بعض العقول البشرية لــ (تعميم) الفردي الجزئي الخاص. ونريد بهذا التوكيد على أن استخدام التعميم (سلبيا) هو من أدوات الإبقاء على الفكر الخرافي..

إن احتفاظ الإنسان بآليات التفكير الخرافي ناجمة عن طبيعة  اشتغال العقل وإمكان ظهور الازدواجية عبر فُسح لم يصلها التفكير العلمي بالتغيير كما في ظواهر اتساع مساحة أحلام اليقظة في زمن الاستلاب ومصادرة الحقوق فيكون اللجوء إلى مستويات تفكير متدنية مثل البحث في برج الشخص (الحالم الخيالي) وحظه وما إلى ذلك. أما الزمن فليس سوى عراق اليوم وما يجري فيه من حال إرهاب فكري سياسي روحي نفسي ومادي وكل أشكال الإرهاب التي تبتز الإنسان العراقي وتضعه تحت مطرقة البحث عن بدائل تنفّس عنه وربما تستجيب له ولو بأحلامه فقط.

وعليه فإنّ العجز عن تلبية حاجات إنسان هي الدافع الحقيقي الرئيس الآخر لتمسك الخرافة بوجودها بيننا ، حيث التطلع لحلول وهمية بديلة تسرّي عن أنفس العاجزين وتلكم طبعا من عقبات التفكير العلمي وما يقف بوجهه في عقول العامة وما يسطو عليهم وعلى آليات تفكيرهم.

والعجز اليوم يؤشر عراقيا أمرين هما: عدم تلبية الحاجات وعدم القدرة على التحكم في توجيه المحيط توجيها صحيا سليما مناسبا لحاجات الإنسان وكفاياته.. وهكذا بتنا في تحول من عجز معرفي إلى عجز اجتماعي والأدهى أن يشتمل عجز إنسان أو مجتمع على النمطين أي أن يوجد العجز المعرفي بالتخلف والأمية والجهل والعجز الاجتماعي أي بعدم القدرة الواعية على توجيه الإرادات نحو الحلول السليمة الموائمة، بالإشارة المباشرة إلى الحال العراقية الراهنة ..

وفي العراق حيث تجري محاولة تأطير الدفاع عن الخرافات بالدين يظل الأمر أبعد من مخاطرة لم ينص عليها متنورو الماضي ببغداد دار الحكمة وقبلها في سومر وبابل مهد التراث الإنساني والتحضر، عندما دفعوا باتجاه البحث والاجتهاد المعرفي ولم يضعوا الدين في محفل الدفاع عن الخرافة وقد أثبتت تجربة أوروبا القروسطية خطل ذاك المنطق وخطره؛ بكل ما جرّه عليها من حروب دموية تكفي لتكون الدرس الأخير كي لا نكرر أنهار الدماء التي سالت على مذبح الطائفية ودويلاتها ومنطق فلسفتها وآلياتها..

 

إن إيقونة السلطة وسطوة ابتزازها الفكري الفلسفي السياسي والديني الروحي هي مبرر العاجز لينسب أخطاءه وعجزه إلى جهة مسؤولة عن قراراته وسلوكياته.. ويبدو إسقاط القدسية على سلطة فكرية سياسية أو غيرها هو مقدمة لمثل هذا الجمود البائس الذي يسطو على العقل ويشلّه.. من هنا يمكن أن نرصد حال التكلس والجمود وقدسية فكرة أو جهة وسطوتهما على المواطن\الإنسان إنما يقوم على ذرائع تعترض طريق التفكير العلمي وتزيد أمراض الإنسان الفرد والمجتمع وهي طبعا مردودة ينبغي مساعدة العراقي على تجاوزها والتحرر منها.. ولعلي أذكر هنا بعض تفاصيل تلك العقبات وأوهام وجودها سداً أمام دخول التفكير العلمي ومنطقه عند العراقي بما يساعده على حسم أمره وتحرره بدل الخنوع لانتماء لجهة تستلبه كل شيء حتى تلغي إنسانيته ومن ثم حقوقه وحرياته فلننظر في الآتي:

1.   العمق التاريخي (القدم):  الصائب ألا نعد قدم فكرة دليلا على صوابها وأن قدم جيل أو فيلسوف دليلا على صوابه ففي الحاضر تراكم معرفي أكبر يدعو لأن نرى فيه أفضلية تجاريبه وصوابها… وعليه فإن الاحتكام لسلطة القديم والقِدَم أمر غير صائب في جوهره لكن بالمقابل لا يجوز أن نتطرف فنرفض الأمر لمجرد انتسابه للقديم فالمواقف لا تتخذ بسبب زمن تقديمه حقيقة ما بل في ضوء فحصه موضوعيا.. وفي العراق اليوم تختلط الأوراق ويقع الاختيار على أسوأ المفردات عند جمهور ليس صغيراً…

2. الانتشار: شيوع أمر يزيد من سلطته وسطوته حتى يشيع قول هل أنت أحكم من كل هؤلاء؟ فيُقطع الطريق على الرأي السديد وعلى التجربة الموضوعية بمنطقها العلمي..  إن حال حماية اتساع انتشار الرأي أو حماية الاعتقاد الجمعي برأي بعينه، تفرض سلطة قسرية قامعة للتفكير العلمي وتجعل السير مع القطيع أكثر حجماً..

3. الشهرة: للمشهور سطوته وفي منحه سلطة التأثير.. والإشارة هنا إلى استمرار الأخذ برؤية انتهى زمنها لمجرد أنها جاءت عن مشهور في زمانه…  أما المشهور المعاصر فقد يكون من تصنيع أبواق إعلامية معاصرة لشخص لا يمتلك أهلية إبداع الأفكار والسلوكيات القويمة سوى أن وسائل الإعلام لمعته لسبب أو آخر.

4. الرغبات والأماني: بمعنى الميل لتصديق ما يلبي رغباتنا وميولنا وأمانينا ولو من باب متوهم.. بطريقة أدري أنك تكذب عليّ ولكنني أصدقك ولا أستطيع الإشارة لوهم ما قلته لي..

5. إنكار قدرة العقل:   بالاستناد إلى حال تخيل كون الإبداع يأتي بإلهام من كائنات أخرى يحيل بعضهم الأمر حتى في معالجة إشكالية بمنطق التفكير (العقلي) لا إلى العقل نفسه بل إلى قوى وحواس لا تستند إلى العقل ذاته..

6. التعصب: للانتساب والانتماء الضيق كما العشيرة والطائفة وما إلى ذلك فتظهر مواقف سلبية مرضية خطيرة في ظلال التعصب.

 

هناك عقبات أخرى كثيرة تطيح بمنطق التفكير العلمي وتفرض سياقا مرضيا يجعل من أتباع هذا الزعيم الطائفي الخاوي وذاك التيار المتخلف القائم ببرامجه على منطق الخرافة تجعل منه صاحب جمهور متخم وكبير

 

القضية نحتاج فيها إلى دراسات كي ننعتق معا وسويا من هذا الذي يعبث بأهلنا وبجمهور شعبنا وأغلبيته ونأتي بالبديل الذي يتحرر من الابتزاز والاستلاب والمصادرة وإشاعة فكر الطائفية المتخلف وأمراضه التي فتكت بنا وتكاد تأتي على الأبناء معنا ايضا…

وللمعالجة بقية وعودة

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *