الاستبداد والقسوة والاستغلال وجور القوانين في العراق القديم

حلقات لمعالجة الدكتور كاظم حبيب تنشرها ألواح سومرية معاصرة هنا

الدكتور كاظم حبيب 

الحلقة الأولى 1- 6

الاستبداد والقسوة والاستغلال وجور القوانين في العراق القديم – الحلقة الأول: المدخل، تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية في العراق القديم 

حين يواجه الشعب العراقي استبداد الحكام وجورهم المكثف والممعن في مصادرة حريتهم وحقوقهم الأساسية ودوسهم على كرامته، وحين يشعر هذا الشعب المسحوق بالاختناق الشديد نتيجة الضغط المتعاظم على صدره وأنفاسه، وحين يدرك بأن لا مناص من الانتفاض ضد هؤلاء الطغاة للخلاص الأبدي منهم، عندها يستعيد الشعب بذاكرته الحية مسألتين مهمتين هما: كيف كانت حياة هذا الشعب على امتداد تاريخه الطويل مع حكامه ومدى معاناته منهم ومن النظم السياسية والاجتماعية التي حكمته، ومدى العدالة الاجتماعية أو اللاعدالة التي تميزت بها تلك النظم وهؤلاء الحكام، لاسيما وهو يعيش في واحد من أبرز مهود الحضارة البشرية العالمية التي قدمت منجزات إنسانية كبيرة وكثيرة للبشرية بأسرها أولاً، وكيف تعامل هذا الشعب مع تلك النظم وهؤلاء الحكام، لاسيما الجبابرة منهم الذين قسوا عليه وأهانوا كرامته وأخضعوه لإرادتهم، وكيف انتفضوا في اللحظة المناسبة حين بلغ الظلم والظلام مداهما وإلى الحد الذي لم يعد ممكناً السكوت عليهما أو تحمل المزيد من المعاناة، فانتفض المجتمع بأسره ووجد طريقه للعيش بأمن وسلام ومحبة دون هؤلاء الحكام الطغاة ثانياً. الشعب في العراق يقف اليوم أمام هذه الحالة، أما نظام طائفي محاصصي فاسد وظالم وقاتل، إنه يتمعن في تاريخه وحضارته ومعاناته الراهنة ليتفجر غضباً، ثورة تسحق بإقدام المنتفضين والمنتفضات هؤلاء القساة الفاسدين والممعنين بالظلم والقهر والفساد، هؤلاء الذين قتلوا وجرحوا وتسببوا في موت مئات الآلاف من الناس الأبرياء المطالبين بحقوقهم العادلة والمشروعة وباستعادة وطنهم المستباح والسليب وحرياتهم المنتزعة وحقوقهم المصادرة. عندها يكون قد مشى الشعب بنسائه ورجاله على الطريق الصحيح لانعتاقه من جور الحكام الطائفيين والفاسدين والمفسدين الذي ولغوا بدماء الشعب وأفقروه وسرقوا لقمة عيشه وداسوا على كرامته!!!قال كارل ماركس “إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة. وما نراه الآن هو المهزلة”، أما ما يجري في العراق فهو المأساة والمهزلة في آن واحد…

1-6

المدخل، تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية في العراق القديم

عند دراسة تطور إشكاليات الاستبداد والقسوة وجور القوانين وممارسة العقوبات القاسية باعتبارها أشكالاً للتعذيب في العراق القديم، عراق حضارة العُبيد والوركاء وجمدة نصر والسومريين والأكديين والبابليين والآشوريين والكلديين، يتطلب الأمر دراسة طبيعة المجتمع والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي سادت فيه والقوانين أو الشرائع التي وضعت حينذاك وتطورها التاريخي ومدى تعبيرها عن التغيرات التي كانت تطرأ على العلاقات الاقتصادية والاجتماعية لدولة المدينة ثم للإمبراطوريات القديمة في بلاد ما بين النهرين بعناية كبيرة، إذ إنها تشير إلى الأساليب التي انتهجت من أجل الحفاظ على العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة في تلك المجتمعات، أي تلك العلاقات الاقتصادية – الاجتماعية التي أنتجت تلك الأساليب والأدوات وطرق التعامل اليومي. علماً بأن من الصعب حقا الحصول على معلومات مدققة عن أساليب تنفيذ العقوبات التي استخدمت لقمع الرجال والنساء، بسبب مخالفات قانونية أو بسبب معارضتهم السياسية للحكم القائم في تلك المجتمعات. إلا أن نصوص القوانين ذاتها تساهم في الكشف عن التغيرات البطيئة التي حصلت في مضامين تلك النصوص القانونية المنظمة لحياة المجتمع من جهة، أي تلك التغيرات التي حصلت على الواقع الاقتصادي والاجتماعي القائم وانعكست على ذهنية المشرع وتجلت في التشريع الذي وضعه ليعبر عن تلك العلاقات ويسعى لحمايتها من جهة أخرى، التي ظهرت في التحولات الفعلية في مجال ممارسة الاستبداد من قبل الحاكم أو الملك واستخدام القسوة وروح الانتقام عند المشرع العراقي. فطبيعة علاقات الإنتاج التي سادت في تلك المجتمعات شكلت القاعدة المادية في تحديد طبيعة التشريعات والمواد القانونية العقابية التي تضمنتها، والتي باحت عملياً ممارسة القسوة والتعذيب والتطرف في الأحكام باعتبارها عقوبات عن مخالفات مارسها أولئك الذين تعرضوا للعقوبات.

لم تستطع التنقيبات والدراسات المتخصصة في تاريخ العراق القديم أن تعثر على قوانين منظمة للحياة العامة، بما فيها الحياة الاقتصادية والاجتماعية، خلال الألف الرابع قبل الميلاد حيث اكتشف حضارات العراق القديم، في حين أمكن العثور على قوانين منظمة لتلك الحياة في نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد، أي في عهد أسرة أور الثالثة أي بحدود 2050 قبل الميلاد.

عرف العراق القديم قبل البدء بحضارة السومريين والأكديين، حضارات تل العبيد والوركاء وجمدة نصر التي امتدت بالتتابع من النصف الأول للألفية الرابعة قبل الميلاد التي تعود إلى ما يطلق عليه بالحضارة الشالكوليتية، عصر النحاس والحجر، الذي تلي العصر الحجري القديم والعصر الحجري الحديث أو النيوليتي. في حين بدأ تاريخ السومريين والأكديين في العراق منذ بداية الألف الثالثة قبل الميلاد. تميزت هذه الفترة، كما يشير إلى ذلك السيد برهان الدين دلو، “بنمو قوى الإنتاج وتنظيم الري وتطور الزراعة وتربية الماشية إلى جانب الصيد. وظهر المنتوج الزائد (الإضافي)، ونشأت علاقات تجارية بين بلاد ما بين النهرين والدول المجاورة. وعلى الصعيد الاجتماعي تفسخت المشاعية البدائية وظهرت الفروق الاجتماعية وعدم المساواة في الثروة بين أعضاء العشيرة. وحَلت الأسرة الأبوية تدريجاً محل الأسرة الأموية. وتشكلت الطبقات، وقامت الحروب بين القبائل أو بين المدن، وحول الأسرى إلى عبيد للعمل في اقتصاد النبلاء وفي مشاريع الري. وظهرت لأول مرة في تاريخ العالم المركبات ذات العجلات التي تجرها الحمير. واخترع دولاب الفخار” (أنظر: دلو، برهان الدين. حضارة مصر والعراق، ط 1، دار الفارابي، بيروت، 1989، ص 205).

وعندما تكون الحياة بهذا المستوى من التطور فلا بد أن تكون لها قواعد وأسس منظمة للحياة ولعلاقات الملكية الجديدة، إلا أنها لم تكن مكتوبة، إذ أن هذه الفترة لم تعرف الكتابة بعد، ولكنها استقرت على شكل تقاليد وعادات أو أعراف تسري على أفراد العائلة أو القبيلة.

ورث السومريون والأكديون حضارات الألف الرابعة قبل الميلاد ومزجوها بحضاراتهم وطوروها في الألف الثالثة قبل الميلاد. ولم يمنحنا العلماء المنقبون والدارسون للتاريخ العراقي القديم حتى الآن أية معلومات عن تشريعات صادرة في الألف الثالث قبل الميلاد فيما عدا تلك التي اكتشف في منتصف القرن الأخير من الألفية الثالثة. والذي أطلق عليه “قانون أور نمو”. عاشت في العراق القديم ومنذ الألف الثالثة قبل الميلاد قبائل كثيرة كونت لها قرى ودويلات مدن عديدة في مناطق مختلفة من بلاد الرافدين، فإلى جانب السومريين وجُد الأكديون والآشوريون والغوتيون في آن واحد، ثم جاء العيلاميون وفيما بعد الآموريون والكدانيون والميديون، وفي فترة لاحقة حيث جرى احتلال العراق القديم من قبل الساسانيين الذين قضوا على الدولة الكلدانية. ونشأت في فترات معينة دولة مركزية واحدة حكمت بلاد ما بين النهرين ثم انهارت لصالح دولة مركزية أخرى أو لصالح بعض الحكام المستقلين الذين أسسوا سلالات جديدة لتزدهر لفترة من الزمن ثم تنهار ثانية، كما حصل في سلالة أور الثالثة السومرية.

تشير الدراسات المتخصصة بمجتمعات العراق القديم، ابتداءً من العهد السومري المبكر والأكدي، إلى أنها كانت تعيش عملية تحول متقدمة وقاطعة شوطاً بعيداً في تفسخ العلاقات المشاعية البدائية، أي التحول من علاقات إنتاجية قائمة على أساس ملكية وسائل الإنتاج المشتركة للأرض والحيوانات والأسرى وتقسيم عمل اجتماعي بدائي وتوزيع الإنتاج في إطار العائلة أو القبيلة أو دولة المدينة التي كانت تقوم على أساس القبيلة الواحدة أو اتحاد عدة قبائل، إلى مجتمع العلاقات القائمة على العبودية، وهو مجتمع زراعي يقوم على الملكية الفردية للأرض والحيوانات والإنتاج وتقسيم أكثر تطوراً للعمل الاجتماعي. كما عرف هذا المجتمع تقدماً كبيراً في هيمنة الرجل على العائلة وتراجع كبير في دور المرأة، إذ عجزت المرأة في الحفاظ على دورها الأساسي والمهم السابق، وأجبرت على ترك دورها المركزي ومكانتها البارزة في العائلة أو القبيلة لصالح الرجل. وبدأ منذ ذلك الحين الاضطهاد والتمييز البارزين إزاء المرأة في مجتمع بلاد ما بين النهرين. ولكن المرأة في العراق القديم، وخاصة في العهدين السومري والأكدي، وكذلك في عهد العيلاميين والآموريين، استطاعت الاحتفاظ بمكانة اجتماعية مهمة ولائقة نسبياً وعلى موقع ملموس بين كهنة المعبد، وأن تحافظ على حقوق معينة في شريعة حمورابي. وأبرز مثال على هذا التحول في المكانة الاجتماعية لصالح الرجل تجسده ملحمة گلگامش، رغم ما تعكسه ذات الملحمة من تعسف وقسر ينزله گلگامش بالمرأة. (الحيدري، إبراهيم د.، النظام الذكوري ومشكلة الجنس عند العرب، دار الساقي، لندن، 2003، ص 117-150).

إن المنازعات والحروب قد مزقت الدولة السومرية – الأكدية وجعلتها عرضة للسقوط تحت ضربات الغوتيين القادمين من جبال زاغروس في الشمال، وهم من أسلاف الشعب الكردي، حيث استطاعوا السيطرة على المنطقة وإقامة دولتهم وسيطرتهم على بلاد ما بين النهرين وإقامة مركز حكمهم في مدينة أرانجا (كركوك حالياً). احتفظ الغوتيون بمملكتهم طوال تسعين عاماً تقريباً (2150-2061 ق.م). (أنظر: دلو، برهان الدين، حضارة مصر والعراق، ط 1، دار الفارابي، بيروت، 1989، ص220-221).

كانت الحروب أو الغزوات المتبادلة بين دويلات المدن السومرية أو الأكدية تشكل جزءاً من السياسات التي مارستها كل القبائل التي عاشت في هذه المنطقة. وكان الهدف من وراء ذلك تحقيق الأهداف الأساسية التالية:

  • توسيع رقعة الأرض التي تحت تصرفها خاصة إذا كانت المنطقة التي تقوم بغزوها تحتل موقعا أفضل وفيها موارد مادية أكثر، بما فيها خصوبة الأرض أو قربها من مياه الأنهار أو إنها تقع على طريق القوافل التجارية.
  • الحصول على ثروات عينية كالحيوانات والأسلحة وغيرها باعتبارها أسلاب حرب يستولي عليها المنتصر.
  • الحصول على عدد كبير من الأسرى من النساء والرجال والأطفال الذين كانوا يتحولون إلى عبيد ويسخرون للعمل لصالح المنتصرين، أو يعملون كعبيد في خدمة الملك والقادة العسكريين والمعابد والكهنة والمحاربين، إذ أن العلاقات الإنتاجية التي سادت العراق القديم كانت تقوم على العبودية.
  • التصدي المسبق لاحتمالات التجاوز عليها من قبل القبائل ودويلات المدن الأخرى، أو مواجهة نشاط قطاع الطرق التي كانت تنطلق من مواقع أخرى ضد هذه القبيلة أو تلك.
  • عقد اتفاقيات للتعاون وعدم الاعتداء المتبادل أو التحالف لمواجهة أخطار أخرى تأتي من جار لها أو عدو يطمع فيها وفي الأرض التي تحت تصرفها والموارد التي فيها. إضافة إلى الغزو الخارجي الذي كانت تتعرض له عبر الهجرات الواسعة حينذاك من مناطق مختلفة مجاورة لبلاد ما بين النهرين.

وإذا كانت هذه الوجهة تحدد طبيعة علاقات هذه الدويلة أو تلك إزاء الخارج، فأن القوانين الوضعية المنظمة للحياة الداخلية كانت تشير بوضوح إلى طبيعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية القائمة في داخل هذه الدويلة أو القبيلة أو تلك.

منذ العهد السومري – الأكدي المتقدم تبلورت في بلاد ما بين النهرين جملة من الملامح الجديدة التي تجلت بشكل متميز في فترة الدولة العیلامية والعمورية، أي في نهاية الألف الثالثة والربع الأول من الألف الثانية قبل الميلاد وما بعدها، والتي نحاول تلخيصها في النقاط التالية:

  1. أصبح الملك أو الحاكم يجسد إرادة الإله في المملكة، كما أعتبر نصفه من الآلهة ونصفه الآخر من البشر. وسمح له ادعاء القرابة بالآلهة أن يفرض مبدأ الوراثة في حكم البلاد. وأصبح الملك يتسلم تشريعاته من الآلهة، كما تعكسها المسلة الشهيرة، حيث يتسلم حمورابي تشريعاته من إله الشمس. وبالتالي أصبحت هذه التشريعات ملزمة للتنفيذ دون قيد أو شرط وليست مطروحة للمناقشة أو الطعن بها من أفراد المجتمع، فهي تشريعات إلهية مقدسة.
  2. أصبح الملك يركز في يديه “السلطة المطلقة في الأمور التشريعية والتنفيذية والإدارية والقضائية”، وبالتالي أصبح الملك حاكماً مستبداً بشكل مطلق. (أنظر: جماعة من العلماء السوفييت، العراق القديم: دراسة تحليلية لأحواله الاقتصادية والاجتماعية، ترجمة سليم طه التكريتي، ط 2، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1986، ص 306).
  3. وكان كهنة المعبد هم حلفاء الملك في ممارسة سلطته. إلا أنهم كانوا يطمحون ويسعون في الوقت نفسه إلى اقتسام السلطة معه، لما ينجم عن ذلك من اقتسام للأرض والعبيد والثروة، إضافة إلى الجاه والنفوذ الاجتماعي. وكان الصراع بين الملك والكهنة يصل أحياناً إلى حالة التأزم. وكان الأمر الحاسم يكمن في مدى قوة الملك أو الكهنة في هذا الصراع، وأحياناً غير قليلة كانت المساومة بينهما تساهم في تهدئة ذلك الصراع. ومنذ العهد السومري المتقدم، بدأت القوى الدينية (كهنة المعبد) القبول بالسلطة المطلقة للحاكم “وإضفاء شرعية فكرية على السلطة الملكية الاستبدادية على كل بلاد سومر. وفي هذا العصر ولدت ايضاً نظرية القرابة الإلهية الأساسية التي تنتقل ذاتياً من حاكم إلى حاكم مولود…”. (أنظر: المصدر السابق نفسه، ص 299). وكانت نتيجة هذا التحالف المزيد من الظلم والاستغلال والقهر للسكان، لاسيما الأسرى الذين تحولوا إلى عبيد لدى الحكام والكهنة أو لدى الميسورين.
  4. وإزاء تنامي دور الملك المستبد المطلق، تقلص “دور أجهزة الحكومة الذاتية المحلية (بما في ذلك محاكم العدالة في المجتمع) …إلى أدنى حد”… “وأحاط الملوك أنفسهم بطبقة من النبلاء العسكريين والإداريين وخلقوا جيشاً ثابتاً وكبيراً”. (المصدر السابق نفسه، ص 298). وأدت هذه الحالة إلى تنامي الفجوة بين المجتمع والملك والكهنة، مما ساهم بدفع عامة الشعب إلى الوقوف إلى جانب المتمردين من الأمراء ضد ملوكهم. وكانت حصيلة ذلك في فترة سرجون الأكدي ذبح الآلاف من السومريين. (المصدر السابق نفسه، ص 294). وهنا يتبين أيضاً بأن انتقال السلطة من السومريين إلى الأكديين لم تتم بالطرق السلمية والهادئة بل عبر الصراعات والنزاعات والكثير من التحركات المضادة.
  5. وخلال هذه الفترة تمت سيطرة الملك وكهنة المعبد والقادة العسكريين والفئات القريبة من الحكم على النسبة العظمى من الأراضي الزراعية، إضافة إلى امتلاك عدد متزايد من العبيد والثروة. ففي عهد الآموريين وخلال حكم حمورابي للدولة البابلية، 1793-1750 ق.م، كانت الأراضي التي يطلق عليها اسم “أراضي التاج” تشكل القسم الأعظم من الأراضي الزراعية والمخصصة للرعي وموزعة على النحو التالي:

“أ. الأراضي الملكية الأصلية التي تتكون من المراعي وأراضي صناديق الاحتياط.

ب. الأراضي المخصصة للمواطنين الملكيين وأصحاب الحرف والمحاربين والكهنة.

ج. الأراضي المخصصة إلى جماعات أصحاب الحصص في الحاصلات.”. (أنظر: المصدر السابق نفسه، ص 302-303).

إضافة إلى ذلك وجدت مساحات من الأراضي الأخرى غير خاضعة لهذا التقسيم، ولكنها تعتبر ضمن مزارع ومراعي التاج، ولكنها تعود إلى أفراد المجتمع وتعرف باسم الأراضي الداخلية التي تعود للفلاحين الفرديين الأحرار وللفلاحين المتوسطين ممن يمتلك بعض العبيد. وتميزت المجتمعات العراقية في هذه الفترة بوجود الطبقة الحاكمة التي كانت تتمثل بالملك والكهنة والقادة العسكريين وكبار الموظفين الملكيين من جهة، وبالعبيد من جهة أخرى، إضافة إلى وجود فئات الأحرار من الكسبة والحرفيين والمزارعين الفرديين. وفي إطار الطبقة الأولى كان هناك تقسيماً ملموساً بين فئاته المختلفة، إذ كانت فئة الكهنة تشكل مجموعة مهمة من كبار مالكي الأراضي باسم المعبد أو حتى بأسمائهم الشخصية، ويقومون في الوقت نفسه بتقديم القروض بفوائد عالية جداً ساهمت في تقليص ثروة المجتمع وقدرته على النمو والتطور، إذ أن كانت هذه الفئة من ملاكي الأراضي الكهنة يتوجهون صوب تكنيز تلك الثروة بدلاً من توظيفها، كما كانت فئة الملاكين من غير الكهنة والمحاربين تمارس النهج التكنيزي للمال ذاته.

وكان على السلطة في مثل هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي، سواء في العهود الأكدية أو العيلامية أو الآمورية، أو فيما بعد، أن تحدد العلاقات في ما بين فئات المجتمع إزاء ملكية الأرض والعبيد والدولة وإزاء تنظم التعامل في ما بين هذه الفئات. ولهذا صدرت تلك القوانين التي اكتشافها حتى الآن. ويمكن هنا تأكيد حقيقة أن الفترات التي لا نمتلك عنها تشريعات لا تعني أنها لم تكن قد وضعت ما يماثل تلك القوانين، ولكنها لم تكن مسجلة بسبب عدم معرفة الكتابة حينذاك. وما وصلنا منها يشير إلى أنها كانت موجودة وأنها كانت ترتبط بعملية تطور متواصلة، سواء عبر المجتمع ذاته أم عبر وقوعه تحت الاحتلال ومجيء حكام يترأسون أقواماً أخرى ولها قوانينها وشرائعها وأساليب حياتها وأنماط تفكيرها وتحديد أسس العلاقات القائمة فيما بينها ومع المجتمعات الأخرى.

***************************************************************************

الاستبداد والقسوة والاستغلال وجور القوانين في العراق القديم

الحلقة الثانية2-6

تجليات الاستبداد والقسوة في شرائع العراق القديم

عرف العراق القديم الكثير من القوانين والتشريعات وكان متقدما في عملية التشريع ذاتها وفي صياغة الأفكار المعبرة عن الحالة التي يراد وصفها وعن الموقف من المِلكية، وبالتالي الموقف من محاولات المساس بها. وهذا يعني بدوره أن العلاقات الاقتصادية في مجتمع العبيد حينذاك كانت متقدمة نسبياً في الموقف من الملكية الخاصة للأرض وبقية وسائل الإنتاج والإنتاج في آن واحد، إذ أن تقسيم العمل الاجتماعي المتقدم نسبياً قد أثر بدوره على بروز فائض إنتاج وعلى عملية توزيع هذا الفائض وسبل استخدامه. وما وصل إلينا أو ما أكتشف منها أو ما أمكن ترجمته حتى الآن لا يشكل إلا جزءاً مما وضع حينذاك في مجال التشريع ومستوى الوعي الاجتماعي والسياسي في تلك المجتمعات. 

فالمعلومات المتوفرة تشير إلى اكتشاف التشريع الأول المسمى “أورنمو”، مؤسس سلالة أور الثالثة في القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد، أي بحدود 2050 ق.م، وهو أقدم قانون مكتشف في تاريخ البشرية حتى الآن. وإلى جانب هذا القانون تم اكتشاف مجموعة من القوانين التي تTyranny and cruelty in Iraqعود إلى فترات لاحقة من تاريخ العراق القديم، وهي: قانون لبت عشتار، وقانون أيشنونة، وقانون حمورابي، ثم اللوائح القانونية للأشوريين والكلدانيين، عدا قانون أوروكاجينا الذي وضع قبل قانون أورنمو. وعند قراءة هذه القوانين سيجد الإنسان إنها قد تدرجت في سعتها وشموليتها لقضايا الاقتصاد والمجتمع والعلاقات العائلية وعلاقات الملكية وتوزيع الثروة والنزاعات والموقف من الدولة وبقية المشكلات التي عالجتها، وفي بنيتها الداخلية وصياغتها، وكذلك في اسلوبها التربوي والتحذيري وفي العقوبات التي فرضتها على المخالفين لبنودها. وابتداءً يجد الإنسان بأن هذه القوانين كانت تتسم بالخصائص التالية:

  • أنها قوانين صادرة عن الآلهة وموضوعة منها ويفترض في الملك الذي يتسلمها من يدي الإله أن يلتزم بممارستها وتطبيق العدالة والحق والأمن في البلاد من خلالها. أي إنها قوانين تمزج بين سلطة الإله أو الدين وسلطة الحاكم أو الملك وتفرض على الناس احترام تلك القوانين والالتزام بمضامينها والابتعاد عن مخالفتها، مستثمرين في ذلك إيمان أفراد المجتمع من النساء والرجال بالآلهة والدين والكهنة. وكان المشرع يريد أن يكرس الفكرة القائلة بأن هذه القوانين مُنزلة وذات طبيعة قطعية غير مساومة لأنها إلهية. وهي بطبيعة الحال قوانين وضعية، إذ أنها موضوعة من الفرد الحاكم أو من الفئة الحاكمة، وعلى رأسهم الملك وكبار كهنة المعابد والمعبرة عن مصالحهم ومصالح الفئة الارستقراطية المالكة لوسائل الإنتاج.
  • وأن هذه القوانين تهدف إلى تكريس سيطرة الملك المطلقة على الدولة والمجتمع والمعبد، رغم تقاسم بعض أوجه السلطة مع الكهنة، وأن تعبر في الوقت نفسه عن إرادة الآلهة والملك وعن وحدة السلطات في يديه، فهو المشرع أو المتسلم للتشريعات من الآلهة، وهو المنفذ لها وهو الإداري المشرف عليها، وهو القاضي الذي تصدر باسمه القرارات بحق المخالفين لتلك التشريعات. وهي تعبر عن مستوى تطور علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع، أي عن مستوى تطور الملكية الفردية.
  • وأنها تنطلق من الأرضية الاقتصادية-الاجتماعية القائمة، من واقع التمايز القائم بين الفئات الاجتماعية من حيث الموقع الاجتماعي، والذي يستند بدوره إلى ملكية وسائل الإنتاج. فالعقوبة التي ينزلها القانون متباينة بالنسبة إلى مرتكبي المخالفات أو الذين ارتكبوا مخالفة متماثلة بالارتباط مع موقعهم الاجتماعي، سادة، أحرار وفقراء وعبيد. ولكنه كان صارماً في التنفيذ بالنسبة للجميع.
  • وهذا الواقع يعبر عن مستوى الوعي العام الذي بلغه المجتمع من جهة، والوعي الطبقي الذي بلغه المشرع العراقي من جهة أخرى، وقد تجليا في مواد تلك القوانين المعبرة عن طبيعة العلاقات الإنتاجية الاستغلالية التي كانت سائدة في المجتمع وتطرح بوضوح أربع أنواع من العلاقات، وهي:  
  • العلاقة المهيمنة على المجتمع والمعبرة عن علاقة الإله بالملك والمتحكمة بسن القوانين.
  • العلاقة القائمة بين الملك والكهنة والتي تعبر عن تحالف وصراع مستمرين، ولكنهما يجسدان سيطرتهما المشتركة على المجتمع.

ج. العلاقة بين الملك والكهنة من جهة والمجتمع بأسره من جهة أخرى مع التمايز في العلاقة بين الأحرار والعبيد.

  • العلاقة بين افراد المجتمع الأحرار، وفيما بين الأحرار والعبيد، وفيما بين العبيد.

وكانت هذه القوانين تبحث بالأساس في مسائل تنظيم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وتنظيم العائلة.

وعند دراسة تلك القوانين سيجد الإنسان وجود تباين فيما بين تلك القوانين، وبشكل خاص بين القوانين السومرية من جهة، والقوانين الأكدية من جهة أخرى، وبشكل خاص بشأن تلك المواد التي تفرض عقوبة الموت على مرتكبي المخالفات بدلاً من عقوبة التعويض.

 

قانون أوروكاجينا أو الإصلاحات الاجتماعية

تشير المعلومات المتوفرة التي عثر عليها في أنقاض لگش إلى أن السومريين عرفوا قبل قانون أورنمو تشريعاً آخر هو قانون الملك أوروكاجينا الذي حكم في المنطقة بحدود 2351 ق. م. بعد أن اشتد الصراع بين السلطة الحاكمة وكهنة المعابد، وكذلك فيما بين كهنة المعابد، ثم بين بين الفقراء والأغنياء في المجتمع السومري القديم. لقد مزقت الخلافات المجتمع وأصبحت الظروف ناضجة في حينها لتغييرات فعلية، فكانت الانتفاضة المناهضة للملك الظالم لوغال آندا. ويشار إلى أن الأوضاع الاجتماعية والفقر الجماعي الذي شمل لگش كان شبيهاً بما حصل في فترة حكم الملك أياناتوم. وبالتالي ارتفعت الشكوى ضد الوضع حينذاك، إذ أن الشعب فقد حقاً كافة حقوقه في هذه الفترة، مما لم يعد ممكناً تجاوز الوضع القائم. وتشير إلى ذلك بوضوح المقاطع التي سجلها الملك أوروكاجينا، الذي ارتقى سدة الحكم عبر الفقراء وجزء من كهنة المعابد، على نقش نقرأ فيه ما يلي: 

تعدى حاكم لگش على حقوق المشاعيات لمصلحة “الأقوياء” وحرق “المراسيم القديمة” وفرض ضرائب غير شرعية لحسابه وحساب الكهنة، وعين المفتشين والموظفين لمباشرة مضاعفتها أحياناً، وشرع الكهنة الذين لم يكتفوا بالضرائب المفروضة يسلبون السكان. فانتزعوا من السكان مواشيهم ودواجنهم، والأشياء النحاسية، والملابس، وأجود أشجار البساتين وثمارها، وطلبوا رسوماً باهظة لدفن الموتى. واحتكر لوغال آندا وكبار موظفيه أصواف أجود أنواع الأغنام، وفرضت ضريبة محددة (5 شيقلات من الفضة) على كل رأس من الأنواع الأخرى، كما استحدثت رسوم وضرائب أخرى. وهكذا ازداد الأغنياء (الأقوياء)غنى وتضاعف بؤس الفقراء حين كان القوي ينهب ثمار جهد الضعيف وتغتال حقوقه” (أنظر: دلّو، برهان الدين. حضارة..، مصدر سابق، ص 214).  

أصدر الملك أوروكاجينا إصلاحاته باسم الإله ننرجسو موضحا الأسباب التي دعته إلى تلك الإصلاحات من جهة والإصلاحات التي أدخلها لصالح الفقراء ضد الأقوياء وضد الكهنة الذين ساهموا مع الأقوياء في استغلال الضعفاء والفقراء فكتب يقول:

“أبقار الآلهة استخدمت لسقي الأراضي الزراعية المقطوعة لإنسي، الأراضي الخصبة تشكل إقطاعيته، وهي موضع سرور أبسي. الحمير والأبقار الجميلة كانت تصادر من قبل الكهنة، الحبوب توزعها الكهنة على أناس أينسي. أي كاهن في أي ناحية كان يقلع أشجار حديقة أم فقيرة لنفسه، كما كان يقطف ثمارها لصالحه. وإذا ما دفن ميت كان الكاهن يأخذ سبع قراعات بيرة كمشروب له، و420 رغيف خبز و120 سلة قمح لطعامه، إضافة إلى رداء وكبش صغير وفراش لنومه”. (Helmut Uhlig, Die Sumerer, Volk am Anfang der Geschichte; C. Berrelsmann Verlag, München, 1976, S. 231).                             

ونتيجة هذا الظلم قرر الملك الجديد ما يلي:

“بعد أن منح ننجرسو مملكة لگش إلى محارب أنليل، أوروكاجينا أعاد العمل باللوائح القديمة. ألغى التعريفة التي كانت تدفع للمراقبين عن الخروف الأبيض وعن الحمل. وأبعد المراقبين الذين كانوا يجلبون المدفوعات النقدية عبر الكهنة إلى القصر. لم يعد هناك مراقبين عند حدود منطقة ننجرسو. عندما كان يدفن ميتاً كان يتقاضى الكاهن 3 قراعات بيرة كمشروبات له، و80 رغيف خبزٍ لطعامه، وكان يأخذ لنفسه فراشاً وكبشاً صغيراً. لم يعد هناك كاهناً يمكنه أن يضايق أم فقيرة ويلج حديقتها في أي ناحية كانت. إذا ولد لأحد رعايا الملك حماراً جيداً وقال له رئيسه: “أريد أن أشتري منك هذا الحمار”، وإذا كان موافقاً على عملية الشراء، فيبتغي أن يقوله له: كلفني الحمار كذا مبلغ، فادفعه لي. هكذا أمر الملك، وبالتالي حرر الناس في لگش من الجفاف والسرقة والقتل. هو الذي طبق الحرية. لم يرتكب أي عمل غير عادل بحق اليتيم والأرملة بعد ذلك. ننجرسو عقد هذا الاتفاق مع أوروكاجينا”. (أنظر: المصدر الألماني السابق نفسه، ص 231).  [ملاحظة: الملك لوغال آندا، الذي أطلق على نفسه أينسي وهو ابن الكاهن الذي تربع على العرش مؤقتاً ونصب ابنه ملكاً على عرش لگش. ك. حبيب]. 

ونتيجة لهذه الإصلاحات سُمي بملك الشعب، كما يشير إلى ذلك الكاتب الألماني هيلموت أوليغ. أما المؤرخ والآثاري المعروف البروفسور بورشارد برينتيس فيذكر بان هذا الملك لم يستطع أن يتخلص من تأثير النخبة الحاكمة والكهنة رغم الإصلاحات التي أجراها، أي أنه لم يقم بثورة اجتماعية تغير الوضع القائم كله، بل أجرى إصلاحات اجتماعية تنقذ النظام القائم من المخاطر التي كانت تحيط به بسبب شدة الاستغلال والظلم والجور التي سلطت على رقاب الناس من جانب الملوك والكهنة. وبمعنى آخر أن الملك أوروكاجينا سعى إلى إنقاذ الطبقة الحاكمة من غضب الطبقات الكادحة والمستغلة. ( Brentjes، Burchard Prof. Dr.Die orientalische Welt. VEB Deutscher Verlag der Wissenschaften. Berlin, 1972. S. 69).

ويشار إلى هذه الفترة بأن الناس بدأوا يتصورون أن المجتمعات السابقة كانت لا تعاني من الظلم والجور مثل ما هم عليه الآن، إذ كتب أحدهم يقول:

منذ زمن بعيد لم تكن هناك حيّات، ولا عقرب، لم يكن هناك ضبع، ولا خوف ولا فزع. لم يكن للإنسان عدو.”. (.  Ebenda. S. 69.  الكتاب باللغة الألمانية، المصدر السابق نفسه) ويشار إلى هذه الفترة بأن الناس بدأوا يتصورون أن المجتمعات السابقة كانت لا تعاني من الظلم والجور مثل ما هم عليه الآن، إذ كتب أحدهم يقول:

       “منذ زمن بعيد لم تكن هناك حيّات، ولا عقرب، لم يكن هناك ضبع، ولا خوف ولا فزع. لم يكن

       للإنسان عدو.”. ثم يواصل الباحث الدكتور عبد الوهاب حميد رشيد في كتابه عن حضارة وادي  

      الرافدين إلى أن هذا المصلح الاجتماعي اتخذ قرارين بشأن المرأة، وهما: منعها من تعدد الأزواج  

      أولاً ورجمها بالحجارة ثانياً، (رشيد، عبد الوهاب حميد د. مقومات التحول الديمقراطي والمجتمع المدني، دار المدى. دمشق 2004).  وهي العقوبة التي أخذ بها الإسلام بالنسبة للزانية من النساء، وهي من أقسى العقوبات على الإنسان وأكثرها إهانة لكرامته وأدميته. (أنظر: مهدي، فالح د.، البحث عن جذور الدولة في الإسلام، في: مجلة النهج، العدد 24/2000، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، دمشق، 2000، ص 13). ولم يكن الملك أوروكاجينا مصلحاً اجتماعياً في الموقف من المرأة، بل كان ظالماً وقاسياً جداً.  

*********************************************************                  

كاظم حبيب

الاستبداد والقسوة والاستغلال وجور القوانين في العراق القديم

الحلقة الثالثة: قانون أورنمو 36

صدر هذا القانون في فترة حكم الملك السومري أورنمو، مؤسس سلالة أور الثالثة (2111-2003 ق.م). (أنظر: رشيد، فوزي د.، الشرائع العراقية القديمة، وزارة الإعلام، سلسلة الكتب الحديثة 75، مطبعة الحرية، بغداد، 1973، ص 13). تسلم أورنمو الحكم واسس حكم السلالة الجديدة بعد وفاة ملك الوركاء أوتوخيغال، مؤسس سلالة الوركاء الخامسة. استند الملك أورنمو إلى مبدأ حق الملك المطلق في امتلاك أراضي المعابد والدولة في العراق وإلى مبدأ تقليص “الأنسى” الحكام إلى درجة الإداريين الملكيين وتعيينهم وفصلهم وفق رغبة الملك”. (أنظر: مجموعة من العلماء السوفييت، العراق القديم، مصدر سابق، ص 296-297). وقد مارس سياسة استخدام عدد كبير من العبيد وأسرى الحروب والأحرار، أي في الأراضي التي قام بمصادرتها من المعابد ومن أراضي الارستقراطية الحاكمة ووضعها ضمن ملكيته، وسلط على العاملين في مزارعه استغلالاً شديداً، كما يشير إلى ذلك الباحثان السوفييتيان ستروف وتيومينيف. (المصدر السابق نفسه).  

عند قراءة القانون العراقي الثاني الذي وصل إلينا حتى الآن، قانون أورنمو، سيجد القارئ أن بنوده تعالج ثلاث قضايا أساسية، هي:

  1. موقف المشرع من العلاقات الاقتصادية والملكية في المجتمع، وبالتالي، إرادة المشرع في تنظيم تلك العلاقات لصالح مالكي وسائل الإنتاج، ومنها الأرض، ومعاقبة كل متجاوز عليها. وكان الملك هو المالك الأكبر والأوسع للأرض.
  2. الموقف من العائلة وتنظيم شؤونها والعلاقات التي تنظم شؤون أفرادها.
  3. الموقف من المعابد والكهنة وملكية الملك والمعابد والكهنة، حيث سيطر عليها ووضعها تحت تصرف الملك.

في مختلف المواد التي أمكن قراءتها حتى الآن فيما عثر عليه من نسخ عديدة لهذا القانون، حيث ماتزال توجد فيها بعض الثغرات بسبب وجود فقرات تالفة، يجد الإنسان أن هناك مادة واحدة فقط تحكم باحتمال الموت، وليست حالة قطعية، وهي الرمي بالنهر للتيقن من صدق أو كذب أقوال المتهم، بسبب عجز المشرع عن وضع أسلوب آخر لاكتشاف الحقيقة أو الوصول إليها. كما توجد حالة واحدة يمارس فيها التعذيب الواضح من جانب المرأة السيدة التي تدَّعي أمَتها مساواتها بها، حيث يحق للسيدة دعك فاه الأمة بلتر أو كيلو غرام واحد من الملح. وهذه المادة العقابية تتضمن عملياً الحق في ممارسة التعذيب بسبب تجاوز الأمة لسيدتها المالكة لها. وهناك مادة أخرى يمكن أن تكون مماثلة، إذ إنها تالفة. أما المواد الأخرى فتعاقب بالغرامة المالية لا غير. إن مواد هذا القانون العقابية تشير إلى عدة حقائق مهمة، وهي:

  • أن الملكية الفردية لم تكن واسعة في هذا العهد ولم تكن إشكاليات المجتمع قد استوجبت بروز مواد أكثر قسوة وتنظيماً على وفق مصالح مالكي وسائل الإنتاج. فالتعذيب الذي نعرفه اليوم لم يكن موجودا في أقدم حضارة معروفة لنا حتى الآن. خاصة وأن الملك كان هو المالك للنسبة العظمى من أرض العراق.
  • وأن عقوبة الإعدام لم تكن منتشرة، بل اقتصرت على حالة واحدة لم تتوضح تماماً من النص، اعتبر فيها النهر حكما بين المدعي والمدعى عليه.
  • وأن عقوبة الرمي بالنهر للتيقن من مدى صدق المدعى عليه تعبر عن سذاجة كبيرة في مستوى تفكير الإنسان حينذاك، إذ يترك للنهر أو الصدفة في الموت أو الخلاص من الموت، فإذا كان الشخص ماهرا في السباحة أو لا يجيدها أصلا، خاصة وأن سكان العراق حينذاك كانوا يعيشون على ضفاف الأنهر خاصة وأن أغلب الطقوس الدينية حينذاك كانت ترتبط بالماء وتستوجب النزول إلى ماء النهر.
  • إن التعذيب بالمفهوم السائد حالياً لم يكن معروفاً عند أسلافنا القدامى في العراق، إذ أن جل ما عرف فيه هو استخدام الملح لمعاقبة الفم الذي صدر عنه التجاوز عن الحدود الموضوعة والمسموح بها للأمة. وهي، مع ذلك، عقوبة قاسية بطبيعة الحال، وكانت كما يبدو كافية لذلك العهد. ولكن لا نمتلك ما يساعدنا على تأكيد استخدام القسوة كالإهانة والضرب أو التعذيب بأشكال أخرى في الممارسة العملية وليس عبر التشريع. ومما يمكن أن يؤكد احتمال وجود مثل هذه الممارسة الطريقة التي بدأ الحاكم أورنمو بها حكمه من حيث هيمنته على الأرض وتشديد الاستغلال على العاملين بهدف الحصول على اقصى ما يمكن من ثروة.
  • لم يعرف هذا المجتمع القصاص مثل العين بالعين والسن بالسن، إذ أن عقوبة ارتكاب مخالفات واعتداءات، مثل التسبب بقطع أنف أو قطع رِجل أو كسر سن رَجلٍ آخر، كانت لا تقابل بالمثل، بل كان على الفاعل دفع غرامة مالية متباينة في مقدارها. وكان المشرع عقلانياً في ممارسة مثل هذه العقوبة.

وأن أول تشريع عراقي معروف حتى الآن في تاريخ البشرية يشير إلى ممارسة المشرع لرؤية تجريدية مهمة جداً، إذ أن المشرع لا يفرض عقوبة على حالة بعينها، بل يضع صيغة نمطية لعقوبات محتملة ومتماثلة، بغض النظر عن مكان أو زمان وقوعها. وتجد هذه الحقيقة تعبيرها في استخدم المشرع كلمة “إذا” الشرطية في بداية كل مادة من هذا القانون والقوانين اللاحقة أيضاً. (مهدي، فالح د. البحث عن جذور الدولة في الإسلام، مصدر سابق، ص 13). وهذه الرؤية التجريدية مرتبطة ايضاً بمستوى تطور معارف ووعي الإنسان وقدراته التجريدية في الرياضيات في هذا العهد من تطور العراق القديم.     

ولا شك في أن هذا العهد عرف الصراعات والنزاعات بين الأفراد والجماعات وفي إطار الطبقة السائدة والحاكمة، ولكنها كانت فردية ومحدودة وغير خطرة. ويمكن القول بأن العهود التي سبقت هذه الفترة ربما كانت خالية من تلك العقوبات ايضاً، أي عقوبة إلقاء المتهم بالنهر وعقوبة فرك فم الأمة بالملح، وهما عقوبتان فجتان وقاسيتان، وبقدر ما تعبر الأولى عن سذاجة في فهم العدالة، تعبر الثانية عن روح انتقام. ويشير المشرع إلى أن هذه القوانين شرعت من قبل أورنمو وفقاً لإرادة إله مدينة أور “ننار”، وهو إله القمر، مع تمجيده للألهين أنو وانليل في مقدمة الشريعة. (رشيد، فوزي د.، الشرائع العراقية القديمة. مصدر سابق، ص 47).

  **********************************************************************  كاظم حبيب

الحلقة الرابعة: قانون لبت عشتار 4-6

صدر قانون لبت عشتار باللغة السومرية في الفترة الواقعة بين 1934-1923 ق.م، أي في فترة حكم الملك لبت عشتار، وهو خامس ملوك سلالة إيسن العيلامية السامية. حكمت هذه السلالة خلال الفترة الواقعة بين 2017 – 1794 ق.م في المنطقة التي كانت تدعى “تل إيشان البحيرات”، والتي تدعى اليوم عفك في العراق، وباللغة العامية عفج.

لم يختلف المشرع هذا القانون عن القانون السابق في القضايا التي تطرق إليها، ولكنه توسع في قنونة القضايا المطروحة وبحث في مسألة العبيد والعلاقات بين الأفراد في المعاملات المختلفة وقضايا العائلة والحياة الاقتصادية. تميز عنه بقضية أساسية، استنادا إلى ما وصل إلينا من مواد هذا القانون، هي خلوه من أي عقوبات جسدية ونفسية ضد الإنسان. فكل العقوبات التي ينزلها المشرع في المخالفين لبنود القانون، سواء أكانت مخالفاتهم اقتصادية ومالية وتجارية، أم نزاعات شخصية واعتداءات من طرف على آخر، كانت غرامات مالية يتحملها الفرد، كما إنها لم تكن غرامات مالية قاسية عموما. ويمكن الادعاء، وفق ما لدينا من معلومات، بأن هذا القانون قد تميز بنهج إنساني تربوي بعيد عن التهديد والوعيد أو التعذيب أو الانتقام وفرض القصاص المماثل للمخالفة أو الجريمة، إن صح التعبير، أي لم يأخذ بقاعدة “العين بالعين والسن بالسن”. حتى إن المشرع حاول أن يعتمد التقاليد والمقولات الشعبية لتأصيل وتكريس السلوكية التي يراها مناسبة والتي اعتاد عليها الناس حين ذكر في إحدى مواده النص التالي: “31- … الذي أعطاه إياه بعد موت أبيهم فأن الورثة يقسّمون ضيعة أبيهم، ولكن ميراث الضيعة لا يقّسم… إنهم “لا يطبخون كلمة ابيهم في الماء”. (أنظر: دلو، برهان الدين، حضارة مصر والعراق، مصدر سابق، ص 418).  وتريد هذه المادة أن تقول بأن الورثة يحترمون وصية أبيهم وينفذونها. وهذه المادة مماثلة لما ورد في قانون أشنونا. وتستوجب هنا الإشارة إلى مسألتين، وهما:

  • تميز المشرع، الذي صاغ هذه المواد باسم الملك وأشرف على صياغتها ووافق عليها وتبناها وأعلنها باسم الآلهة، بالتواضع ومحاولته الاقتراب من الآلهة، واعتبر اختيار الآلهة له بمثابة تكليف بمهمة نشر العدل والحق في البلاد، حيث يشير إلى علاقته بالآهين هما (آنو) و(إنليل)، وأن اختيارهما له جاء ليكون حاكما راعياً وعادلاً للبلاد ولقب نفسه بالملك الراعي والمتواضع لمدينة نفر، والمزارع الضليع لمدينة أور، الذي لم يتخل عن مدينة أريدو، والحاكم المناسب لمدينة الوركاء، ملك إيسن وملك سومر وأكاد”. (ذنون، عبد الحكيم، تاريخ القانون في العراق، دار علاء الدين، دمشق، 1993، ص 79).
  • كما تميزت بلاده في فترة حكمه بالهدوء والنظام، واستند إلى مبدأ التسامح ومعالجة المشكلات القائمة بعيدا عن العنف. وتميزت العلاقات العائلية بالاحترام، سواء أكانت قائمة على الشرعية الزوجية، أي عقد الزواج، أم بدونها. ويبدو لمتتبع هذه القوانين أن الملك لبت عشتار في قانونه هذا كان متقدما على من سبقه ومن تلاه من ملوك مشرعين للقوانين، كما أن المجتمع حينذاك أقر صيغة الزواج أو المعاشرة بين الرجل والمرأة دون عقد زواج. والظاهرة الأخيرة تنتشر اليوم في أوروبا على نطاق واسع، باعتبارها صيغة حديثة للعلاقة العائلية.

ويشير الدكتور فوزي رشيد إلى ان “قانون لبت عشتار كان بالتأكيد مدوناً على مسلة كبيرة وكانت مقامة في مكان يؤمه الناس كثيراً. وهذه الحقيقة يمكن استنتاجها مما ورد في مقدمة القانون وخاتمته”. (أنظر: رشيد، فوزي د.، الشرائع العراقية القديمة، وزارة الإعلام، بغداد، 1973، ص 38).

لم يختلف الملك لبت عشتار عن باقي الملوك الذين دونوا القوانين حينذاك بتأكيده على أن هذا القانون وضع وفق إرادة الإله ويشير إلى مهمته التي أوكلها له الِإله وما فعله في البلاد، حيث جاء في الخاتمة ما يلي: “استناداً إلى كلمة الإله “أوتو” الصادقة تسببت في أن تتمسك بلاد سومر وأكد بالدالة الحقة، واستناداً إلى أمر الإله إنليل “أنا لبت عشتار” ابن الإله إنليل قد قضيت على البغضاء والعنف …. وعملت على إبراز العدالة والصدق وجلبت الخير للسومريين والأكديين …. ونشرت الرفاه في بلاد سومر وأكد وأقمت … المسلة”ا. (لمصدر السابق نفسه، ص 46). وضعت شريعة الملك لبت عشتار وفق إرادة إله مدينة “أيسن” الإله “نن انسنا”، ولكنها مجدت في مقدمتها الإلهين أنو وإنليل أيضاً. (أنظر: المصدر السابق نفسه، ص 47). 

  قانون أشنونا

صدر قانون أشنونا في أعقاب تشريع القانون الأول بحوالي قرن واحد، أي في حدود 1950 ق.م وقبل صدور شريعة حمورابي بقرنين تقريباً. وضع هذا القانون من قبل الملك بيلا-لاما، رابع ملوك أشنونا بهدف تنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مملكته. وجاءت بتأثير ملموس من قانون أورنمو السومري وقانون لبت عشتار. وتضمن هذا القانون عقوبة جديدة لم يأخذ بها المشرع في مجتمعات الفترة السابقة ولم تنعكس في تشريعاتها، ونعني بها عقوبة القصاص، أي العين بالعين والسن بالسن. وفيما عدا ذلك ركز المشرع عقوباته على الغرامات المالية بالنسبة للمخالفات الاقتصادية والمالية والنزاعات والاعتداءات الشخصية. واتسم هذا القانون بالوضوح والبساطة واستخدام عبارات شعبية ما تزال تمارس شعبياً في المجتمع العراقي كقوله “لا يطبخون كلمة أبيهم في الماء”، أي أنهم سيلتزمون بوصية أبيهم، دون أن يهددهم المشرع بعقوبة معينة لممارسة تقليد تنفيذ الوصية. وعلى العموم تضمن قانون أشنونا ثلاثة تغييرات ملموسة بالمقارنة مع قانون أورنمو الأول أو الأقدم، وبالتالي وجدت الفئة الحاكمة نفسها أمام حاجة لتشديد القانون الذي تعمل به لضمان مصالحها، وهي:

تنامي ملموس في الملكية الخاصة واتساع دورها ومكانتها في المجتمع وتقسيم عمل اجتماعي، مما أوجد أوضاعاً ماليةً أفضل للسكان عموما مع وجود تمايز في الحالة الاقتصادية والاجتماعية للسكان؛

  • بروز عقوبات بالموت لحالات أكثر من السابق، وشملت لأول مرة عقوبة الموت لمن يقتل شخصا آخر.” فالمادة (25) التي فرضت حكم القصاص بالموت على الشخص الذي يضع يده على زوجة رجل من الموالي أو على ابنه (بصفتهم رهينة)، وقام باحتجاز هذه الرهينة وحبسها في بيته، ومن ثم تسبب في موتها، اعتبر المشَّرع أن هذه القضية هي قضية (قتل) ويجب الاقتصاص من الفاعل بنفس الجرم الذي كان قد بدأ به”. (أنظر: ذنون، عبد الحكيم، تاريخ القانون في العراق، مصدر سابق ص 78).
  • بروز حالات تشير إلى ممارسة العنف فيما بين أفراد المجتمع مثل عض الأنف أو الأذن التي لم ترد فيما سبق. ومع ذلك لم يمارس المشرع هنا عقوبة القصاص إلا في حالة واحدة، ولكنها كانت البداية لمواد أخرى في القوانين اللاحقة التي صدرت في العراق القديم، أي قاعدة العين بالعين والسن بالسن، كما مورست فيما بعد، بل أعتمد الغرامات المالية، والتي لم تكن مرتفعة بسبب الأوضاع المعاشية فيها، ولم تكن تختلف كثيرا بهذا الصدد عن قانون أورنمو.
  • ويعبر هذا القانون الجديد، بما وردت فيه من تشريعات وتنويع في العقوبات وتشديدها، عن حالة من التلاقح والتفاعل بين الحضارة السومرية وبين الحضارة الأكدية التي بدأت تتسرب إلى العراق وتهيمن على الحياة وتتجلى في التشريعات ايضاً. وهي كما يبدو لنا أنها مرحلة انتقالية تجلت في القانون اللاحق أيضاً، ثم اتخذت في قانون حمورابي صيغتها الأساسية ذات الطبيعة الردعية القاسية جداً. والتي تعبر بدورها عن التحولات التي حصلت في المجتمع العراقي القديم بين الحضارة السومرية والحضارة الأكدية، رغم أن الأخيرة لم تتخل عن كل التقاليد السومرية بل امتصتها وتمثلتها في تشريعاتها إلى حدود غير قليلة.

واشترك هذا القانون مع القانون الأول في تأكيد العلاقة القائمة بين الآلهة والملوك مشيراً إلى أن الحاكم أو الملك هو الذي تسلم القانون من الإله وهو الذي ينفذ إرادة الآلهة على الأرض وبين الناس، وأن مهمته هي السهر على تنفيذ تلك القوانين ورعاية مصالح الناس، كما يمجد ذات الآلهة التي مجدتها القوانين التي سبقته.

 

***************************************************************************

كاظم حبيب

الاستبداد والقسوة والاستغلال وجور القوانين في العراق القديم

5-6

الحلقة الخامسة: قانون حمورابي

أما القانون الرابع الذي صدر في أعقاب قانون لبت عشتار بحدود قرن واحد أيضا، فقد سمي بقانون أو شريعة حمورابي. ويتسم هذا القانون بخصائص جديدة تختلف كثيرا عن خصائص القوانين التي سبقته في جوانب عديدة. وهي ناتجة عن التغيرات النسبية المهمة التي طرأت على نظام الحكم وعلى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فترة حكم هذه السلالة، وخاصة في سنوات حكم حمورابي، إذ تميزت هذه الفترة بالخصائص التالية:

  • الدولة الجديدة هي دولة الأكديين، وهم قوم يختلفون عن السومريين في تقاليدهم وعاداتهم وتراثهم والحضاري التي جلبوها معهم إلى بلاد وادي الرافدين، رغم أنهم لم يتنكروا للحضارة السومرية، بل زاوجوا بين حضارتهم وحضارة السومريين، سكان البلاد الأصليين، أو الذين سبقوهم في العيش في هذه المنطقة. والتشريع خير معبر عن هذا التمايز بين الحضارتين رغم التشابك بينهما.
  • اتساع رقعة الامبراطورية البابلية الجديدة التي تم تأسيسها في مطلع القرن التاسع عشر قبل الميلاد ومن قبل مؤسسها الأول سومو – آبو، رغم الصراعات والنزاعات الشديدة التي عرفتها تلك الفترة بين دويلات المدن.
  • نمو المركزية في هذه الدولة وتعزيز مركز الملك على حساب السلطات الإدارية للملوك التابعين لها في المدن المجاورة بعد أن استولى حمورابي على مدينة لارسا، وقبل ذاك على مدينتي أوروك وإيسن.
  • تنامي سلطة الملك واستبداده وهيمنته المطلقة على سلطة المعبد والكهنة والمجتمع، رغم الصراعات التي استمرت قائمة بينهما، إذ اعتبر حمورابي نفسه الوسيط المباشر بين الآلهة والمجتمع، وسعى جاهداً إلى تقليص سلطة وتأثير المعبد والكهنة على المجتمع والدولة وقراراتها ومواردها لصالحه. وقد حقق حمورابي نجاحات ملموسة في هذا الصدد، إلا أنه لم يكن في مقدوره تجاوز الواقع القائم وموازين القوى لإلغاء دور المعبد والكهنة بأي حال، إذ كانت سلطته تستند بالأساس إلى المعبد وكهنته.
  • حصول تطور ونمو اقتصادي في بابل ساهم في خلق انتعاش وتنوع وتوسع وتعقد العمليات الاقتصادية والمالية والتجارية ونشوء إشكاليات جديدة في المجتمع البابلي العبودي القديم، وكذلك في علاقة الدولة مع المدن المجاورة والتابعة ومجتمعاتها وآلهتها والكهنة فيها؛
  • ساهم التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي شهدته الدولة والمجتمع في بابل في توسيع قاعدة وحجم الملكية الخاصة للأرض الزراعية وبعض وسائل الإنتاج الأخرى وتزايد عدد العبيد العاملين في أرض الإقطاعي واتساع رقعة الأرض التي في حوزة مالكي الأراضي، كالملك والمعبد وغيرهم، وتنامي ثروة الأغنياء، وتعاظم ثروة الملك والمعبد والكهنة بشكل خاص، إضافة إلى نمو ملموس في تقسيم العمل الاجتماعي الذي ارتبط بتطور الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. وفي مقابل ذلك، ورغم التحسن العام في الأوضاع الاقتصادية، استمرت غالبية أفراد المجتمع تعيش في وضع غير ملائم وصعب معاشياً مع تفاقم حالة التمايز بين الأغنياء والفقراء، بين المجموعة التي أثرت، بما فيها الملك والمعابد والكهنة والتجار وأصحاب الأموال، في مقابل فقر متفاقم وزيادة في عدد الفلاحين الفقراء، إضافة إلى تزايد عدد العبيد بسبب الحروب التي خاضها حمورابي والانتصارات التي حققها على المدن المجاورة وكثرة الأسرى الذين سقطوا في أيدي هذه الدولة الجديدة وتحولوا إلى عبيد يعملون لمصلحة الملك والمعبد وكهنته والسادة المالكين.

في ضوء هذه الوقائع التي اقترنت بتهديدات مستمرة للدولة البابلية الموحدة جعلت حمورابي يعمد إلى صياغة أو الإشراف على وضع وصياغة القانون الجديد للدولة البابلية المترامية الأطراف، مستفيدا من القوانين والتراكم التشريعي السابق، ولكنه مضيفا إليه تشريعات جديدة كثيرة، التي افترض هو والفئة الحاكمة، أنها تستجيب لمصالحهما المشتركة وتضمن حمايتهما وحماية ملكيتهما الخاصة، أي أنها كانت تتناغم مع التطور الجاري حينذاك في الملكية الخاصة والتقسيم الاجتماعي للعمل وحاجات المجتمع وتطوره الاقتصادي ووعي الطبقة الحاكمة بمصالحها الاقتصادية الاستغلالية وتوسع الدولة البابلية و. فما هي الخصائص الجديدة لهذا التشريع في ما يخص موضوع سياسة الاستبداد واستخدام العنف وممارسة القسوة والتعذيب إزاء المجتمع في الدولة البابلية؟

إن دراسة قانون حمورابي تضع الباحث أمام مجموعة من الخصائص المميزة التي لم تتوفر في القوانين السابقة والتي تعبر عن أوضاع جديدة قائمة في البلاد التي يمكن الإشارة إليها بشكل مكثف فيما يلي:

إن الفلسفة التي استندت إليها تشريعات حمورابي تبلورت في تكريس الحق الإلهي المطلق الممنوح من الآلهة إلى الملك ليحكم بموجبه المجتمع البابلي، فهو الوسيط بين الآلهة والشعب، أو بين السماء والأرض، فهو مرة ابن السماء، ومرة أخرى ابن الأرض. وبهذا كرس “العلاقة العضوية” بين الأطراف الثلاثة: الآلهة والحاكم والمجتمع. فالحاكم هو الرجل الذي اختارته الآلهة لحكم البلاد والمجتمع، ويمجد نفسه بطريقة تشير إلى شعوره بالعظمة والعملقة بطريقة غير مسبوقة، كما ورد في مقدمة القانون. فالمقدمة تشير مثلاً إلى ما يلي: “5- البذرة العتيدة للملكية … الملك القوي … شمس بابل الذي يجعل الضوءَ يندفع فوق أراضي سومر وأكد، الملك الذي أخضع أنحاء المعمورة الأربعة … أنا محبوب إينانا. حين أرسلني مردوخ لأقود الشعب في طريق الحق. ولأدير البلاد، وضعت أسس القانون والعدالة في لغة الأرض. مستهدفا صالح الشعب. في ذلك الوقت. قررت: القانون”. (أنظر: دلّو، برهان الدين، حضارة مصر والعراق، مصدر سابق، ص 422).

  • وعبر هذا التكريس للعلاقة بالآلهة سعى الحاكم إلى فرض قوانينه وأوامره على المجتمع وعزز معها سلطة الحاكم إزاء المعبد والكهنة والمجتمع، فهو الحاكم المطلق الذي تتجسد فيه سلطة الآلهة المطلقة، أي عملياً ما نطلق عليها اليوم بالسلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. ورغم إنها كانت موجودة قبل ذاك أيضا، ولكنها لم تكن بهذا الوضوح التشريعي. فالملك حمورابي محبوب الآلهة وحاكمها العادل على الأرض وراعي المعبد وحامي المجتمع وهو القادر على تحقيق مصالح الرعية، وعلى الرعية كلها أن تعبر عن حبها له واحترامها لشريعته والتزامها بتنفيذ بنودها وإطاعة أوامره في الحرب والسلم.
  • إنه تشريع واسع يشمل مجمل القضايا الاقتصادية والاجتماعية والدينية والسياسية والعلاقات الداخلية للدولة البابلية بالمقارنة مع جميع القوانين التي سبقته والتي وصلت إلينا حتى الآن.
  • وفيه تقديس وحماية للملكية الفردية وملكية العائلة في آن واحد، إضافة إلى ملكية المعبد والملك.
  • وفيه تمييز في إنزال العقوبات بحق المخالفين للقوانين أو مرتكبي الجنح فيما بين الكهنة والسادة والمواطنين الاعتياديين والعبيد.
  • وفيه تمييز واضح ومخل في غير صالح المرأة.

ولكنها تتضمن أيضا مجموعة من العقوبات التي لم ترد في القوانين السابقة، كما أنها لم تمارس مجتمعيا قبل ذاك، إذ لو كانت موجودة لانعكست بطريقة ما في صياغة القوانين السارية حينذاك. وهذه المجموعة الجديدة من العقوبات ترقى إلى مستوى التعذيب الجسدي والنفسي والإهانة المباشرة والموجعة لكرامة الإنسان. فهي إلى جانب أحكام الموت بطرق جديدة غير معهودة في القوانين السابقة، ولم تعرفها مجتمعات ودويلات المدن العراقية السابقة أو حتى الدولة المركزية التي أقيمت في فترة السومريين والأكديين في العراق قبل ذاك، تتضمن ولأول مرة عقوبات التعذيب ضد الإنسان وعقوبات القصاص المماثل للمخالفة التي وقعت من شخص على آخر، سواء أأكان ذلك بالنسبة للمعاملات الاقتصادية والمالية والتجارية أم بالنسبة للمخالفات العائلية والاجتماعية والسياسية المختلفة. فهي تتضمن عقوبة القتل والإجلاس على القازوق حتى الموت، وعقوبة الحرق بإلقاء المعاقب في النار، أو عقوبة القتل وحشره بالصدع الذي أحدثه في المنزل وسدّه عليه، أو قتل المخالف وتعليقه على باب بيته، والرمي في النهر، والدمغ بميسم الإماء أو العبودية، وعقوبة قلع العينين، وقطع اللسان، وقطع ثدي المرأة، وجدع الأنف، وصمل الأذن، وقطع اليد، وكسر العظم، أو السن، والجلد، وقص نصف شعر الرأس وعقوبة الجلد)، وفرض القيام بأعمال السخرة في أملاك الملك، إضافة إلى تطبيق مبدأ القصاص، أي “العين بالعين والسن بالسن“. ومن العقوبات القاسية جداً تلك التي كانت توقعها القوانين بالأولاد المتبنين، في حالة إخلالهم بشروط التبني، فإذا رفض أبوة متبنيه يعلَّم جبينه ويباع في سوق النخاسة. (الهاشمي، رضا جواد، القانون والأحوال الشخصية، في حضارة العراق، الجزء الثاني، مصدر سابق، ص 104).  [ملاحظة: أود جلب انتباه القارئة والقارئ إلى ضرورة المقارنة هنا بين القوانين التي أصدرها حمورابي حول أحكام الإعدام بحق المخالفين، وبين القوانين والممارسات التي أصدرها ونفذتها أجهزة النظام الاستبدادي البعثي في العراق بعد ما يقرب من 37 قرناً، وهي ليست متقاربة في المضمون فحسب، بل وفي عدد المواد الخاصة بحكم الموت في شريعة حمورابي أيضاً. ك. حبيب].  ويمكن اعتبار قانون حمورابي الأساس الذي استندت إليه كثرة من القوانين التي صدرت فيما بعد أو التي تضمنتها “الكتب السماوية!”، ومنها بشكل خاص العهد القديم (التوراة) والإنجيل والقرآن، في مختلف المسائل، ومنها عقوبات التعذيب السادية، التي تهدف إلى إهانة كرامة الإنسان وتشويه جسده ووضعه النفسي واسقاط معنوياته كإنسان، وإنزال القصاص المماثل للمخالفة، أو حتى العقوبات الخاصة بقضايا الملكية والعبيد وغيرها.

ويستطيع الإنسان أن يلاحظ بما لا يقبل الشك بأن هذه العقوبات القاسية لم تنزل من السماء بل وضعت من قبل الفئة الحاكمة بقيادة الملك حمورابي لتأمين عدة أهداف جوهرية:

  • تكريس فكرة إن الملك هو الممثل الفعلي والوسيط بين الآلهة والإنسان أو المجتمع، وأحكام الملك، وهي أحكام الآلهة، تعتبر مطلقة وقطعية ولا مرد لها وتشترط الخضوع الكامل لها.
  • تكريس وتعزيز سلطة الملك وهيمنته التامة على المجتمع وتجنب احتمالات الإخلال بها من خلال الكهنة أو الناس، ومنهم العبيد أيضا، وبالتالي، تكريس الاستبداد الفردي والحكم المطلق، أي تكريس فكرة الملك المستبد المطلق والمسؤول عن كل شيء الذي بيده يمسك زمام السلطة التشريعية والتنفيذية والإدارية والقضائية، ويتحكم بمصائر الناس وفق الشريعة التي قدمت له من إله الشمس والتي شُرّعت وفق إرادة الإله مردوخ إله مدينة بابل.
  • سيادة علاقات الإنتاج العبودية في الدولة البابلية في تلك الحقبة الزمنية وتكريس التراتبية الاجتماعية واعتبارها تعبر عن إرادة الإله التي تجلت في التباين في أحكام القانون إزاء المخالفات المتماثلة من أفراد ينتمون إلى فئات اجتماعية مختلفة.
  • حماية الملكية الخاصة ومصالح الملك والكهنة والأثرياء في المجتمع من غضب الفلاحين والعمال الفقراء، خاصة وأن التناقضات الاجتماعية والنزاعات كانت في تفاقم بسبب الفجوة في مستوى المعيشة والاستغلال والاضطهاد، واتخذت أبعادا جديدة لا في مركز الدولة فحسب، بل وفي أطرافها والمدن التابعة لها أيضاً.
  • ضمان الحصول على جيش جرار في حالات الضرورة للمشاركة في عمليات الغزو والحروب وزيادة ثروة الملك والفئات العسكرية والغنية.
  • ويفترض أن نفسر مفهوم العدالة الذي يرد في قوانين تلك الفترة استناداً إلى القوانين الصادرة عن الملك أو الفئة الحاكمة، إذ أن الملك كان يقصد بالعدالة تكريس واقع التمايز القائم في المجتمع وليس ضده، وأن أي خرق لذلك التمايز “وهو تمايز غير عادل”، يعتبر تجاوزاً على القانون ويعاقب عليه المخالف. فمفهوم العدالة هنا طبقي أو فئوي ونسبي بالارتباط مع الواقع القائم أو العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع والقوانين المحددة لها.

تشير المعلومات المتوفرة عن العراق القديم إلى أن المنافسة بين أفراد عائلة الملك للحصول على المراكز، أو الصراع بين الأمراء لتولي التاج، كانت كثيرة وكانت تتسبب في قلق الملوك وسعيهم لمعرفة من يقف وراء ما يحاك من مؤامرات ضد الملك. ولم تبرز في الشرائع التي سبقت شريعة حمورابي أية إشارة إلى وجود عقوبات لمن يلقى القبض عليه متآمراً ضد الملك. وفي شريعة حمورابي وجدت مادة واحدة هي المادة 109 ضمن المواد التي يطلق عليها بمجموعة مواد ساقية الخمر أو صاحبة الخمَّارة. نصت المادة على ما يلي:

المادة (109) “إذا تجمع محتالون (مجرمون) في بيت بائعة الخمر ولم تلق القبض على هؤلاء المحتالين ولم تقدمهم إلى القصر، فأن بائعة الخمر هذه تعدم”. (أنظر: رشيد، فوزي د.، الشرائع العراقية القديمة، مصدر سابق، ص 107. ملاحظة: جاء في مصدر أخر ترجمة أخرى لشريعة حمورابي استبدلت كلمة “محتالون” بـ “متشردون”، فالنص الآخر المترجم يقول “إذا تجمهر بعض المتشردين في حانة بائعة الخمر ولم تقبض عليهم ولم تأخذهم إلى القصر فإنها تقتل”. راجع دلو، برهان الدين، حضارة مصر والعراق، مصدر سابق، ص 430. ويبدو لي أن النص الأول هو الأكثر دقة).

قرأ الدكتور سامي سعيد الأحمد هذا النص على النحو التالي: “يظهر أن معارضة السلطة كانت خلال هذه الفترة جريمة كبرى فنصت المادة 109 من شريعة حمورابي على إعدام صاحبة حانة الخمر التي لم تخبر باجتماع المتآمرين على الدولة في حانتها ولم تلق القبض عليهم. ونقرأ في نصوص فألٍ من هذا العصر ما يلي (وريث للملك سوف يقتل والده ويجلس على العرش) و(الوزير سوف يجلس على عرش سيده) و(وجيه سوف يقتل الملك) و(الملك سوف يطرد ولكنه سوف يصبح قوياً مرة ثانية في البلاد) الخ التي تدل على قلق الملوك وكثرة ما حدث من حركات خلع وتآمر عليهم”. (أنظر: الأحمد، سامي سعيد د.، الإدارة ونظام الحكم، العراق القديم، في كتاب حضارة العراق في 13 جزء، الجزء الثاني، دار الجيل-بيروت، بغداد، 1985، ص 24). كما تشير النصوص إلى وجود “مجلس بكل مدينة يتكون من رجال البلدة، ولم تكن النشاء ممثلة فيه، حسب ما يظهر، ويقضي بالمسائل القضائية ولخ حق الحكم بالموت.”. (المصدر السابق نفسه). 

*****************************************************************

6-6

الحلقة السادسة: اللوائح الآشورية

إذا انتقلنا إلى قوانين الدولة الآشورية فسنجدها في ألواح بلغ تعدادها أحد عشر لائحة تتضمن الحقوق المختلفة التي عالجتها شريعة حمورابي أيضاً، ولكنها أضافت إليها في مجال الاستبداد والتعذيب صورا جديدة أكثر قسوة لم نجدها في شريعة حمورابي. وهو تعبير آخر عن اتجاهات تطور الملكية والحكم ومشكلات المجتمع التي كانت تدفع بالحكام إلى ضمان مصالحهم وهيمنتهم وفرض المزيد من العقوبات وتنويعها، خاصة تلك التي تمارس تعذيبا جسديا ونفسيا على الناس، فهي تعبر عن ممارسة أساليب العنف السلطوية التي برزت في عهد الدولة البابلية وأجبرت الناس على مواجهتها بأساليب مقاربة لها، ثم تطورت هذه الأساليب فيما بعد في الدولة الآشورية، ومن ثم في فترة حكم الكلديين (626-539 ق.م.) التي يصطلح عليها بـ “العهد البابلي”. (أنظر: رضا جواد الهاشمي، التجارة، الفصل السادس، الجزء الثاني، حضارة العراق في 13 جزءاً، بغداد، 1985، ص 201).   

أخذ مشرع اللوائح القانونية الآشورية بكل العقوبات، بما فيها عقوبات التعذيب المغالية، التي وضعها الحكام الأسلاف في الدولة السومرية على قلتها، وفي الدولة الأكدية البابلية، ولكنه أضاف إليها مجموعة أخرى لم تكن معروفة في العراق في الفترة التي سبقت الدولة الأكدية أو العراق البابلي، أي أن بعضها لم يعرفه أو يمارسه الحكام البابليون. نورد هنا أمثلة على ذلك: قطع أحد الأصابع، سحب الشفة السفلى للمخالف بواسطة حد سلاح بلطة وقطعها، الأخصاء، ثقب الأذنين وربطهما بالخيط وعقده عند ظهره، قلع الشعر وتشويه الأذنين بثقبهما، إجلاس المرأة على خازوق حتى الموت وعدم دفنها. وجميع هذه العقوبات تأتي في باب المشكلات الاجتماعية والعائلية، وبضمنها المخالفات الجنسية. أما في الحقل الاقتصادي فكانت العقوبات في الغالب الأعم عقوبات مالية وجلد للمخالف أو فرض العمل بالسخرة عند الملك ولفترات متباينة. ويشمل هذا تلك العقوبات التي ينزلها القانون بالعبيد.

تميزت الدولة الآشورية بسعة المناطق التي تحت سيطرتها وبتقدمها في التقنيات العسكرية والتخطيط للمعارك وتطوير الأسلحة وخوض المزيد من الحروب في سبيل الهيمنة على مناطق وشعوب ودويلات مدن أخرى، وعرفت في الوقت نفسه تطورا ملموسا في أسواقها التجارية وعلاقاتها الداخلية والخارجية وتنامي المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وواقع التمايز الاجتماعي، وتنامي عمليات القرصنة على الطرق وبروز مشكلات مع الدول المجاورة، وجدت نفسها أمام حاجة ماسة إلى وضع القوانين التي تحافظ على الدولة ومصالحها ومصالح القوى المهيمنة فيها، وخاصة العائلة المالكة والحاشية والقواد العسكريين والأثرياء. ولكنها بالغت في تلك العقوبات التي أصبحت، كما هو حال الدولة البابلية، تشريعات جائرة وغير عادلة وغير إنسانية، إذ تحمل كثيراً من الشراسة الحكومية التي كان لا بد لها أن تتجلى مرة أخرى في سلوك الأفراد الذين يواجهون مثل هذه العقوبات الحكومية. إن أساليب الاستبداد والعنف والتعذيب التي مارستها دويلات المدن أو الدولة المركزية بعد توحيدها في فترات مختلفة من تاريخ العراق القديم، ارتبطت عضويا بعدة حقائق مهمة، هي:

ظهور وتطور الملكية الخاصة ووجود الأسرى العبيد وما اقترن بذلك من تكون دويلات المدن وحماية تلك الدويلات والملكية الخاصة ومصالح رئاسة العشيرة أو القبيلة الواحدة وإخضاع العبيد واستغلالهم لصالح الملك والمعابد والكهنة وما إلى ذلك. يشير الأستاذ الألماني المتخصص بأثار منطقة الشرق الأوسط بارتيل هرودا إلى “أن العبيد في مجتمعات العراق القديم، وكانوا يشكلون الطبقة الدينا في المجتمع، وكان أغلبهم من أسرى الحروب أو مُهجّرين قسراً أو مطرودين من مناطق سكناهم أو ممن عجزوا عن دفع ديون كانت بذمتهم، لم يلعبوا دوراً كبيراً في هذه المجتمعات، كما لم تتعامل هذه المجتمعات بتجارة العبيد. وكانت الفئات الاجتماعية المختلفة لا تمتلك عبيداً في ما عدا فئة النبلاء والتجار الأغنياء بحدود معينة. وكانوا يعاملون عموماً على أنهم خدم السيد لا أكثر”.

(Hrouda، Barthel Prof. Dr. Mesopotamien-Die antiken Kulturen zwischen Euphrat und Tigris. Verlag C. H. Beck. München. 1997. S. 65).

  • ممارسة حكام العراق أساليب ووسائل استبدادية وتعذيب ولجت العراق من مناطق أخرى عبر النازحين الجدد إليها وعبر العلاقات التي كانت تنشأ بينها وبين جيرانها من القبائل والدول، علما بأن أسباب ظهور الاستبداد والعنف والتعذيب عندها لا يختلف في أسبابه ومظاهره عن تلك التي عرفها العراق أيضاً.
  • تشكلت أساليب الاستبداد والعنف والتعذيب عبر التطور والتراكم التشريعي في الدولة والمجتمع، خاصة وأن القضايا المحلية لم تكن وحدها العامل المؤثر، بل العوامل الخارجية أيضاً، ولكنها كانت تأتي بالدرجة الثانية، إذ أن الأساس هو العوامل الداخلية والتحولات التي كانت تجري في مضامين العلاقات الإنتاجية والاجتماعية التي أشرنا إليها سابقا وفي العلاقة بين السلطة والمجتمع، وبين الدولة والسلطة والدين والمجتمع، وبين الأغنياء مالكي وسائل الإنتاج والأموال وبين المنتجين من العبيد وغير العبيد والفقراء حينذاك.
  • إن أوضاعاً اجتماعية نشأت في هذه الدولة أجبرت المجتمع على ممارسة أشكال مختلفة من النضال للتخلص من تلك الأوضاع، منها مثلا الانتفاض ضدها، أو مساندة محاولات انقلابية ضد الحاكم من جانب معارضيه، أو التصدي لها بأساليب فردية أو التحايل عليها، مما ساهمت بدفع الحكام، ومنهم حمورابي، إلى التفكير بوضع قوانين شديدة وقاسية في عقوباتها من أجل منع وردع أي تجاوز على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج أو التعرض للفئات الحاكمة والغنية في المجتمع أو الانتفاض ضد المستغلين وبشاعة تعاملهم مع العبيد والفئات الفقيرة الأخرى في المجتمع أو التطاول على المعبد وكهنته.

وباختصار كان الملك أو الحاكم يرى نفسه الوجه الثاني للعملة، أما الوجه الأول لها فهو الإله أو الدين، وبالتالي فالخضوع لهما من جانب المجتمع واجب مقدس لا يمكن ولا يجوز مخالفتهما، فهما أساس الملك وقاعدة السلطة الثابتة. وعبَّر عن هذه الرؤية كتاب أردشير خير تعبير حيث جاء فيه قوله: “يجب عليك أن تعلم أن المُلك والدين أخوان توأمان أحدهما يستند إلى الآخر، فالدين أساس المملكة والملك حارس الدين، وبالنتيجة فإن من ليس له حارس مفقود، ليس له أساس مهدوم”. (أنظر: مهدي، فالح، د.، البحث عن جذور الدولة في الإسلام، مصدر سابق، ص 38).

إن متابعة تطور المجتمعات العراقية القديمة عبر القوانين المنظمة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية تؤكد بأن السلالات المبكرة التي عاشت في العراق، ومنها السلالات السومرية والأكدية لم تعرف صيغ التعامل الاستبدادي والقسوة والجور في العلاقات العائلية أو في إطار العشيرة في فترة المشاعية البدائية أو حتى في مرحلة التحول إلى المجتمع العبودي. وكانت حالات الدفاع عن الأرض أو مواجهة الغزو الخارجي على قبيلة من قبل قبيلة أخرى تواجه بالدفاع والاقتتال المتبادل. وكان الأسرى من النساء والرجال يتحولون إلى عبيد يعملون مع بقية الفلاحين والفلاحيات في الأرض العائدة للقبيلة المنتصرة. إلا أن التحولات التي جرت في تقسيم العمل الاجتماعي وبروز فائض الإنتاج ومن ثم نشوء الملكية الفردية لوسائل الإنتاج ومنها الأرض، والإنتاج، وأسواق محلية، استوجب نشوء قواعد وقوانين جديدة تحكم تلك العلاقات وتنظمها. وفي الفترات الأولى كما رأينا لم تكن القوانين قاسية بل اعتيادية ومحاولة لمعالجة المشكلات بطرق اعتيادية بضمنها الغرامات العينية. كما لم يكن الموقف من المرأة شديد القساوة كما حصل بعد ذلك. ولكن تطور دولة المدينة ونشوء ملكيات كبيرة، بما فيها ملكية الملك والمعبد والقادة وتفاقم استغلال المنتجين قد دفعت باتجاه تشديد القوانين دفاعاً عن تلك الملكيات وحماية مصالح الفئات المالكة التي انعكست بدورها في ظواهر الاستبداد والقسوة في العقوبات والقوانين الناظمة لها. وهي عملية تطور لم يعرفها العراق وحده، بل عرفتها جميع شعوب العالم تقريباً في تطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ومن هنا لا يمكن الادعاء بأن المجتمع العراقي القديم كان متفرداً بممارسة الاستبداد والعنف والقسوة والاستغلال الاجتماعي (الطبقي) في حياته العامة، أو في العلاقة المشوهة غير المتساوية بين الرجل والمرأة، وفي العلاقة ما بين أفراده أو إزاء الآخرين، بل هي مرتبطة بطبيعة علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع من حيث الإنتاج وتوزيع الثروة ودور السلطة السياسية في التعامل مع مختلف فئات المجتمع وطبيعة علاقات الإنتاج ومستوى تطور القوى المنتجة والوعي الفردي والمجتمعي، إضافة إلى العادات والتقاليد الموروثة في المجتمع من النظم الاجتماعية والسياسية السابقة.

***************************************************************************************************************************************************************************************************************************************

ألواح سومرية معاصرةإذ تنشر مثل هذه الموضوعات والمعالجات وما تتناوله فإنها تتطلع لتداخلات وتفاعلات بكل اتجاهاتها من القارئات والقراء وفضل رؤاهن ورؤاهم جميعاً، كي نُعلي معاً من مكان ومكانة حملات التنوير ونشر خطاب الثقافة المتفتح بقيم التسامح والأنسنة.. ولنمنع ضخ التخلف ومنطق الخرافة في الذهنية العامة كما تحاول فعله قوى الظلام فنستعيد منطق التحضر والعقل العلمي في المنجز 

*****************************************************************************

اضغط على الصورة للانتقال إلى الموقع ومعالجاته

********************يمكنكم التسجيل للحصول على ما يُنشر أولا بأول***********************

تيسير عبدالجبار الآلوسي
https://www.facebook.com/alalousiarchive/

للوصول إلى كتابات تيسير الآلوسي في مواقع التواصل الاجتماعي
https://www.somerian-slates.com/2016/10/19/3752/

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *