الرموز العراقية القديمة والمعاصرة في معرض الفنان قاسم الساعدي تمنح دلالات فنية بمضامين إنسانية كبيرة، ها أنا ذا أكتب انطباعاتي العجلى بعد زيارتي للمعرض في يوم افتتاحه. وهي مجرد كلمة موجزة تتطلع أن تجد فرص شغف للنقاد التشكيليين كي يثابروا في التعبير عن القراءات المتخصصة الأعمق والأشمل بما يستحقه هذا المنجز في مهجرنا ولكن من الصحيح ايضا في الوطن المحمول بين الجوانح والأضلع المحفوظ في القلب والضمير هوية انتماء ووجود وعطاء
افتتح الفنان التشكيلي الرائد الأستاذ قاسم الساعدي معرضه الجديد قبيل ايام، وكان هذه المرة تحت عنوان: “هو الذي رأى”. وغذ يمتاح العنوان من الأسطورة السومرية فإنه لا يأتي بها استدعاءً خارجياً ليقدم به معرضه، بل هو يستنطق بهذا العنوان مضامين لوحاته ومنحوتاته برمتها. فبدءاً هو يقدم هوية معرضه في الانتماء إلى الجذور الحضارية البعيدة في عمقها، ليؤكد بوساطتها هوية عراقية وطنية من جهة وإنسانية عميقة الجذور.. وليقدم أيضا تمسكه بخطاب يدافع عن الإنسان في عراق اليوم المصادر والمبتلى بمختلف التضاغطات وأولها الحريات والاعتداء على الحقوق وانتهاك البنى التارخية والمعاصرة عبر سلسلة الجريمة اليومية الجارية بحق العراقين وبيتهم الوطني العراق، حتى صارت نتائج تلك الجرائم ندوباً محفورة في الروح العراقي وطناً وإنساناً..
إنّ الناظر إلى منجز الساعدي التشكيلي سيجد القاسم المشترك بين لوحاته ومنحوتاته في تلك الثقوب التي تخترق اللوحة لوناً وظلالاً وحراكا انسيابياً بلا منتهى حتى يصل حافات اللوحة ليكون نوافذ الندوب على الروح المجسد في اللوحة نفسها. ولكن القلب والنواة في كل منجز منفرداً يظل حياً قوياً في لونه وحدة إضاءته وفي سطوعه واشتباكه التشكيلي مع محيطه المحطم المليء بالندوب فتخترق إشعاعات تلك النواة دروب الامتدادات المسافرة بين مساحات اللوحات وحركتها اللونية او علامات الإضاءة والظلال بما ينجز تكويناً متكاملا بمعاني تضج بالصراع وبرفض الانكسار والاحباط وكأن اللوحة تستوحي ما قاله عنترة في ملحمته الشعرية فضلا عن استدعاء اللوحة لمرثيات سومرية ولكن بسياقات معالجة تشكيلية معاصرة تتحدى الجراحات الفاغرة والانكسارات.
لننظر إلى لوحته التي عنونها باسم تموز أو ديموزي الإله السومري، صحيح أنها هي الأخرى تحمل ندوبها إلا أنها بالضبط تمنح قلب اللوحة قوته وروعة رسمه ليصير نسيج وحده في تفرده بمعالجته التشكيلية البصرية الشاخصة أمامنا. هناك قوة اللون تتوسط اللوحة وهناك الأشكال الهندسية وتناظراتها ونوافذ تتكرر الولادة على حدود اللوحة فيما كثير من الندوب تصير حبات مطر ينهمر بحركة من ظلال وتموجات توحي بمعنى الولادة التموزية الخالدة.. ففي رحم الألم يسطع الفرح.
في لوحة حكايات تحت ضوء القمر تسيطر الحكاية على الكوني الواقعي وتصير هي الوجود فيتحول الضوء بياضاً بدل الشعاع الذهبي للقمر. أما في أحلام عبر الأمواه فتنتشي الروح متسامية ببياضها متنفضة على عزائم التقتيل والنحر ووحشيتها وتمنحنا سلاماً برسالة بيضاء ناصعة كحليب زكي. وليس في بغداد إلى الأبد إلا صراخ الروح، روح الفنان وحرفيته الفائقة في منمنمات بتعبير مجاسي عن التفاصيل التي يحفرها بريشتها وبإزميله لتكون اللوحة صراعا بين زمن الندوب والجراح وزمن التجدد يمر بجسر من مسيرة كما لو أنها ذكريات متمكنة لتظاهرات الجسر يستعيدها الفنان الساعدي بلاوعيه بقصد ومن دونه.. وعندما يختار عنوان رقص فإنه يرسمه وسط ركام ليكون الرقص أداة انعتاق وثورة على كدوس من ركام الخراب وتوجه لبناء البديل… وبجميع لوحاته وأعماله الأخرى التي يشتغلها بغير الريشة يبقى متمثلا للحرف المسماري ليكون لبنات تكويناته وتشكيلاته البصرية، ولكنه حين يستخدم انحناءات الخطوط فإنه لا يستخمها من منطق الحرف العربي إنما من القمر السومري البابلي وثقافته… بعدها سنجد تلك الرموز والشفرات تتحد في تكوينات أسطورية وطلاسم تتعدد في تفشيراتها وشروحاتها المضمونية لكنها تحتفظ بوحدتها الجوهرية عبر التجريد وعبر تعبيرية وبنى توليدية تمد جسورها إلى وعي المتلقي وثقافته البصرية ومحدداتها؛ هنا ستولد القراءة لتشكيل قاسم الساعدي من جنبن الفكرة في لوحته وهوية محددات مادتها بضمنها العناوين التي يمنحها للوحاته لتصل إلى الآخر بخطابها لا بإسقاطاته وخلفيته. وهنا نجد اللوحة منطلقاً أو دافعاً للأسئلة فيما تساعد حرفية الاشتغال والحركة اللونية وتدرجات الضوء والظل وتموجات التقاسيم الهندسية وتناظراتها وتنافراتها، تساسعد في منح محددات التعريف أو تقديم خارطة طريق للسباحة في عالم الساعدي الجمالي المهووس بأنسنة منجزه حد الثورة على كل المعايير الكلاسية الجامدة واستيلاد شخصيته المستحقة..
لابد لي من الاعتراف أن من يريد القراءة المشهدية وتحليل كل مفردات التشكيل ومذاهبه المجسدة فعليه أن يقف طويلا ويعود إلى المادة مرات عديدة.. فكل لوحة تمتلك فعل الدهشة والإثارة المكنون فيها عليه أن يتخلص منها لينتقل إلى تلك القراءة كما أن عليه أن يمتلك أدوات تحليل المنجز التشكيلي والإصغاء إلى موسيقا اللون وحركته في سمفونية من ترانيم تختزل مسيرة العشرة آلاف عام من حضارة سومر العصية على أعتى الانكسارات.. ها هي تلك اللوحات تتحدث بلغة التراث الإنساني السومري وتحصد اهتمام الأوروبيين قبل العراقيين والعرب والكورد ممن احتشد في ذاك المعرض المطل على أجمل مناظر المدينة الزاهية بنهيرات الجمال.
لست أدري كيف اصف احتفالية الافتتاح؟ وكيف اقرأ تعابير الدهشة والمسرة ولذة الفرح في أعين الزائرات والزوار للمعرض؟ وكيف أرى الاحتفاء بمبدعنا الذي يؤكد استمرارية تدفق منجزه بالجديد وكأننا نفتح معه سجل حضارة بكل آلافها الغنية الثرة!؟
لكنني أدري أن اقل تحية توجه له اللحظةَ هذه، تتجسد في الاعتراف بمنجزه الذي يكاد يودع آخر مفردات معرضه إلى حيث ستستقر بصالات تعرف قيمة ذاك المنجز وتشتريها بأعلى السعار مادياً ولكن الأبهى تقييمها الأدبي المعنوي وما دبجته حوارات المتخصصين بالتشكيل من هولنديين ومن عراقيين.
تحيتي لك باقة ورود الرازقي العراقي البغدادي بعبق عطره يا صديقي وشكري وامتناني لرحابتك وطيبتك وروعة منجزك الذي يضع المبدع العراقي بين قمم المبدعين في عصرنا.
مجموعة من صور اللوحات بعدستي المتواضعة وبعجالة غير احترافية طبعاً
هذه الصور هي مجرد محاولة جد بدائية لنقل فكرة أولية عن المنجز معتذرا عن زوايا التصوير والإضاءة والشكل ولكنني أثق بأنكم تقدرون مبدأ نقل تلك الفكرة على الرغم من كونها جد أولية..