الدكتور كاظم حبيب   هل من حلول عملية لمحنة قوى التيار الديمقراطي في العراق؟

ألواح سومرية معاصرة تنشر الحلقات الأربعة للكاتب والشخصية الوطنية الأممية الدكتور كاظم حبيب التي تعالج قضايا الديموقراطية وبعض ما يجري في إطارها من ممارسات فاتحة فرص حوار مضافة بالخصوص

الدكتور كاظم حبيب   هل من حلول عملية لمحنة قوى التيار الديمقراطي في العراق؟

(الحلقة الأولى)

أثارت استقالة الزميل نبيل تومي الهواجس والاجتهادات حول العوامل الكامنة وراء تقديم هذه الاستقالة. في حينها كتبت تعليقاً قصيراً رجوت من قوى التيار الديمقراطي في بغداد دراسة هذه المسألة وعموم وضع التيار الديمقراطي في الداخل والخارج لتأمين تطور مناسب لقوى التيار الذي يعوَّل عليه الكثير في أوضاع العراق الراهنة. وقد كتب لي الزميل الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح رسالة جاء فيها ما يلي:  

” تشخيصك صحيح جدا.. ينبغي إيصاله الى الحزب الشيوعي والقوى التقدمية ايضا. من اختصاصي كسيكولوجست اتساءل: هل هو الشعور بالإحباط واشاعة ثقافة التيئيس من كتاب تقدميين ومن واقع حال العراق الان.. هو الذي اوصل الصديق نبيل لهذا القرار.. وقد يكون العد التنازلي للقوى الماركسية والتقدمية والمدنية في العراق؟ هل هو ضعف.. تقصير.. فشل.. نواب هذه القوى في البرلمان؟ ” (الرسالة في أرشيفي الشخصي).

قبل هذا وذاك وصلتني رسالة موجهة لي وللزميلين جاسم المطير وزهير كاظم عبود من الزميل الأستاذ الدكتور تيسير عبد الجبار الآلوسي يرجو فيها المساعدة لمعالجة المشكلة المتفاقمة في عمل اللجنة التنسيقية للتيار الديمقراطي في هولندا. في حينه كنت قد أكدت بأن المشكلة يفترض أن تعالج في بغداد أولاً. وقد قرأت بعد ذلك حضور الزميل الدكتور أحمد إبراهيم إلى هولندا وحضوره اجتماعاً واسعاً لمعالجة المشكلة. ثم قرأت يوم أمس بياناً تضامنياً من مجموعة من المثقفين العراقيين العاملين ضمن قوى التيار الديمقراطي ومن المستقلين في هولندا يعلنون فيه انسحابهم من العمل في هذا المجال الحيوي والتطوعي. إن هذه الحالة وعموم ما حصل خلال السنوات الثلاث المنصرمة في إطار قوى التيار الديمقراطي، والتي كانت تشغل بال ونشاط اللجنة التي شاركت في تأسيسها تحت اسم “لجنة المبادرة لدعم وحدة القوى الديمقراطية العراقية” بالمشاركة مع الزملاء “تيسير الآلوسي، زهير كاظم عبود، نهاد القاضي، غيث التميمي، سلمى السدَّاوي، رابحة مجيد الناشئ، محمود سعيد الطائي، وكاترين ميخائيل وكاتب السطور”. وكان همَّ هذه اللجنة الدفع باتجاه إيجاد صيغة عملية لوحدة نضال قوى التيار الديمقراطي في هذه المرحلة الأكثر حراجة ومحنة وتأزماً من تاريخ  العراق الحديث. ورغم أن اللجنة قد تم الترحيب بها من قبل الجميع لأن هدفها الوحيد هو الدفع باتجاه الاتفاق والعمل المشترك لقوى التيار الديمقراطي، فإنها عانت من اعتقاد لدى البعض بأننا ننوي احتلال موقع على حساب جهة أخرى، والذي لم يكن في بال أي زميل منّا.      

سأحاول في هذه السلسلة من المقالات أن أشارك في طرح وجهة نظري بشأن الوضع في صفوف قوى التيار الديمقراطي

وفي الرسالة التي وجهتها اللجنة بتاريخ 29/10/2017 بمناسبة انعقاد مؤتمر “تقدم” جاء ما يلي:

لقد تم تشكيل لجنة المبادرة المستقلة، وهي ليست بحزب أو منظمة، بهدف دعم جهود قوى التيار الديمقراطي وبقية القوى الديمقراطية والمستقلة والشخصيات الدينية العلمانية لتحقيق التعاون والتنسيق والتحالف فيما بينها لضمان السير على طريق تغيير واقع العراق الراهن. ويسعدنا تحقيق هذا التحالف الجديد، آملين أن يتم التعاون والتنسيق مع قوى أخرى يمكنها أن تكون مع “تقدم” وتلعب دوراً مهماً باتجاه تحقيق الدولة الديمقراطية العلمانية بالعراق. وسنبقى نعمل وندعم “تقدم” من أجل تحقيق هذا الهدف.(راجع: كاظم حبيب، رسالة تحية وتهنئة موجهة إلى تحالف القوى الديمقراطية العراقية (تقدم) الحوار المتمدن، 30/10/2017).

سأحاول في عدة مقالات أن أطرح وجهة نظري الشخصية عن الأهمية والضرورة الملحة لتجميع وتعبئة قوى هذا التيار الديمقراطي لصالح تحقيق الأهداف المرجوة والمنشودة من الشعب العراقي أولاً، وكذلك الإجابة الواضحة عن الأسئلة المهمة التي وجهها لي الزميل الفاضل الدكتور قاسم حسين صالح ثانياً. 

الواقع السياسي والاجتماعي في البلاد يشير إلى تفاقم المعركة السياسية والاجتماعية بين غالبية الشعب العراقي ومعها القوى والأحزاب والشخصيات الديمقراطية المستقلة والجماعات المتنورة والواعية بأهمية وضرورة فصل الدين عن الدولة والسياسة من جهة، وتلك القيادات في القوى والأحزاب الإسلامية السياسية الفاسدة التي تقود الحكم الطائفي الفاسد والمتخلف والتابع الحالي من جهة ثانية. وتصر القوى والأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة على مواصلة ذات السياسات الطائفية والفساد المالي والإداري الذي بدأت بممارسته منذ تسليمها الحكم في أعقاب إسقاط الدكتاتورية الغاشمة من قبل المحتل الأمريكي وبدعم مباشر من القيادة الإيرانية الطائفية والفاسدة حتى الآن. فالنظام السياسي الطائفي الفاسد القائم هو ليس النظام الذي يعبر عن إرادة الشعب ومصالحه الأساسية، فهو ليس نظام القوى السياسية الديمقراطية والشعب الذي جاء بحفنة من السراق وقطاع الطرق والمارقين الذين اثروا على حساب خزينة الدولة وأموال الشعب ونشروا الرذيلة والفتنة بالبلاد.

تتميز المعركة السياسية والاجتماعية الجارية بالقسوة والمرارة، وستكلف الكثير من التضحيات الغالية من بنات وأبناء الشعب وقواه الوطنية والديمقراطية النزيهة والمخلصة. ولهذا فخوض هذه المعركة يستوجب الاستعداد المتعدد الجوانب المستمر والمتطور لها من الجانبين النظري والعملي، والذي يمكن أن ألخصه بما يلي:

أولاً: الإمعان في التمييز ووضع الحدود ورفض التمييع والتشابك بين القوى السياسية الطائفية والفاسدة والتابعة الحاكمة من جهة، وبين القوى الديمقراطية والتقدمية والمتنورة الرافضة للطائفية ومحاصصاتها المذلة وللفساد والتبعية لإيران أو غيرها من الدول. إن مثل هذا التمييز الواضح في المواقع والأفكار والأهداف يسهم في تعبئة القوى النظيفة في المجتمع والواعية في مواجهة تلك الحفنة من النخب الإسلامية السياسية الحاكمة التي برهنت على أنها بلا ذمة وضمير أو أخلاقٍ في التعامل مع مصالح الشعب وهمها أولاً وأخيراً مصالحها الذاتية الضيقة والمحرمة قانوناً.

ثانياً: عدم السكوت عن خبايا النظام السياسي الطائفي والفاسد والتابع في جميع جوانب سياساته وإجراءاته المناهضة للحياة الديمقراطية والحريات العامة والمتعارضة مع أهم بنود الدستور العراقي، لاسيما في مجال حقوق الإنسان وحقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والفلسفية وحقوق المرأة والطفل على نحو خاص.

ثالثاً: اعتبار الفساد والطائفية من جهة، والإرهاب الفكري والسياسي من جهة أخرى، هما وجهان لعملة واحدة، وهو ما يتميز به النظام العراقي الراهن، ويزيده بؤساً وفاقة خضوعه للإرادة الإيرانية ومساومته المستمرة مع الولايات المتحدة مرة وإيران مرة أخرى.

رابعاً: إن القوى الديمقراطية العراقية بكل أحزابها وكتلها وتجمعاتها المدنية وشخصياتها الوطنية المستقلة تشكل تياراً سياسياً واجتماعياً مدنياً ديمقراطياً عريضاً وواسعاً في البلاد يسعى إلى بناء الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي، إنه يضم من الناحية الاجتماعية بقايا البرجوازية المتوسطة وفئات البرجوازية الصغيرة، ومنهم الكسبة والحرفيون وصغار المنتجين وصغار الموظفين، إضافة إلى الطلبة والمثقفين والعمال والفلاحين، علماً بأن جزءاً كبيراً من هذه القوى غير منظمة في أحزاب سياسية أو تنظيمات مهنية أو نقابات أو جمعيات مجتمع مدني، بل هم مستقلون ولكن لهم مصالح تلتقي مع مصالح القوى الديمقراطية العراقية.

خامساً: في مقالات لي طرحتها في الفترة الأولى من إسقاط الدكتاتورية طرحت شعاراً يؤكد الأهمية الفائقة لرفع شعار “قووا تنظيم الحركة الوطنية والديمقراطية تقوى وتتعزز تنظيمات احزابكم السياسية”، أي قلبت بمعنى معين شعار الرفيق فهد الذي قال في أوائل وجود الحزب: قووا تنظيم حزبكم. قووا تنظيم الحركة الوطنية”. ومثل هذا الشعار ينسجم تماماً مع الحياة السياسية والمشكلات القائمة والصراعات المحتدمة. وهذا الأمر لا يزال قائماً ومطلوباً بإلحاح كبير.

سادساً: ومثل هذا التوجه الضروري يتطلب موقفاً شديد الوضوح والحساسية من جانب الحزب الشيوعي العراقي، باعتباره أكثر الأحزاب العراقية الوطنية عمراً وتجربة، إضافة إلى امتلاكه نظرية ومنهجاً تساعده على التحليل واستنتاج السياسات والحلول العملية والواقعية للمشكلات القائمة، من خلال إبراز وتنشيط وتشجيع القوى والأحزاب والحركات والكتل والشخصيات الديمقراطية في ثلاثة مجالات جوهرية هي:

  1. في الائتلافات السياسية الانتخابية والتحالفات الجبهوية في الداخل والخارج.
  2. في منظمات المجتمع المدني الديمقراطية في الداخل الخارج.
  3. التعامل الواعي والديمقراطي في قبول أو رفض سياسات أو مواقف أو إجراءات الحزب في المجال الديمقراطي وإخضاعها الفعلي لمبدأ الأكثرية والأقلية.

إن هذا لا يعني بأي حال تخلي الحزب الشيوعي عن المشاركة أو تأمين مواقع عمل نافعة وضرورية لرفاق الحزب في تلك المجالات، بل أن يتم ذلك باختيار خيرة العناصر المتميزة بالاستقلالية والديمقراطية والمرونة المبدئية، وأن تكون الأكثرية للقوى الديمقراطية والمستقلة لضمان التعبئة الواسعة في وحول هذه المنظمات.   

تشير أدبيات الحزب الشيوعي العراقي إلى أن قيادة الحزب تسعى لتحقيق ذلك. وهو ما كنا نطرحه في السابق أيضاً. ولكن تجربتي الطويلة في السابق، بما في ذلك مسؤوليتي عن تنظيمات الخارج في النصف الثاني من العقد التاسع من القرن  العشرين ومعاينتي للواقع على صعيدي الداخل والخارج سابقاً وحالياً، لاسيما الخارج، تشير إلى وجود أشخاص على رأس منظمات الحزب أو قيادة الخارج، أو بعض الشيوعيين والشيوعيات العاملين في التنظيمات الديمقراطية، يتعاملون بغلظة وتشدد، أي بصيغة أخرى غير صيغة الدماثة وصيغة التعامل الأخوية المطلوبة التي قيل لي من أكثر من رفيق قيادي في الحزب أنهم يبشرون بها ويروجون لها، وهو أمر يؤكده الكثير من الأشخاص وتؤكده وقائع الحصاد الراهن التي تشير إلى استمرار وجود هذه الظاهرة السلبية أيضاً.

لا بد هنا من الإشارة إلى أن القوى الأخرى أو الديمقراطيين المستقلين ليسوا كلهم ملائكة أو بدون أخطاء أو بدون حساسية إزاء الحزب الشيوعي العراقي، لاسيما أن جمهرة منهم كانوا في السابق أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي.

التتمة في الحلقات القادمة

             

 

الدكتور كاظم حبيب

هل من حلول عملية لمحنة قوى التيار الديمقراطي في العراق؟

الحلقة الثانية

أسعى في هذه الحلقة إلى طرح رأيي الشخصي بشأن بعض مشكلات قوى التيار الديمقراطي العراقي، من خلال الإجابة عن الأسئلة التي وجهها الزميل الدكتور قاسم حسين صالح.

  • هل هو الشعور بالإحباط واشاعة ثقافة التيئيس من كتاب تقدميين ومن واقع حال العراق الان.. هو الذي اوصل الصديق نبيل لهذا القرار.. ؟

إن التخلي عن السياسة ورفع قبعة الاستسلام أمام واقع معين يعتبر من العمليات الإنسانية المعقدة والمديدة التي لا يُتخذ بشأنها قرار سريع ومفاجئ من جانب هذا المناضل السياسي الديمقراطي أو الشيوعي أو ذاك، كما إنه يختلف من حالة إلى أخرى، فلا يخضع لعامل واحد لدى الجميع، بل يعود لعوامل عدة ومتنوعة ومتباينة. إذ يمكن أن يكون التخلي عن النشاط السياسي ناجم عن إحباط عام من الوضع السياسي القائم في العراق، حيث يرى هذا الشخص أو ذاك فيه نفقاً طويلاً مظلماً دون أن يرى نقطة ضوء في نهايته. كما يمكن أن يعود السبب إلى خلل عام ومديد في العلاقات الإنسانية بين القوى العاملة في الحقل السياسي في هذا الحزب أو ذاك، أو في هذا التحالف أو ذاك، أو نشوء شعور بالمرارة من منافسات غير عقلانية وغير موضوعية في عمل يقوم أساساً على التطوع والاختيار الذاتي لصالح الشأن العام. كما يمكن أن تكون هناك عوامل شخصية كالصحة أو الوضع العائلي، أو أن تكون من عوامل متداخلة ومركبة من بعض أو كل العوامل المذكورة سابقاً …الخ.

هناك العديد من الدلائل التي تشير إلى وجود أجواء غير سليمة ليست جديدة في صفوف الحركة الديمقراطية العراقية وبين أطرافها وفي تحالفاتها السياسية. كما أن هناك شعوراً بالاستعلاء والمنافسة والمناكدة والهيمنة والمزاجية من بعضها إزاء البعض الآخر. إن بروز مثل هذه المشاعر هي التي يمكن أن تقود هذا المناضل أو ذاك إلى الإحساس بالعجز عن مواجهة مثل هذه الأجواء، أو أنه غير قادر وغير مرغم عليها، فيرى أن من الأفضل له أن يترك الساحة السياسية لمن يحاول الحلول محله أو إبعاده. هناك من يتخلى عن السياسة كلية أو عن موقع معين ويواصل العمل السياسي العام دون التزامات مع قوى بعينها. لا يمكن القول بوجود إحباط عام في مجمل الحركة الديمقراطية العراقية، ولكن هناك شعور بوجود عقبات جدية على طريق التفاهم والتفاعل والتضامن والسير المشترك، رغم ضعف الحركة في المرحلة الراهنة وحاجتها لذلك، ناتجة عن وجود خلافات ناشئة عن تباين في المواقف والسياسية إزاء الوضع السائد في العراق وإزاء العملية السياسية الجارية وإزاء التحالفات السياسية القائمة. فإنهاء وجود “تقدم” أدى عملياً، من خلال نشوء تحالف جديد للحزب الشيوعي العراقي مع حركة التيار الصدري الإسلامية السياسية في “سائرون”، إلى حصول شرخ مؤذٍ في صفوف الحركة الديمقراطية العراقية الضعيفة أصلاً، وعمق الاختلاف والتباعد فيما بين هذه القوى. من نافل القول الإشارة إلى أن كل الأحزاب والقوى السياسية، ومنها الحزب الشيوعي العراقي، تمتلك الحق في التحالف مع من تشاء من القوى والأحزاب السياسية، ولكن من الصواب والحق أيضاً أن ينتبه كل حزب إلى الحلفاء الموضوعيين الذين يتناغمون مع أهدافه القريبة والبعيدة أولاً، ومدى تأثير التحالف الجديد على علاقاته وتحالفاته الأخرى وعلى مجمل عمل الحركة الديمقراطية العراقية. واعتقد بأن الجميع قد عاش الفوضى والارتباك اللذين سادا في صفوف الحركة الديمقراطية والصراعات التي برزت بسبب تلك الخطوة، سواء أكان ذلك في صفوف الحزب الشيوعي، أم في صفوف مجمل الحركة الديمقراطية العراقية وتأثيرها الفعلي السلبي على علاقات ونشاط أطراف هذه الحركة.

لقد مرّت الحركة السياسية العراقية بتجربة الدخول في تحالفين في الثمانينيات من القرن الماضي حين دخل الحزب الشيوعي في تحالفين في آن واحد مع “جوقد” في سوريا، ومع “جود” في كردستان العراق، الأول ساهم فيه الاتحاد الوطني الكردستاني، والثاني اشترك فيه الحزب الديمقراطي الكردستاني، وكلا الحزبين كانا في صراع وقتال فعلي حين عُقدت هاتان الجبهتان، وكانت لهما عواقب شديدة الأذى على الحزب الشيوعي ذاته، قبل غيره. لا شك في وجود فارق بين تلك الفترة وهذه الفترة وحتى بين القوى المشاركة، ولكنها تبقى تجربة غنية كان من الضروري الاستفادة من دروسها.

لقد بذلت القوى الديمقراطية جهوداً كبيرةً ومضنيةً حتى تحقق لها تشكيل “تقدم” في عام 2017. ولم تمض فترة طويلة على ذلك حتى دخل الحزب الشيوعي العراقي في تحالف مع التيار الصدري الإسلامي السياسي، متخلياً عملياً عن “تقدم” التي تفككت وغاب اسمها عن الساحة السياسية العراقية وخسرت هذه القوى جهوداً كبيرة ولسنوات عدة، لا تزال الحركة الديمقراطية في الداخل والخارج تعاني منها. 

هذا التحالف الذي حصل في الداخل انعكس بشكل سلبي حاد على واقع وعمل تنسيقيات التيار الديمقراطي العراقي في الخارج، التي كانت قد تشكلت قبل ذاك، ومن ثم تعززت في فترة عمل “تقدم” للقوى والأحزاب الديمقراطية وعقدت مؤتمراتها ووضعت برامج لتنسيقياتها. فقد دخل إليها العطب النسبي والاختلاف في الرؤية السياسية وفي أساليب العمل وأدواته وشخوصه بين حزب التيار الاجتماعي الديمقراطي وجماعات وشخصيات ديمقراطية مستقلة من جهة، وتنظيمات الحزب الشيوعي العراقي والقوى الديمقراطية والشخصيات المستقلة المؤيدة له والمتعاونة معه من جهة ثانية. وفي هذا الإطار نشأ نوع من الصراع بين الأجندات العملية وما نشأ عنها من مماحكات ومناكدات وحتى منافسات لا تزال مستمرة ومنغصة. ومع إن مثل هذه الأجواء غير مرغوب بها بأي حال، ولكن الواقع يشير إلى وجودها ودورها السلبي وتأثيرها على مجمل عمل التنسيقيات في الخارج، حتى أدى الوضع في الفترة الأخيرة إلى استقالات وبيانات تضامن ورسائل وإساءات متبادلة لا يجوز أن تبرز بين قوى تقف في معسكر واحد رغم الاختلافات القائمة في رؤاها السياسية.

منذ ما يزيد على عام يبذل الحزب الشيوعي العراقي محاولات حثيثة لرأب الصدع من خلال تشكيل تحالفات لقوى ديمقراطية أخرى، إلا إنها لا تزال ضعيفة وشكلية رغم ضرورتها، لأن قوى أخرى تريد ضمانات لكي لا يحصل معها ما حصل قبل ذاك مع “تقدم”، لاسيما وأن الحزب الشيوعي ما زال مع “سائرون” في تحالف سياسي معقد. ولا بد من الإشارة إلى أن تحالف “سائرون” لم يقدم للشعب البديل المناسب القادر على التعبئة الضرورية، كما لم يلعب دوره في تنفيذ ما التزمت به قوى “سائرون” في محاربة الطائفية ومحاصصاتها المذلة والفساد السائد في العراق وتبعية العراق للخارج، بل هناك من الدلائل ما يشير إلى تورط العديد من أطراف “سائرون”، ما عدا الحزب الشيوعي، في معمعان الطائفية والفساد والمحاصصة في الدولة العراقية، إضافة إلى احتلال “سائرون” المئات من الوظائف المدنية المهمة التي أنيطت بهم على أساس المحاصصة الطائفية، والتي لم يتلوث بها الحزب الشيوعي حتى الآن، إضافة إلى وجود ميليشيا مسلحة لدى التيار الصدري الذي يقود “سائرون” باسم “سرايا السلام” التي تشكل جزءاً من الحشد الشعبي. وفي هذا الحشد الشعبي تؤمن غالبية الميليشيات الطائفية المسلحة وقياداتها بولاية الفقيه الإيراني، ويعتبر قائدها الأعلى، وتأخذ الفتاوى والأوامر منه وليس من رئيس الوزراء العراقي والقائد العام للقوات المسلحة. كما لم يعد بإمكان القوى الديمقراطية العاملة في سائرون توجيه أي نقد لـقائد سائرون الفعلي “مقتدى الصدر” حين يكون النقد موضوعياً وضرورياً.

حين تنشأ مشكلات في صفوف الحركة الديمقراطية العراقية ينبغي أن نتوجه بدراسة طبيعة تلك المشكلات والعوامل التي تسببت بها وسبل معالجتها بعيداً عن التشنجات والتوترات والإساءات، إذ من تسيء له اليوم لا بد ستعمل معه غداً لأن الجميع في موقع واحد وليس في موقعين، وحين ذاك يصعب عليك الدفاع عنه، إذ أن المصداقية ستسقط أمام الناس.

أؤكد مرة أخرى بأن على قيادات القوى والأحزاب الديمقراطية في العراق أن تعقد لقاءات مكثفة وعاجلة لمعالجة الوضع الراهن لكي لا تحصل تداعيات إضافية فتتساقط التنسيقيات كقطع الدومينو التي لا يريد ولا يرغب أي منا حصولها. إن استقالة الزميل نبيل تومي، بغض النظر عن العوامل التي كانت وراءها، أثارت مشكلة كانت وما تزال تعاني منها الحركة الديمقراطية العراقية وتستوجب الدراسة والمعالجة ولهذا يمكن القول “رب ضارة نافعة”! وهي موضوع الحلقة الثالثة.

يتبع

 

الدكتور كاظم حبيب

هل من حلول عملية لمحنة قوى التيار الديمقراطي في العراق؟

(الحلقة الثالثة)

ليس غريباً أن تحصل وجهات نظر متباينة ومشكلات في مجرى عمل ونشاط قوى التيارات الديمقراطية في جميع بلدان العالم، بل الغريب ألَّا تحصل. إذ أن تعقيدات الحياة السياسية، لاسيما في الدول التي تغيب عنها الحريات والحياة الديمقراطية، وتنوع الفئات الاجتماعية والأحزاب والقوى السياسية العاملة في إطار هذه التيارات، والتباين في مستوى الوعي في قيادات وقواعد ومؤيدي هذه الأحزاب، غالباً ما تتسبب في بروز تباين في وجهات النظر ومن ثم بروز مشكلات في مجرى النضال اليومي. كما يمكن أن تلعب الفئات والنخب الحاكمة دوراً ملموساً في إشاعة المشكلات والصراعات في صفوف قوى التيارات الديمقراطية أساليب وطرق مختلفة، وغالباً ما تكون غبية، ولكن لا تخلو من نتائج لصالحها وضد تعاون وتضامن ووحدة قوى التيارات الديمقراطية. ولكن الغرابة تبرز حين لا تضع قوى التيارات الديمقراطية نظم عمل وقواعد تنظيمية ملزمة ومجربة تعالج من خلالها الموقف من التباين في وجهات النظر ومن تلك المشكلات بهدف التغلب عليها ومواصلة نضالها للوصول إلى الأهداف الوطنية والديمقراطية المنشودة.

يمتلك العراق تجارب غنية وكثيرة منها الناجحة والمظفرة من جهة، ومنها الفاشلة والمحبطة من جهة أخرى. وعلى عاتق قيادات قوى التيار الديمقراطي تقع مسؤولية وضع الأسس الكفيلة بمعالجة التباين في وجهات النظر والحلول العملية للمشكلات القائمة. ويفترض أن نتذكر باستمرار بأن قوى أي حزب من الأحزاب وفي مواقعها المختلفة ليست واحدة أو متماثلة في وعيها لأهمية التحالفات ودور كل حزب فيها أو وجود صقور يقفون على يمين ويسار كلٍ منها. أي ليس الحديث هنا عن الحزب الشيوعي وحده، بل أعني حقاً كل القوى والأحزاب التي تعلن عن نفسها أنها ضمن قوى التيار الديمقراطي العراقي.

تواجه قوى وحركة التيار الديمقراطي العراقي في هذه المرحلة بالذات تحدياً كبيراً من جانب القوى والأحزاب والنخب الحاكمة الطائفية والفاسدة التي تمارس سياسات تؤكد على قيامها بتوزيع العمل فيما بينها، بين الأحزاب الإسلامية السياسية ذاتها من جهة وفيما بينها وبين المرجعيات الدينية الشيعية من جهة أخرى، وبينها وبين قوى ومرجعية ولاية الفقيه في إيران من جهة ثالثة. ولذلك يفترض في قوى التيار الديمقراطية أن تدرك هذه الحقيقة وأن تتعامل مع هذه القوى بكل حيطة ويقظة وحذر. ولنا مع من يختلف أيديولوجيا مع قوى التيار الديمقراطي تجارب غنية وكلها مؤلمة ومريرة، رغم محاولات البعض تبريرها وتجميلها وإضفاء الشرعية عليها، إذ أن حقائق الأمور تشير إلى عكس ذلك!

ومن المفيد الإشارة إلى واقع آخر بالنسبة إلى تنظيمات قوى وأحزاب التيارات الديمقراطية العراقية في الخارج هو أن جميعها يعيش في عزلة عن ملايين العراقيات والعراقيين اللاجئين والمقيمين في الشتات العراقي، وبالتالي ليست لهم صلة فعلية مع الجماهير، وأن علاقاتهم في الغالب الأعم مع أوساط محدودة جداً يتكرر حضورها وباستمرار في ندوات واجتماعات ومؤتمرات هذه القوى والأحزاب دون استثناء، كما أن غالبية العاملين هم من كبار السنة وقلة قليلة من الشبيبة التي تتميز بالحيوية والمبادرة وقلة التعقيدات والحساسيات. إن هذه العامل له أثره السلبي الملوس والمعترف به من قبل الجميع على العلاقات الإنسانية والاجتماعية فيما بين القوى الديمقراطية.    

يعتبر الحزب الشيوعي العراقي ليس فقط أعرق الأحزاب السياسية القائمة في البلاد وأكثرها استمرارية ودون انقطاع فحسب، بل وأكثرها غنى بتجاربه وخبراته النضالية، إضافة إلى كونه يمتلك، من حيث المبدأ، منهجا علمياً يساعده، إن حَسُنَ استخدامه، في تحليل الأوضاع ووضع الاستراتيجية والتكتيكات الضرورية للعمل من جهة، ومعرفة طبيعة القوى الاجتماعية والسياسية الحليفة التي يفترض التفاعل وتحديد سبل التعامل والتحالف معها في إطار المرحلة الراهنة من جهة أخرى.

من هنا انطلقت في وضع الشعار القائل “قووا تنظيم الحركة الوطنية والديمقراطية العراقية، قووا تنظيم حزبكم”. وهذا يتطلب مجموعة من المستلزمات التي أ طرحها للمناقشة بهدف الوصول إلى نتائج إيجابية بشأنها.

  1. الحركة الديمقراطية ليست حكراً على تيار واحد أو حزب واحد أو فئة اجتماعية واحدة فهي مفتوحة على من لديه القناعة من الأحزاب والقوى والأفراد بالمبادئ الديمقراطية ومبادئ المجتمع المدني الديمقراطي والحربات العامة وحقوق الإنسان كسلة متكاملة لا تتجزأ، وحقوق القوميات وحقوق المرأة والحق في العمل والتنمية وبيئة نظيفة …إلخ. ولكنها أيضاً لا يمكنها أن تكون مفتوحة بأي حال بصورة مكشوفة أم مستترة، لقوى طائفية وتمارس التمييز الديني والطائفي أو قوى وأحزاب وشخصيات شوفينية وعنصرية أو رافضة لحقوق المرأة ومساواتها بالرجل.. إلخ.
  2. أن العمل في التيار الديمقراطي يفترض أن يرتقي إلى مستوى المسؤولية المشتركة والمساواة في النظر إلى كل القوى المشاركة صغيرها وكبيرها وتكريس الاحترام والمنفعة المتبادلة والاستقلالية مع حماية ما تم الاتفاق عليه.
  3. ليس هناك من موانع في إقامة علاقات وعدة ائتلافات سياسية، شريطة الحفاظ على النواة الأساسية للتحالف بين قوى التيار الديمقراطي وعلى الأهداف التي أجمعت عليها قوى هذا التيار. أي عدم التفريط بتحالف قوى التيار في سبيل تحالف تكتيكي مؤقت، أو التفريط بالمبادئ الأساسية للديمقراطية وأهداف الحركة الديمقراطية.
  4. أن تلعب الأحزاب السياسية ذات الوزن والتأثير البارزين والملموسين دوراً أكبر في تنشيط وإبراز دور ومساهمة القوى والشخصيات الديمقراطية المستقلة في إطار لجان التحالف الديمقراطي، إذ إن مثل هذه الرؤية تساهم في جلب المزيد من المستقلين إلى التحالف الجبهوي، في حين يمكن للأحزاب السياسية عبر نشاطها المستقل وفي إطار التحالف أن تكسب لها المزيد من الأعضاء والمؤيدين، كما يمكن أن يتحول بعض المستقلين في مجرى العملية النضالية إلى صفوف التحالف أو الجبهة الديمقراطية.
  5. أن يعتمد العمل في اللجنة التنفيذية واللجان التنسيقية إلى مبدأ الأكثرية والأقلية في مناقشة وإقرار الاقتراحات والقرارات. أي ابتعاد جميع الأطراف عن محاولة فرض رأيها على الآخرين.
  6. يلعب مبدأ المنافسة الديمقراطية داخل التحالف في كسب الآخرين لصالح الحركة الديمقراطية والتحالف دوراً مهماً في تنشيط العمل وتطويره.
  7. أهمية وضرورة التخلي عن الإساءات المتبادلة، أو تخوين المناضلين، أو الاعتقاد بأنهم يتآمرون على هذا الحزب أو ذاك، وكأن عداءً مستحكماً بين أطراف أو قوى أو شخصيات قوى التيار. إنه مرض يجب مكافحته ابتلت به الحركة الديمقراطية فترة طويلة. لا شك بأن هناك من يعادي الحزب الشيوعي العراقي أو أي حزب آخر في قوى التيار الديمقراطي، ولكن هؤلاء لا يعملون ضمن قوى التيار الديمقراطي، وقد كشفوا عن أنفسهم من خلال كتب أو مقالات صحفية كثيرة تجسد مواقف عدائية فعلية للحزب الشيوعي أو لحزب التيار الاجتماعي الديمقراطي مثلاً.
  8. ضرورة تشكيل لجنة حكماء لمعالجة بروز اختلافات أو مشكلات في صفوف اللجنة التنفيذية أو بين الأطراف أو اللجان التنسيقية لتفادي تراكم وتضخم المشكلات التي يمكن أن تقود إلى صراعات ومن ثم نزاعات لا طائل منها.

  التتمة في الحلقة الرابعة والأخيرة التي ستشمل الإجابة عن بقية أسئلة الزميل البروفيسور الدكتور قاسم حسين صالح.

 

الدكتور كاظم حبيب

هل من حلول عملية لمحنة قوى التيار الديمقراطي في العراق؟

(الحلقة الرابعة والأخيرة)

أسئلة تحتاج إلى أجوبة

وجه الصديق الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح أسئلة عن العوامل التي قادت الزميل نبيل تومي إلى الاستقالة من العمل في تنسيقية التيار الديمقراطي في السويد ومن العمل السياسي. وفي هذه الحلقة أواصل الإجابة عن السؤالين الأخيرين لاستكمال رؤيتي الشخصية بشأن الموضوع: هل هو الشعور بالإحباط واشاعة ثقافة التيئيس من كتاب تقدميين ومن واقع حال العراق الان.. هو الذي اوصل الصديق نبيل لهذا القرار.. قد يكون العد التنازلي للقوى الماركسية والتقدمية والمدنية في العراق؟ هل هو ضعف.. تقصير.. فشل.. نواب هذه القوى في البرلمان؟

 كان العراق ولا يزال وسيبقى يتأثر بالأحداث الجارية في العالم ومنطقة الشرق الأوسط، كما يؤثر، بسبب موقعه الاستراتيجي وما يملك من ثروة نفطية في الأحداث الجارية في منطقة الشرق الأوسط على نحو خاص. فلو تابعنا وقائع العقود الأربعة الأخيرة التي حصلت على الصعد الدولية والعربية والمحلية مثلاً لوجدنا مصداقية لهذه العلاقة الجدلية بين أحدث العالم والمنطقة والعراق. وبما أن السؤال يدور حول القوى الماركسية وعموم اليسار والقوى الديمقراطية سأحاول التركيز عليها. فخلال العقود الأربعة المنصرمة تعرضت القوى الديمقراطية، وفي مقدمتها قوى اليسار في العالم إلى هزات زلزالية عنيفة ، كما تلقت ضربات شديدة وأصيبت بخسائر كبيرة. وقوى اليسار العراقية هي الأخرى كان لها نصيب كبير جداً من كل ذلك، إذ إنها تعرضت لكل ذلك، إضافة إلى الأحداث المحلية والعربية والشرق أوسطية، والتي أوجزها مجتمعة بالنقاط التالية:

على الصعيد العالمي:

1) انهيار المنظومة الاشتراكية، التي كانت تعتبر بالنسبة لقوى اليسار قدوة في النضال من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسلام، فقد أصاب جميع هذه القوى خيبة أمل شديدة ما تزال بعض أثارها مستمرة حتى الآن. ولم يتبين لجماهير واسعة، لاسيما قوى اليسار، في جميع أنحاء العالم، وفي الدول النامية خاصة، بأن هذه النظم كانت في العقود الستالينية وما بعدها قد أساءت للماركسية كثيراً بروسنتها وتصديرها للعالم كرؤية ماركسية عالمية والتي أخذت بها غالبية الأحزاب الشيوعية والعمالية. ولهذا كانت هناك خيبة أمل بالماركسية وسميت بأزمة الماركسية، في حين لم تكن الأزمة مرتبطة بالمنهج او الفكر الماركسي او النظرية الماركسية، كما أرى، بل بالتطبيقات المخلة والخاطئة والبعيدة عن التحليل العلمي الماركسي والرؤية الواعية للأحداث في دول المنظومة الاشتراكية.

2) التحول الكبير في نهج وسياسات النظام الرأسمالي العالمي متمثلاً بدوله الرأسمالية المتقدمة، صوب اللبرالية الجديدة منذ ثمانينات القرن الماضي ولاسيما فترة ريغن-تاتشر، التي تميزت بممارسة سياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية يمينية ويمينية متطرفة تجلت في سياسات المقاطعات الاقتصادية والحروب الاستباقية ودعم النظم الرجعية واليمينية في العالم. ومن يتابع مسيرة السياسة الدولية والإقليمية والكثير من سياسات الدول القومية (المحلية)، سيجد انتعاشاً ملموساً بل، وأحياناً كبيراً جداً، للسياسات اليمينية واليمينية المتطرفة، بما فيها الدينية والطائفية والشوفينية والعداء للأجانب بدعم مباشر من الدول الرأسمالية المتقدمة. وفيها تبرز الضغوط الشديدة والمتنوعة من أجهزة الدولة السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية ضد قوى اليسار عموماً والماركسية على نحو خاص على صعيد الكثير من الدول في العالم. وهي سياسة ما تزال مستمرة يؤكدها الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب

3) الدعم غير المحدود من جانب الدول الرأسمالية المتقدمة، لاسيما الولايات المتحدة، وبالتعاون مع المملكة السعودية ودول الخليج وباكستان، من خلال السياسات والأجهزة المخابراتية وأجهزة الدعاية وصرف الأموال وتوفير السلاح، لقوى الإسلام السياسي المتطرفة، لاسيما ذات الذهنية الوهابية المتطرفة والتكفيرية ابتداءً من الحرب في أفغانستان ضد الحكومة الأفغانية وضد الوجود السوفييتي العسكري في أفغانستان، والتي لا تزال مستمرة بصيغ وأدوات وأساليب متنوعة.

على صعيد الشرق الأوسط:

أدت تلك العوامل الدولية إلى عواقب سلبية عديدة منها: تكريس الوجود الرجعي للنظم السياسية رغم انتفاضات بعض شعوب الدول العربية (الربيع العربي)، توجيه ضربات قاسية للقوى الديمقراطية واليسارية فيها، وقوع حروب طويلة ومريرة بالمنطقة، ابتداء من الحرب العراقية الإيرانية، وبعضها لا زال مستمراً، تصاعد المد الديني والطائفي الرجعي في دول عديدة تهدد بمخاطر حروب إقليمية مدمرة، تفاقم البؤس والفاقة والفساد في عموم دول المنطقة، وتفاقم السياسة اليمينة المتطرفة لحكومة نتنياهو في إسرائيل، سواء على الصعيد الداخلي أم إزاء سياسة احتلال الضفة الغربية وضد عموم الشعب الفلسطيني. كما يلاحظ حصول تدخلات فظة من جانب دول المنطقة بشؤون بعضها الآخر، كما في حالة إيران والسعودية وتركيا وبعض دول الخليج، والتي تجد التأييد والدعم المتنوع من الدول الكبرى. إن منطقة الشرق الأوسط مهددة اليوم بمخاطر حرب شاملة تكمن وراءها مصالح استعمارية أساساً ورغبات جامحة في الهيمنة الدينية والطائفية والروح الشوفينية، سواء أكان من إيران أم تركيا أم السعودية أم الولايات المتحدة أم إسرائيل التي نجد أصابعهم ممتدة في كل تلك الصراعات الدموية.                   

على صعيد العراق: يمكن تسجيل النقاط التالية:

1) تفاقم الاستبداد والقسوة في ظل حكم البعث بأساليبه الفاشية والدموية في التعامل مع القوى السياسية المعارضة وعموم المجتمع ونشوء دكتاتورية ذات نهج شمولي، شوفيني توسعي وعدواني صوب الداخل والخارج.

2) استخدام سياسات شوفينية وعنصرية مقيتة وحروب داخلية ضد الكرد والكرد الفيلية وعرب الجنوب (الشيعة)، وحروب خارجية عدوانية توسعية ابتداء من عام 1980 ضد إيران والكويت وحربين ضد العراق في العام 1991 و2003.

3) تعرض المجتمع بسبب سياسات النظام وإصراره على احتلال الكويت إلى فرض حصار اقتصادي دولي ظالم وتجويع لا مثيل له للشعب العراقي طوال 13 عاماً.

4) مارست الدكتاتورية البعثية المجرمة سياسات التصفية الفكرية والسياسية والجسدية ضد قوى المعارضة العراقية، وتلقى الحزب الشيوعي العراقي أبشع أنواع السياسات الهمجية من نظام البعث واختفى اسم الحزب في الثمانينيات من الحياة السياسية الداخلية في العراق تقريباً، ما عدا المناطق الجبلية والريف في إقليم كردستان العراق.   

5) إسقاط الدكتاتورية عبر الحرب الخارجية وتسليم السلطة عن سابق تصميم وإصرار إلى القوى الشيعية الطائفية التي تبذل أقصى الجهود لفرض دولة دينية طائفية شيعية في البلاد خاضعة وتابعة لإيران عملياً و”متحالفة” مع الولايات المتحدة!

6) على امتداد تلك الفترة تراجع الوعي السياسي والاجتماعي لدي الغالبية العظمى من السكان ولعبت القوى والأحزاب والمرجعيات والمؤسسات الدينية الشيعية والسنية دورها في تعميق التخلف الفكري والغور في الغيبيات والخرافات والبدع التي حولت الكثير من البشر إلى ركام من رماد! وتزييف الوعي الفردي والجمعي، وتفاقم الأمية بين الناس والفقر والحرمان والبطالة.

7) عمل النظام الدكتاتوري البعثي على تغييب كامل لاسم الحزب الشيوعي من الساحة السياسية الداخلية، بعد اعتقال عشرات الآلاف من الشيوعيين والديمقراطيين وأصدقاء الحزب بين 1977/1978-1980/1981 وسجن الكثيرين منهم سنوات طويلة أو تغييب مناضلين شجعان تماماً، كما في حالات د. صفاء الحافظ ود. صباح الدرة وعائدة ياسين، وقتل جمهرة من خيرة الشيوعيين والديمقراطيين ومؤيدي الحزب، مع وجود فعلي للحزب في جبال وريف كردستان، وشيوعيين متفرقين في مختلف المدن العراقية بصلات خيطية.

8) ويمارس الحكم الطائفي الفاسد وغالبية الأحزاب الإسلامية السياسية سياسات مناهضة للشيوعية والقوى الديمقراطية، كما تبث إشاعات ودعايات مناهضة للقوى الديمقراطية، لاسيما اليسارية منها. ويتعرض الكثير من الشيوعيين والديمقراطيين إلى عنت الأجهزة الأمنية والمليشيات الطائفية وقتل العديد من خيرة المناضلين الشجعان.

9) تستخدم القوى والأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة سلطات الدولة الثلاث لصالح تكريس وجودها أولاً، ومواصلة نهبها لثروات البلاد ثانياً، واستمرار تزييف الوعي الفردي والجمعي، لاسيما الشيعي، بالخرافات والبدع والبكاء والعويل واللطم على شهداء الطف، واعتبار معركة أتباع الحسين ضد أتباع يزيد، أي شيعة العراق ضد سنة العراق، ما تزال مستمرة (اقرأ الطائفي بامتياز رئيس وزراء العراق الأسبق) ثالثاً، والسقوط المستمر في أحضان إيران رابعاً. ولهذه الحالة عواقب سيئة على الشعب والقوى الديمقراطية.    

إن هذه الأجواء كلها تسهم في إضعاف القدرة في الوصول إلى الجماهير الكادحة التي هيمن الدين والنهج الطائفي المقيت على أذهان الغالبية العظمى (سنة وشيعة)، مما خلق مصاعب جمة لممارسة عملية التنوير الضرورية في الأوساط الشعبية. ولا شك في أن نوعية الخطاب السياسي وضعف التعاون والتضامن والوحدة الضرورية بين قوى اليسار وعموم القوى الديمقراطية تجعل من غير السهل إقناع المجتمع بقدرات هذه القوى على تقديم العون الضروري للمجتمع والمشاركة الفاعلة والمؤثرة في تغيير النظام السياسي القائم.

” من أجل تجاوز عثرتكَ، عليك أولاً أنْ تعترف بأنك سقطتَ، كي تنهض وتواصل المسير!” كما يقال.

نعم، يمكن تلمُّس مظاهر من الإحباط لدى أوساطٍ وفئات مختلفة من المجتمع، مما يستلزم مصارحة الناس والكف عن

إشاعة الأوهام بإمكانية الإصلاح والتغيير ضمن الظروف والتوازنات المحلية والإقليمية. وأن عملية الإصلاح والتغيير تستلزم تعبئة كل القوى الخيرة في المجتمع، منظمات وأحزاب وأفراد ومنظمات مجتمع مدني، حول برنامج واضح، و”فك الارتباط” مع أطراف الفساد ومن لا مرجعية وطنية لديه، بل مرتبط بمرجعيات خارجية … كي لا نتحول إلى “شهود زور”!!

 

إن وجود رفيقين شيوعيين وبعض المدنيين الديمقراطيين في مجلس النواب العراقي الطائفي والفاسد في أغلبيته ومن قمة رأسه إلى أخمص قدميه لا يستطيعون تغيير واقع الحال، ولكنهم يبذلون جهوداً خيرة على هذا السبيل. إلا إن المشكلة لا تكمن في ضعف قوانا الديمقراطية كل على انفراد فحسب، بل بالأساس في فرقتنا وعجزنا عن إيجاد إطار مناسب لعملنا المشترك. وحين امتلكنا بعد عملية عسيرة مثل هذا الإطار اطحنا به بين ليلة وضحاها! نحن، أقصد القوى الديمقراطية العراقية، في محنة من أمرنا، فبعضنا يعتبر هذا النظام نظامه (اقرأ مقال لأحد قادة الحزب الشيوعي العراقي) في حين أنه نظام سياسي طائفي فاسد ورجعي وتابع، في حين تشن جماهير ديمقراطية واسعة النضال لتغيير هذا النظام سلمياً وديمقراطياً وتسعى لتغيير موازين القوى.  

رغم قناعتي بوجود صراعات بين قوى الإسلام السياسي تدور حول المواقع الأول في السلطة، وحول المال والنفود الاجتماعي، إلَّا إنها تتوحد حين تواجه خصومها، لاسيما القوى الماركسية واليسارية عموماً. من هنا لا يمكن بأي حال نفي وجود توزيع أدوار وأعمال فيما بين قوى الإسلام السياسي أولاً، ومع المرجعيات والمؤسسات الدينية والشيعية والسنية ثانياً وفيما بين المرجعيات والمؤسسات الدينية ثالثاً، بما في ذلك مهمة اضعاف القوى الديمقراطية العراقية وتفتيتها ونسف أي تعاون وتنسيق ووحدة عمل فيما بينها، وبضمنها قوى اليسار، ومنها الحزب الشيوعي طبعاً.      

ولا بد لي من الإشارة أيضاً إلى أن ظاهرة ضعف القوى اليسارية هي الآن عالمية، كما هو حال ظاهرة صعود القوى اليمينية عالمياً. ولكن هذه الحالة غير ثابتة ومتحركة، ويمكن القول بأن هناك مؤشرات جدية تشير إلى احتمال حصول تغير فعلي في الوجهة العامة، بما في ذلك الأزمة التي ستواجه الاقتصادات الأوروبية والولايات المتحدة في الفترة القادمة، رغم شعور ترامب بحصوله على مكاسب في التشغيل، إلا إنها مؤقتة وعوامل الأزمة فاعلة في العمق وسرعان ما تصل إلى سطح الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وسوف لن يكون العراق بمعزل عن كل ذلك، لاسيما تفاقم الأوضاع الراهنة في الشرق الأوسط ذات السخونة الشديدة، وكأن المنطقة تجلس على مرجل شغَّال.

إن عودة الحزب الشيوعي إلى حاضنته الأساسية، القوى الديمقراطية والتقدمية، والتحرك الكثيف والدؤوب بين أوساط الشعب الكادح من عمال وفلاحين وكسبة وحرفيين وطلبة ومثقفين ونساء، إضافة إلى تنشيط البرجوازية المتوسطة، ستلعب دوراً مهماً في إيجاد الأجواء الأكثر ملائمة لتوفير مستلزمات تغيير موازنين القوى على المدى المتوسط والطويل.  

ويمكن تلخيص الإجابة عن أسئلة الزميل الدكتور قاسم بما يلي:

  • يعاني الكثير من المناضلين الديمقراطيين والمستقلين من تعب السياسة وعدم الرغبة في حضور الندوات والاجتماعات، بسبب بعض الخيبات القاسية التي مرّوا به أو تعرضوا لها. ويجري التعبير عنها بصيغ شتى.
  • والخيبة الأكبر فيما حصل بعد إسقاط الدكتاتورية بقيام نظام سياسي طائفي فاسد حتى النخاع سُلطَ على الشعب من قبل قوى الاحتلال الأمريكي بمساومة قذرة مع المستعمر الإيراني الجديد.
  • خيبة أمل لما حصل في الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية والوضع العام على الصعيد العالمي، والادعاء بأن سبب الانهيار هو المؤامرة الخارجية وليس الخراب الداخلي.
  • خيبة جمهرة واسعة من المستقلين الديمقراطيين من فشل القوى الديمقراطية، بما فيها القوى والأحزاب اليسارية، في تشكيل تحالف وطني ديمقراطي واسع وقادر على المشاركة الفعلية والتأثير النسبي في أحداث العراق.

ولكن هناك ما يزال أمل في تغيير العمل والمزاج السياسي فيما يلاحظ من حراك نقابي وشعبي متطور في بغداد والمحافظات يطالب بأهداف مهنية مقرونة بأهداف وطنية وديمقراطية عامة، منها مثلاً: ربط البطالة وغياب التنمية بالفساد السائد والحكام الفاسدين، والفقر بنهب خيرات البلاد من قبل الحكام أعضاء قيادات الأحزاب الإسلامية الحاكمة، والجهل وتزييف الإرادة والوعي بدور الأحزاب الإسلامية السياسية والمرجعيات الدينية الشيعية والمؤسسات الدينية السنية.. إلخ.    

 

 

 

 

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *