تركيا وتوجهاتها الداخلية والخارجية بين أردوغان والديموقراطية

أكتب معالجتي هذه وأنا أقف كما دائما قائلا: هذا رأيي يحتمل يحتمل الصواب والخطأ وهو ينطلق بثبات من منطلق الصداقة والإخاء بين الشعوب كافة ومن منطلق التعايش السلمي سواء بين مكونات الدولة من مختلف الشعوب المتآخية فيها أم بين شعوب الدولة ودول الجوار والعالم.. وتبقى مصلحة الشعب التركي هو من يقررها وما نقترحه عليه يتحدد بعدم التدخل من جهة وبالإخاء الإنساني والتجاريب التي تشير إلى خطل خيارات النظم الماضوية بآلياتها والنداء للتمسك بالعلمانية وآليات الديموقراطية طريقا يحترم التنوع والتعددية في أي بلد وبرفض منطق التعنصر والشوفينية وما يرفقهما من خطاب التحريض والكراهية والاستعداء..متمنين للشعب التركي أن يأخذ فرصته حرة كاملة في اختيار طريق الديموقراطية والتآخي والسلام لا طريق السلطنة ونزعات الكراهية والاستعلاء فكلنا سواء ايها الأخوة ولنكن معا وسويا ولنرفض الاستعداء والاحتراب

توطئة: بين آليات الدولة العلمانية الديموقراطية وآليات سلطة الفرد الزعيم:

السؤال الذي تطرحه الحياة اليوم وقيم الحداثة والعصرنة على الإنسان يتجسد في صيغة: هل هو مع الديموقراطية، ومع آلياتها ومنطق فلسفتها أم مع مزاعم تدفعه لتقديس من يدعي أنه حاميها فيختار الزعيم الفرد ويضحي بالديموقراطية ويرهن دور المجتمع برمته بيد ذاك الفرد؟ أو بصغة أخرى: هل نحن مع اعتماد منظومة فكرية سياسية نتشارك جميعاً في ممارستها وفي تحمّل أعباء مسؤولياتها ومتطلباتها أم مع اللهاث خلف وهم وجود المخلّص المنقذ الذي يتحمل مسؤولية (حمايتنا وحماية النظام الذي نريد)!؟ وهل حقاً يوجد شخص استثنائي خارق يمكنه تحقيق ما لا يستطيع الشعب تحقيقه؟

مازلنا حتى يومنا نجد من يقع فريسة اللهاث خلف (زعماء) يصطنعهم الخيال المرضي الذي يعتاش على اجترار منطق ماضوي مندثر. حيث أزمنة الأبطال الاستثنائيين الخارقين وحيث إسقاط القدسية على شخصيات إنسانية بعينها من بوابة مصطلح المنقذ المخلص للأمة و\أو الشعب! وإذا كان هذا مقبولا بمنطق مراحل تاريخية بعينها فإنّ عصرنا وزمن الديموقراطية والدولة المدنية العلمانية لم تعد ترى في هذه الحالات سوى ترهات خرِفة لا تنتج سوى طغاة يختزلون السلطات بأيديهم ويقمعون الوجودين الفردي والجمعي للإنسان، ليحيلوه إلى حال من السلبية المستسلمة لسلطة الفرد المتضخم بأذرعٍ، هي وقود محارقه التي يسوق إليها ضحاياه بلا حدود!

إن الفكرة من الدولة وتوزيع السلطات وتوازنات تفترضها آليات اشتغال السلطات كافة، هي محددات عمل يستنهض فيها دور كل فرد ويقتضيه.. ومن محصلة اجتماع الرؤى والمعالجات يجري الاستجابة للمطالب والحاجات ومجمل حقوق الإنسان.. وبخلافه تجترح الأوضاع قوانين رجوعية متخلفة فتفرض لا توزيعا ولا توازنا للسلطات ولا أيّ دور للشعب بل تفترض اختزالهم جميعا في (شخص) يُسقِط عليه أتباعه قدسية وتميزاً وسمات خارقة لا أساس لها من الصحة والسلامة والفائدة الموضوعية…

إننا إذن بمجابهة بين رؤيتين.. أن يختار الشعب نظامه العلماني الديموقراطي الذي يتيح له أن يرسم مساره وخياراته ويعمل بروح جمعي مشترك على تلبية تلك الحاجات وكبح الانحرافات والأخطاء والهفوات وبين أن يجري تضليل الجمهور للتصويت وممارسة وسائل ضغط ومخادعة تمرر سلطة الفرد الزعيم التي تختزل الناس وتصادرهم وتلغي أدوارهم وتضع الأمور بين يدي شخص، في النهاية وبالمحصلة يظل ذاك الشخص (الزعيم) بحاجة لعمل الشعب ودوره في إنتاج مجمل خيرات حياته وتفاصيل عيشه، لكن طبعا بظل حكم الفرد يكون الأمر متضمنا بشكل حتمي قمع لرؤى الشعب ومعالجاته وإخضاعه لعنف الإرادة الشخصية الفردية وفلسفتها أو بالأحرى نزعاتها..

الاستفتاء التركي بين تمسك الترك بقيم دولتهم الحديثة ونزعات السلطنة

انقضت عقود تناهز القرن على ولادة تركيا الحديثة بمنطق الدولة العلمانية ومحاولات تكريس الديموقراطية فيها إلا أنّ صعود نجم حزب يستند لخطاب يتعارض ومنطق العلمنة والديموقراطية قد أدى لمزيد من نزعات الإيغال في السطو على المشهد العام وتحويله لإقطاعية خاصة بذاك الحزب وأكثر اندفاعا وغلواء بتركيز السلطات كافة واختزالها بيد شخصية تكتسب مؤيديها من مغازلة شعارات التفوق والتوسع والشوفينية القومية المتحدة بنزعة استعادة الخلافة (الدينية) الإسلاموية…

إنّ مثل تلك الخطابات مازالت تحتفظ لها عند بعض الناس بمكان؛ ما يثير قلقا جديا لدى الأغلبية التركية ومنها الشعوب التي استلبت إراداتها ونُهِبت حقوقها ومصالحها ومازالت تكافح لاستعادة حقوقها القومية الثقافية وأيضا وبالتأكيد حقها بتقرير مصيرها…

إن العقدة تكمن في الكيفية التي أديرت بها الثقافة العامة بتركيا وطابع النزعات التي صيغت طوال العقود المنصرمة بخاصة المعتمدة على تاريخ مستدعى للامبراطورية العثمانية.. كما أنها تكمن في مغازلة الوعي القومي والديني بطريقة قاصرة مشوَّهة تلعب على وتر الفوقية وليس التعايش مع الآخر..

لاحظوا هنا أن أغلب الخطابات تقوم على استثارة نزعات العداء مع الآخر وعلى استدعاء فكرة المؤامرة ضد وجود الترك واستغلال أحداث هامشية لتوليد خطابات نوعية استراتيجية تنسجم وهذا الاستعداء.. وبهذا تجد الزعيم موتوراً؛ يوزع السباب والشتائم، متجاوزاً كل الأعراف القيمية والدبلوماسية، مستثيرا انفعالات أتباعه.. ومن ثم مصطنِعاً أجواء مشحونة، كي يلغي أية فرصة للتفكر بأولوية التعايش السلمي مع الآخر..

فخارجيا هناك أمران:

  1. أطماع في أراضي دول مجاورة على طريقة تبعية ولايات كانت تحتلها الدولة العصمللية مثل الموصل وحلب فضلا عن الاسكندرونة وغيرها وطبعا جزر لدول أوربية وهكذا! وربما يستجيب لهذا بعض الأتباع ويمنحهم فرحاً وانتصاراً منطقُ التوسع وتضخم الذات…
  2. استعداء قوى ودول مختلفة لمحاولة الضغط على الداخل وتصوير الأمور وكأن البطل القومي الديني بات الضرورة للتصدي للمؤامرة وأن تركيا من دون ذاك البطل الزعيم كما يصورونه، ستنهزم!

وبكلتا الحالتين يعتمد خطاب التضليل إياه، على الغلواء والاستعلاء وعلى نهج مضلل يخادع الشعب أو يضغط عليه بالاتجاه الذي يبتغيه..

أما داخليا فإنه يلجأ لذات الآلية في الكسب فهو:

  1. يصور الآخر (خائناً) متآمرا ضد مصالح تركيا، أو يصوره بكونه أضعف من أن يتصدى للمسؤولية.
  2. كما يصور نفسه المالك الوحيد لتلك الآلية البديلة التي تتطلبها المرحلة (إنقاذا: كما يوهم) لتركيا من ظرف لا يحله ويعالجه إلا برامجه وذلك بـ حصر السلطة بين يديه!

في الحقيقة، هنا الأمور تتمظهر على خلفية استغلال صعود الظواهر الدينية الطائفية وغلواء الصراعات والخطاب الشعبوي والقومي الشوفيني الاستعلائي؛ فضلا عن ممارسة ألاعيب السطوة على السلطة من قبيل ما جرى من تصفيات للقوى المعارضة عندما تمّ إبعاد عشرات الآلاف من أعمالهم في مجالات القضاء والإعلام والجيش والأمن والتعليم إلى جانب الاعتقالات التي لم تستند إلى سلامة إجراء قضائي ولم تحترم أي فرصة للتنوع الذي تكفله الديموقراطية.. وهذا بمجمله ما مهَّد ويمهد لاستغلال الموقف وفرض النتائج المفصلة على المقاس بغياب قضاء مستقل عادل وباصطناع الأجواء المناسبة لانحياز القضاء إلى مبتغيات مسبقة محسومة وكذلك بمنع أي عمل إعلامي صحفي مستقل يمكن أن يفضح المجريات وما يرتكب خلف الستار…

ما هي أسس فرض النتيجة مسبقاً لصالح السلطنة على حساب العلمنة

إن جملة من التداعيات قد جرت بتركيا في الآونة الأخيرة، من حكم أردوغان وحزبه ربما كانت سبباً جديا لفرض رؤى السلطنة على حساب العلمنة والدولة الديموقراطية.. ومثلما أشرنا للتو في سياق النقاط السابقة نرى أن الآتي قد ساعد ويساعد على منطق يظل يحاول جعل الاستفتاء مجرد صيغة شكلية لا استطلاع رأي حقيقي للشعب. وأبرز تلك التداعيات نجمت عن الآتي من الوقائع والاشتغالات:

  1. فرض أعمال الإقصاء وتطهير القضاء من القضاة الحياديين فرص منع أي طعن في التوجه للاستفتاء المبيت النتيجة. بخاصة فرص طعن المعارضة والحزب الثاني بتركيا بهذا التوجه.
  2. استغلال مفاقمة الخطاب القومجي المستند للتركة العثمانية.
  3. استغلال الخطاب الديني الطائفي القائم على اجترار نظام السلطنة والتعكز على منطق الخلافة.
  4. استغلال آليات فرض الطوارئ لمنع المعارضة من الوصول إلى الجمهور وكشف الحقائق والمخادعات بمقابل فسح المجال واسعا لخطاب التضليل.
  5. استغلال الهياج العام في ضوء تفشي خطاب الكراهية سواء تجاه الآخر الداخلي أم الخارجي بالاستناد إلى الدواعي السالف ذكرها كالتعصب والتطرف القومي وما إليه.

هذا المنطق وفوزه المُعد له سلفاً بطريقة الفرض والمناورات التي أشرنا إليها سيؤدي حتماً بتركيا إلى:

  1. مزيد من الاستقطاب القومي والتعارضات التي تدفع للتطرف وممارسة العنف في العلاقات بين شعوب تركيا بخلفية قيام نظام التعصب القومي المتطرف وتحالفه القائم فعلياً اليوم.
  2. إلغاء آليات الديموقراطية والدولة العلمانية بتحجيم السلطات الثلاث لصالح السلطنة ومنطقها ونزعات الفرد الحاكم بأمره.
  3. فرض سلطة الفرد الذي يعيِّن مساعديه ونوابه ومستشاريه وكذلك القضاة ومجلس الدولة وضمنا إلغاء رئيس الوزراء بما يتماشى وفرض سياسته، وبما يفرغ منطق الدولة وسلطات الحكم الرشيد بتوازناته، وهو أمر سيشوِّه العمل داخليا هيكليا وينقله لنظام تركي جديد فيما سيضع العلاقات الخارجية بكف عفريت على خلفية نزوات فردية في إدارة ملف تلك العلاقات.
  4. إعادة توزيع السلطات على أساس الانفراد بها من طرف الموالاة وتصفية كل طرف معارض ديموقراطيا…
  5. ستتشكل أرضية اجتماعية أخصب وأوسع للتطرف الإسلاموي من جهة مع ما تتيحه احتمالات المستجدات من فرص هزات ارتدادية لعاملي التدخل التركي الخارجي (الإقليمي) و (دعمها المجموعات الإرهابية المسلحة) التي بدأت بالعودة إليها أي إلى تركيا..
  6. احتمالات فرض منطق العزلة عن الاتحاد الأوروبي بدل الانفتاح ما يفضي إلى انهيارات أخرى للعملة التركية ولتوسع حجم البطالة، في ظل تراجعات محتملة للدورة الاقتصادية، ولن يجدي التقارب الشكلاني السطحي أو المؤقت مع روسيا لأسباب استراتيجية عديدة..
  7. طابع العلاقات مع البلدان العربية والشرقأوسطية لن تستقر بسبب النهج الشوفيني الاستعلائي وبسبب من حجم الشرخ الذي تركه دعم المجموعات الإسلاموية كحركة الأخوان مثلما فعلت مع مصر وما تفعله اليوم في ليبيا وغيرها.. وبالمناسبة فإن عودة استقرار تلك البلدان سيعيد حركة السياحة إليها بعد أن رحلت لتركيا في ظرف سابق ما يفاقم الوضع تركياً..

 إنّ المهمة الجدية السليمة حاليا تكمن في توجيه الرسائل التي تساعد القوى الحية في تركيا على الفداع عن العلمانية وأسس تكريس الديموقراطية ضد نزعات الفردنة وتوجهات إحياء نظام السلطنة بذريعة اختيار النظام الرئاسي ولكنه في جوهره المفصل على مقاس السيد أردوغان!

ومن يتوانى عن دعم الخطاب الموضوعي الرصين سواء من داخل الشعب التركي أم من خارجه سيمنح العنف والتراجعات فرصا خطيرة النتائج… إن أول من يعنيهم رفض التعديلات الدستورية هم أعضاء حزب أردوغان كي يثبتوا أنهم أبناء تركيا الحريصين على مصالحها وعلى استقرارها وعلى الشراكة مع الآخر وليس استغلال وجودهم في السلطة لتجييرها حزبيا والانتقام من الآخر بطريقة تصفوية بشعة وقعت برأس الخصوصم السياسيين اليوم لكنها ستكون أبلغ وأخطر على رؤوسهم في الغد عندما تصفو الأمور لمآرب الفرد السلطان…

إن عشرات ملايين الترك يستحقون دولة تحترم عقولهم ووجودهم وحقوقهم وهم يتطلعون لحكومة تدير برامج البناء لا الهدم فيما بناه أسلافهم منذ ولادة الدولة التركية الحديثة..

عندما تحيا تركيا بنظام ديموقراطي سيكون لكل تركي وجوده الحر الذي يلبي تطلعاته المشروعة فيما ستقرع نواقيس انعدام الاستقرار إذا ما انهارت الديموقراطية لمصلحة الفرد..

لقد ولى زمن السلاطين والنظم الدكتاتورية وما عادت تأتي إلا بالويلات.. فهلا تنبه الترك إلى ما ينتظرهم؟ هلا اختاروا السبل الأنجع؟ ليحتفظوا بزعيم حزبهم وليدافعوا عن خيار حزبهم ولكن في إطار الديموقراطية والانتماء للمجتمع الدولي والإنساني بحداثة قيمه وسلامة بنى الدولة وهياكل وجودها والتوازنات بين السلطات فيها واختيار التعايش السلمي داخليا خارجيا بوصفه الطريق الذي اختارته الشعوب…

إن النضال اليوم ضد دعوات إلغاء الديموقراطية أسهل من التعقيدات التي ستكون بعد إحلال نظام القمع.. لاحظوا اليوم أن التصفيات طاولت العقل العلمي التركي ونخبته من مئات ألاف من مثقفيه قضاة، معلمين، أساتذة، إعلاميين، صحفيين وعسكر فماذا سيحدث بعد أن تتركز السلطات بيد راس السلطنة!؟

ليتفكر كل من يختار والشعوب كافة والحركات الديموقراطية جميعا لا مصلحة لها إلا فيما يخدم الترك ويخدم جيرانهم والعالم وبخلافه فإن من يسعى لخطاب الكراهية والعنف والانقسامات والاحترابات وتهديد السلم المجتمعي والأمن والسلام الإقليمي والدولي هو من يجب وقفه وليس الانسياق وراء خطابه التعبوي المريض.. فليقف الجميع اليوم موقفه الواعي الحازم وإلا فلات ساعة مندم….

برجاء لملاحظة جانب ضافٍ من السئلة والتفاعلات والردود وإجاباتي عن أغلبها الضغط هنا في أدناه على الرابط مع تقديري أيضا لما توردون من تعليقات وتداخلات جديدة أخرى..  تيسير الآلوسي

تفاعلات وأصداء من المعلقين مع معالجتي بشأن خيار تركيا في الاستفتاء بين أردوغان والديموقراطية

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *