حركة عدم الانحياز انطلاقة جديدة لكنها محاطة بأزمات عالمية مستفحلة

حركة عدم الانحياز في مؤتمر كمبالا الأخير تخطو باتجاه انطلاقة جديدة لكنها لا تنسى حقيقة أنها محاطة بأزمات عالمية مستفحلة ليست هينة أو سهلة ولا هي داخليا بنيويا بدرجة من قدرات التحدي ما يصل بالحركة إلى إمكان المجابهة الحاسمة.. ومن هنا جاءت قراراتها ووثيقة كمبالا بعيدة عن هوس الراديكالي الحازم والكلي الشامل على ضرورة بعضه أو جوانب منه، ولهذا فقد وضعت الحركة ما يمكنها تلبيته باتجاه تحقيق مبادئها،آخذةً بنظر الاعتبار الأوضاع الدولية ومستجداتها ومتغيراتها وكل ما مرت به داخليا.. فكيف نقرأ راهنيا اليوم، جوانب من أبرز تفاصيل جهود الحركة ومحاولتها استعادتها حيوية الفعل والتأثير؟ أؤكد ثانيةً بما يخضع لمجمل المؤثرات البنيوية الداخلية بوصفها حركة لها خصوصية التنظيم والعمل والخارجية بكل الضغوط الواقعة عليها ككتلة أو على بعض عناصر تلك الكتلة وأطرافها بما عرقل ويعرقل من اندفاعها إلى أمام.. برجاء قراءة أضواء على الحركة كما تقترحه معالجتي المتواضعة في أدناه

حركة عدم الانحياز انطلاقة جديدة لكنها محاطة بأزمات عالمية مستفحلة

د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

عندما انطلقت حركة عدم الانحياز، كان ذلك إثر سلسلة من الوقائع والمؤتمرات التي بلورت الصياغة التي انتهت إلى مؤتمرها التأسيسي ومن ثم الأول بما ثبتته في مبادئها العشرة. ومبدئياً كانت الانطلاقة تجمع بين فكرة الابتعاد عن أي انحياز بجانب أيّ من القطبين العظميين وما نجم بينهما من صراع الحرب الباردة وأخذ موقف الاستقلالية والحياد في المواقف هذا إلى ما يُضاف من تعزيز حركة التحرر الوطني والارتقاء بمهام التنمية والتقدم فيها خارج  قيود الضغط والعرقلة التي جابهت الدول المستقلة حديثاً بحينها..

وبغض النظر عن عدد تلك الدول التي ساهمت بالتأسيس (باندونغ) أو في المؤتمر الأول عام 1961 (بلغراد) فإنها سجلت حضورا آسيويا أفريقيا بارزا مع مساهمة دول لأمريكا اللاتينية وكان الآباء المؤسسون ممن صاغ مبادئها وهم كل من مصر والهند وأندونيسيا ويوغسلافيا قد توافقوا على الفكرة التي وُلِدت مبكرا قبل التأسيس ومسيرته..

أما مبادئ مؤتمر باندونغ العشرة فنصت على الآتي:

  1. احترام حقوق الإنسان الأساسية، والالتزام بأهداف ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه.
  2. احترام سيادة جميع الدول وسلامة أراضيها.
  3. إقرار مبدأ المساواة بين جميع الأجناس، والمساواة بين جميع الدول، كبيرها وصغيرها.
  4. عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أو التعرض لها.
  5. احترام حق كل دولة في الدفاع عن نفسها، بطريقة فردية أو جماعية، على وفق ميثاق الأمم المتحدة.
  6. عدم استخدام أحلاف الدفاع الجماعية لتحقيق مصالح خاصة لأي من الدول الكبرى وعدم قيام أي دولة بممارسة ضغوط على دول أخرى.
  7. الامتناع عن القيام، أو التهديد بالقيام، بأي عدوان، والامتناع عن استخدام القوة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة.
  8. الحل السلمي لجميع الصراعات الدولية، على وفق ميثاق الأمم المتحدة.
  9. تعزيز المصالح المشتركة والتعاون المتبادل.
  10. احترام العدالة والالتزامات الدولية.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن تلك المبادئ والأسباب التي نشأت عليها الحركة التي تجنبت تسمية منظمة كي تتجاوز البيرواقراطية وكيما تميز وجودها وتمنحه معاني مضافة دالة عادت اليوم مع الانقسام العالمي بخاصة في إطار ولادة قطبية كسرت الأحادية والهيمنة ولكنها أيضا استدعت اتخاذ مواقف مناسبة تُبعد بلدان النمو عن أسوار الصراع المحتدم حد الاشتعال ببعض المناطق مثلما يجري في أوكرانيا من صراع طرفاه روسيا والولايات المتحدة.. وهنا إذا كان لأوروبا والصين ان تعقد حلفها مع أي طرف فإن دول حركة عدم الانحياز باتت بحاجة لتفعيل المبادئ واتخاذ الحياد الإيجابي في الموضوع..

لكن الأزمات وانقسام االأقطاب ليست قضية بحدود دولة أوكرانيا الجمهورية التي وُلِدت بالأساس بقرارات الدولة السوفيتية السابقة ولكنها أبعد من ذلك تمتد نحو استقطابات تتضح عندما ننظر إلى أزمة الشرق الأوسط الملتهبة بفعل العدوان الإسرائيلي والأزمات الأفريقية بخاصة مع صعود نجم الانعتاق والتحرر من الفلك الفرنسي مرة والأمريكي البريطاني في أخرى..

كل تلك المعضلات وصراعاتها وانقسامات الأطراف الدولية الكبرى المؤثرة تضع على طاولة حركة عدم الانحياز مطالب وضغوط ليست هينة. والحركة بهذا كتلة دولية (مهمة) فعلى الرغم من ضعف العام وبعض ما يعود من ضعفها ناجم عن تفكك في مجابهة المتغيرات وفي استفحال حال الاختلاف والخلاف بين عدد من أطرافها أو أعضائها إلا أنها اليوم أمام تحديات تدفع نحو استعادة الفاعلية والدور المؤمل..

إن انعقاد المؤتمر الأخير في أفريقيا أمر يمنحه فرص تحريك باتجاه مجابهة جدية لما يُثار في المحيط الإقليمي المباشر لكمبالا أو في الشرق الأفريقي حيث بوادر صراع متجدد بين أثيوبيا والصومال مع وجود صراعات أثيوبية داخلية وعلى حدودها توجد الأزمة السودانية أما في الغرب الأفريقي فنعرف فالأزمة المفتوحة مع فرنسا بينما تجد الحركة نفسها بمهمة كبرى بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة وعموم فلسطين بجانب قضية الاستقلال وإقامة دولة فلسطينية حرة غير مقيدة باعتبارات الاحتلال والاستيطان ومجمل الجرائم الكبرى المرتكبة بحق شعبها منذ 75 عاما..

إن “وثيقة كمبالا” للحركة جابهت تنوعا بل اختلافا في تسمية الجرائم المرتكبة بوصفها ورقة أولى على الطاولة ولم ترق التسمية لمستوى الجينوسايد ولكنها وقفت موقفا يتفق والمبادئ العشرة من جهة مناصرة حق إنشاء دولة حرة مستقلة للشعب الفلسطيني حلا لقضية امتدت طويلا بتأثير المماطلة والتسويف والامتناع عن تطبيق القرارات الأممية..

وإذا كان الموقف السياسي قد استعاد بعض حراكه وحيويته وإن بصورة نسبية فإن القضايا الأخرى من قبيل قضايا التنمية والمشكلات الاقتصادية الكبرى من تضخم واختلال ميزان المدفوعات وأحمال الديون المثقلة بها تلك البلدان سواء منها الأساس أم التكلفة والفوائد وما نجم عن التغيرات البيئية المناخية من جفاف وفيضانات مدمرة ومن أوبئة ومن أمراض لطالما عرقل الحلول أو الاستراتيجيات التي تتطلب موقفا ربما وجدنا جانبا منه في مطالبة مجموعة الـ77 بحذف الديون وإلغائها وهو الأمر المطلوب على مستوى عدم الانحياز وإمكان انعتاقها وتلبية مبدأ الاستقلال في الأداء والقرار..

ولقد شهدنا ببعض الخطابات الرئيسة بالقمة إشارات إلى ما يمكن لبقاء الحركة ووحدة كلمتها وتنسيقها الاستراتيجيات التنموية أن يؤديه في التصدي لتحديات من قبيل انعدام الأمن الغذائي، والهجرة، وظواهر الفقر والتضخم والبطالة، والأوبئة، والتغيرات العاصفة للمناخ، والإرهاب وضرباته التخريبية المدمرة، بجانب قدرات تمويل التنمية وعبء الديون والأزمات المالية والنقدية..

إن الاتفاقات الأولية و\أو المبدئية لحركة عدم الانحياز قد هيأت الطريق ولو نسبيا لمجموعة الـ77 فيما اتخذته من قرارات عقب مؤتمر الحركة فالمجموعة بوجود الصين في الكتلة الأخيرة بخاصة مع بوادر اكتمال طريق الحرير وتوسعه نحو القارة الأفريقية..

إن الأساس في رؤيتنا سلامة وجود حركة عدم الانحياز يكمن في قدرتها على تعزيز منطق الكتلة الأبرز في الأمم المتحدة وفي العلاقات الدولية اليوم بما ينسق مسيرة دولها باتجاه الاقتراب من فرص تطبيق القانون الدولي وتطبيق مبادئ الأمم المتحدة ومواثيقها وتطبيع العلاقات لحل النزاعات حلا سلميا بما يقتضي مزيد تبنٍ لخطاب السلام بمقابل اشتعال خطابات الحروب وهو ما يمكن أن يتصدى للغة العنف وقوته أو أي تهديد به إذا ما بدأنا باحترام السيادة والامتناع عن انتهاكها أو ارتكاب جرائم عدوان كما يحدث اليوم حتى بين بعض دول الحركة..

ومن هنا فالقضية لم تنتهِ عند حدود تمكين ثقافة السلام وخطابه ولكن أيضا بالعمل بمبدأ الثقة وإدامتها وإقرار حال التعددية والتنوع واحترامه بما يعزز الأمن والسلم الدوليين ومن فرص تحقق العدالة والمساواة..

إن النظر الأعمق في مبادئ عدم الانحياز لا تضعها ومهامها بخانة إدارة العلاقات الدولية حياديا ولا حتى بوصفها كتلة مؤثرة في القرار الأممي حسب بل تنقل تلك المبادئ مهام الحركة عميقا في مسيرتها وجوديا بنيويا من جهة التنمية والتغلب على الفقر والمرض والجوع بالتوجه نحو فرص بناء أسس إنهاء تلك المعضلات المستفحلة حيث الناس لا تقتلها الأسلحة فقط وإنما يقتلها الجوع والمرض وينتهك كرامتها الفقر وهي آفات بات واجب القضاء عليها مطلبا عاجلا فوريا لا يقبل التأجيل أمام ملايين الضحايا سنويا لتلكم الآفات..

إن عدم احترام مبادئ القانون الدولي والعهود والمواثيق الخاصة بالسلام أطلق يد العدوان ونهجه واستباحته كل منطق عقلاني للعلاقات الإنسانية أو الدولية وهو ما أطلق يد اليمين الإسرائيلي في عدوانتيه الهمجية الوحشية تجاه فلسطين في غزة التي باتت اليوم خرابا غير قابلة للعيش ومن هنا فإن حركة عدم الانحياز تجد نفسها بمواقف سياسية من جهة واقتصادية من جهة أخرى مضطرة لوضع مطالبها الواجبة الملزمة أمام  دول الشمال الغنية كي تستجيب لتلك المطالب في إعادة هيكلة العلاقات بما تستحقه الكتل الدولية ومجموعاتها العائدة بقوة إلى الفعل المؤثر وإن كان يتعثر هنا أو هناك لما أوردناه من أسباب ودواع ..

ومن الطبيعي أن يكون موضوع المؤتمر الأخير تحت عنوان “تعميق التعاون من أجل الرخاء العالمي المشترك“، أي خلق فضاءات تبادل الثقة والعمل بمصداقية وشفافية تلتزم بالمبادئ والاتفاقات ومنها القضايا الحقوقية التي تحقق المساواة والعدل وتستجيب لحلول جوهرية بقضايا مثل قضية الهجرة وأخرى كتلك المشكلات الكبرى وما تم وضعه من استراتيجيات للحل بشأنها..

إن الحركة تدرك حجم اختراقها إذا ما قرأت طابع دخول كثير من الأعضاء في تحالفات جماعية وثنائية سواء اقتصادية سياسية أم عسكرية ولكنها تدرك بصورة جلية أكثر أنها مع تقدمها بمحاولات فرض مبادئها ستكون العون الأكيد للأمم المتحدة في تمكين وثائقها من التطبيق العادل والشامل

المقال في موقعي الفرعي بالحوار المتمدن

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=818318

********ومضات

حركة عدم الانحياز انطلاقة جديدة لكنها محاطة بأزمات عالمية مستفحلة
— تيسير عبدالجبار الآلوسي
أسئلة شعوب بلدان حركة عدم الانحياز المتطلعة لإجابات تنبثق من كثير العثرات التي تعرضت لها الحركة بخاصة مع تراجع صيت حركة التحرر والاستقلال التي سطعت في ستينات القرن المنصرم ومع صعود نجم المتغيرات بعد انكسارات وانهيارات دولية كبرى وتفاقم هدير الحروب والمشاغلات المعقدة واضطرار بعض بلدان الحركة للجوء إلى تحالفات ثنائية أو جماعية حدت من أدوارها في نطاق الحركة ولكن الأسئلة المنبثقة من هكذا واقع تمتلك حيوية التطلعات والآمال الساعية للفكاك من جديد القيود والتوجه نحو بدائل قد لا تكون بالروح الثوري بمنطق تغييرات نصف القرن السابق لكنها ذات أثر في استعادة منطق الحركة بقوانين المرحلة الراهنة.. هكذا تحتاج المعالجة لاستيعاب مواضع التراجع والانتكاس أو الركوس كيما تنهض بماردها كتلة مؤثرة وسط تجدد صيغ أخرى للتعددية القطبية العائدة باحتدام.. فكيف نقرأ إجابة الحركة وربما نلقي الضوء على وثيقة كمبالا لانطلاق مسيرة التحول وأثرها في القضايا الملتهبة اليوم؟؟؟ برجاء التفضل بالاطلاع وربما التفاعل بما يعن في الذهن من استكمال الرؤى وتنضيجها مع احترامي وتحياتي للقراءة التي تعني أن شعوبنا لم تنس مهام إعلاء الوعي وشحذه بمزيد قراءة وتفاعل للإغناء
https://www.somerian-slates.com/2024/01/24/15838/

أي موقف تتبناه الحركة لا ينبغي أن يكون بالحتم موجها بالضد من قوة أو كتلة دولية أخرى، بل بالضرورة ينبغي أن يتوجه نحو تعزيز مكانة الحركة ودورها بتعزيز أسس بنائها الأنجع وتنميتها وتقدمها بالتكامل مع مجموع الكتل الأخرى بخاصة هنا الأمم المتحدة ومبادئها والقضية هنا ليست تحديات مأزومة قد تؤدي إلى تفاقم الصراع بينما المطلوب نزع فتيل إشعاله من أي طرف جاء.. وهكذا فإن تعزز الطابع السلمي لقرارات الحركة وأفعالها هو ما سيعزز وحدتها ويدفع نحو تفعيل مهام التنمية ويواجبه ما قد تتعرض له من مشكلات الخلاف أو معضلات التدخلات

***

ستبقى حركة عدم الانحياز ميدانا مهما لطرح قضايا الشعوب والأمم التي مازالت تعاني من قمع تطلعاتها وحقوقها في تقرير المصير ولعل القضية الكوردية من بين أولى تلك القضايا التي ينبغي أن تستثمر لصالح معطياتها المستحقة منذ قرن من مسيرة عصرنا الحديث في اتجاه الانعتاق وتلبية تطلعات الشعوب فكيف نقرأ الحركة ومبادئها ومن ثم كيف سنرسم خطانا في الاتجاه الصائب بشأن حق تقرير المصير لكل شعوب العالم وأممه هذه معالجة متواضعة في الحركة ومؤتمرها الأخير على أمل استكمال الرؤية بموضع تال وربما ورود تفاعلات مخصوصة أيضا
ت

***************************

اضغط على الصورة للانتقال أيضاً إلى موقع ألواح سومرية معاصرة ومعالجاته

********************يمكنكم التسجيل للحصول على ما يُنشر أولا بأول***********************

تيسير عبدالجبار الآلوسي
https://www.facebook.com/alalousiarchive/              تيسير عبدالجبار الآلوسي

سجِّل صداقتك ومتابعتك الصفحة توكيداً لموقف نبيل في تبني أنسنة وجودنا وإعلاء صوت حركةالتنوير والتغيير

للوصول إلى كتابات تيسير الآلوسي في مواقع التواصل الاجتماعي

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *