الاستبداد ومناورات إعادة تخليقه المتكرر شرق أوسطياً؟

في لقاء متلفز ببرنامج الطاولة المستديرة جرت مناقشة موضوعة الاستبداد ولماذا تعيد مجتمعات الشرق الأوسط إنتاجه وبوقت مر ببعض الرؤى ربما المستعجلة إلقاء لوم على الشعوب إلا أن الاستبداد وطبيعته وكما نوقش من مفكرين ومن جمهور المتخصصين سايكوسوسيولوجيا وفكريا سياسيا وفلسفيا يبقى بمنطق يفضح السبب الحقيقي الكامن بقدرات العنف والسحق القهري القمعي على تشويه القيم والإنسان وجوديا.. وهنا يجب التوقف عند قراءات معمقة وموسعة لا تقف عند هذه القراءة الموجزة وإن كانت تحاول منح الموضوعة بعض معالم الكشف عن أبعادها بالاستناد إلى أبرز حقائق الاستبداد ومكامن تفسيره وقراءة أبعاده والبدائل المؤملة له.. تجدون تسجيل الحلقة في آخر الموضوع ومعالجته

الاستبداد ومناورات إعادة تخليقه المتكرر شرق أوسطياً؟

د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

الاستبداد شكل من أشكال ارتكاب الظلم بوساطة نظام من القسوة والسلطة الفردية أو المقصورة على مجموعة أو فئة، بمرجعية الإحساس المفرط بتضخم الذات حدَّاً يتحول الأمر إلى ممارسة الإقصاء والإلغاء مع ظاهرة الانفراد بالرأي حتى ولوج مستوى، يمارس اغتصاب حقوق الآخرين ومصادرة إمكانات مشاركتهم بأي منحى من مناحي حيواتهم الخاصة والعامة ورسم مساراتها بقصد تلبية حقوقهم وحرياتهم..

وإذا كان الاستبداد يشير إلى تفرد أحادي بالسلطة وممارسة البطش والترهيب فإنه أيضا مما يتوزع بين أحادية تتجسد بالفرد الطاغية وجمعية تتجسد بفئة أو طائفة أو طبقة تصادر الآخرين جميعا في إطار سلطة مركزية الطابع مما تتفاقم معه نزعات الاستعلاء والإقصاء والمصادرة..

وفي أجواء الاستبداد ينتفي القانون وسيادته لتحل محله نزعات المآرب النفعية الانتهازية ويشيع الفساد بكل أشكاله وعلى رأسه الفساد القيمي الأخلاقي لأنّ الأطراف المستبد بها وتلك التي لا تنتمي للمستبِد فرداً أو فئة تكون مستلبة الإرادة متحكَّم بها حد الاستعباد الذي ينتزع منها ملكيتها ليس لإرادتها بل لوجودها الإنساني بما يحيلها إلى أشياء صماء سلبية في أخص ما يعنيها بوجودها وهنا تسقط المعايير والقيم كرها وجبراً..

والاستبداد يبدأ بالنفس الإنسانية للفرد حيث يعلو مكون فيها وسلوك على بقية المكونات والقيم وعادة ما تتضخم الذات السلبية العدوانية على حساب المكونات الأخرى في النفس.. وهذه الحال هي حال مرضية تنمو في بيئة من الاضطراب النفسي ومن التشوهات البنيوية للمستبِد والمستبَد به..

وما يلي هذا المرض الفردي هو انتشار عدواه في أول خلية اجتماعية ألا وهي العائلة والأسرة ثم التشكيلات المجتمعية من مدارس ومؤسسات باختلاف مهامها ومستوياتها لتتسع في الانتشار نحو الوجود المجتمعي بطبقاته وفئاته..

إن بديل الاستبداد والرد عليه يتجسد في سلطة الحقوق والحريات بقوة القانون وسيادته على الجميع حيث مبدأ المساواة أمام القانون وإنصاف حقوق الجميع وكفالة العدالة الاجتماعية في نظام ديموقراطي يحترم التعددية والتنوع ويكفل حرية الإرادة والتعبير رافضاً أي شكل للمصادرة وإلحاق فرد أو طرف بآخر لأي سبب كان سوى ضمان الأنسنة وكفاية تلبية الحقوق..

وتشيع بمجتمعاتنا شرق الأوسطية وتحديداً عبر القهر السلطوي مفاهيم تشوه الديموقراطية وتنسبها لثقافة لا تنبع من مجتمعاتنا وتحاول التغريب وإطلاق ادعاءات مضللة بشأن معنى ممارسة الحريات والحقوق. وفي ظل مثل هذه المفاهيم المشوهة تسود منظومة للفكر السياسي تختلق مناخ التخريب القمعي بكل معالم قسوته وتسلطه بما يحيل الفلسفة الذكورية والقوة العضلية وهمجية القيم وفروضها القهرية إلى سلطة سايكولوجية وأخرى سوسولوجية تحمل السمات المرضية وعواملها وأسبابها من دون إدراك للحال ومآلاته..

ونحن هنا نشدّد على عدم الإحساس بقمع الحقوق والحريات وتقبل العيش بمنطق الخنوع والتبعية التي تصادر الإرادة وحريتها في اتخاذ القرار بوقت هي ليست مطلبا كمالياً عابراً بقدر ما هي قضية وجودية بعمقها الفلسفي القيمي وفي مستوى ممارسة العيش الحر الكريم المؤنسن بمنظومة فكرية تتسم بالانعتاق والتحرر والقدرة على ممارسة الحياة بمسؤولية كاملة تتساوى مع الآخر في إدارتها وتوجيهها ولا تسمح بمصادرتها بأي شكل أو لون وذريعة..

وإذا ما أردنا قراءة الوضع شرق أوسطيا أو عراقيا فإننا سنجد أن طبيعة الخطاب العام السائد تربويا يقوم على فلسفة ذكورية ونهجها وعلى حالات الانفراد بالرأي وسلطة أبوية متعالية ترى في الأصغر جاهلا تابعا بالحتم والضرورة وتنصّب أطراف بعينها نفسها وكيلة للإله تمتلك حق فرض ما تراه لتستغل بهذا المنطق المشوه الجموع وتفرط في نزعات التفوق وامتلاك الصواب حصريا مع ازدراء بيِّن واضح للجموع الذين تسميهم العامة تمييزا عن السادة المنزهين المعصومين المقدسين  وهكذا تتملك تلك النخبة المشوهة المستبدة حالات إفراط في سلطتها على الناس بصور الطغيان والتجبر والتكبر الذي يتقاطع كليا ومبادئ قبول التعددية والاختلاف واستقلالية الآخر ومساواته..

لكن بالمقابل كما مر تأكيد هذه المعالجة فإن تسيّد الاستبداد يخلق ظواهر قيمية سلوكية مرضية بشكل فاحش واسع من قبيل النفاق والرعب والجبن والكذب ومع كل هذا الاتساع بتلك السمات يتفشى الفساد الأخلاقي بأوسع معانيه وأخطرها؛ وهو ما يؤشر الإفراط بالفساد القيمي بمنطق التشوّه وتفشي التلوث القيمي بأسوأ أحواله..

وهذي المظاهر ليست متأتية من فراغ فالمستبد الطاغية فرديا جمعيا يستند إلى استغلال ما اختلق من شخصيات نرجسية أو تلك التي تعاني من الرهاب  وافتقاد الثقة ببيئتها ومحيطها الإنساني حيث تتشبع بمنطق الشك وتستمتع بإيمانها بنظرية المؤامرة وفشلها بجميع الأحوال من تلبية ما تراه فتتركه لسمات ظنية بالآخر وتخوينه واستعدائه وبوجه آخر لتلك الشخصية سنجد المتمسك بالدقة والانضباط نتيجة ذاك الرهاب والخشية من نتائج أي خطأ ربما تقع فيه لكن الأبعد من هذه السمات هو ولادة الشخصيتين السادية والمازوخية وبين المستبد وتحديد شخصيته وبين المقهور المغلوب على أمره ومازوخيته نجد ما يجسد الشخصية المستعبدة أو الواقعة بظل الاستبداد.. وليس الاستبداد هنا بالحتم والضرورة حال  وجود طاغية فرد ولكن منظومة الاستبداد نفسها وما تعنيه عندما تتبدى بفرض مرجعيات معصومة عارفة لما يعرفه الجميع مما ينفي المستبد أن يتمكن المرء من توظيف عقله لقرار أو سلوك وهنا نجد الصيغة أوضح ما يكون في طبقة كربتوقراط رجال الدين المزيفين ممن لا علاقة له بالدين ولا بمعتقد الناس وقيمه ومراجع مصطنعة لتمرير سطوة هذه الفئة واستبدادها المفضوح..

وبهذه المناسبة فإن الاستبداد الديني والاجتماعي هما ما يهيئان البيئة لمنظومة الاستبداد وسطوتها وتسلطها ليظهر الاستبداد السياسي وقمعه المفرط وتتكامل أدوات أو أركان الاستبداد من مثلث المال والسلاح والسلطة وجميعها الموصوفة بالفاسدة فالمال السياسي الفاسد ومافياتها والسلاح وميليشياته وإرهاب الدولة القمعية البوليسية والسلطة ونهجها وتفصيلها العملية السياسية على مقاس الفساد واستبداده..

إنني أشير على سبيل المثال لا الحصر إلى نماذج اجترار سلطة الطائفية من دويلات انقرضت تاريخيا ويعاد تخليقها كما بالنماذج العراقية اليمنية السورية وربما اللبنانية بجناح السطوة المكسور حاليا باختلاف تمظهرات النماذج المشار إليها فجميعها تفرض استبدادها بمثلث المال الفاسد والسلاح الموجه لصدور الناس والسلطة القمعية بادعاءات تمرير نهجها بالتخفي والتضليل وهنا لا مجال للتوجهات الإصلاحية الترقيعية ولابد من إحداث التغيير الكلي الشامل وإلا فإن المجتمعات مسطو عليها وعلى مقدراتها بصورة قهرية تفرض الضلال وتتملك المجتمع بالتجهيل وإشاعة منطق الخرافة بدل الاعتقاد والإيمان بمنطق سوي..

وأعود إلى الإشارة إلى أن قيم الحرية وامتلاك إرادة الانعتاق والاستقلالية تظل أس المجتمع الجديد الرافض لمنطق استبداد أي فئة مهما ادعت من قدسية وعصمة وسطوة بمرجعيتها الدينية المزعومة بينما هي مجرد إمعة تابعة لنموذج موجود بعواصم إقليمية كما حال طهران وأنقرة ونموذجيهما..

ولابد من التوكيد هنا على أن برامج التنوير ودمج مشروعات الثقافة وفكرها السياسي الديموقراطي المؤمن بالتعددية هي منطلق أول لإعداد حركة التغيير والتنوير للانتصار للإنسان ومنطق الحداثة وولوج العصر بدل أن يقبع في كهوف الظلام والظلم عبر منطق التخلف والخرافة..

وما لم نشرك المرأة والشبيبة بهذا المشروع وما لم ننشر فلسفة التنوير باتساع جماهيري وقدرات الجمهور على ممارسة العمل الجمعي بثقة ووحدة وفاعلية فإننا لن نغادر ما دخلناه بالتراجع الذي بني بالتدريج الممل وعلى مدى عقود طويلة…

ثقتي وطيدة بأن التعرف إلى برامج التغيير عند صياغتها بصورة متماسكة وكلية جوهرية ستأتي بالنتائج الإيجابية لكن هذا التوجه سيبقى بحاجة إلى كسر التابوات الخطيرة التي ساهمت أطراف مركبة داخلية وخارجية في رسمها وفرضها بالقوة وبالسلاح والعنف وقسوته المفرطة إنما نحن بحاجة لكسر تابوات البناء الريعي للاقتصاد وربطه بهذا الطرف الخارجي أو ذاك في وقت يجب أن تكون الثروة الوطنية مجهزة للاستثمار لا للاستهلاك والهدر بمختلف صور الفساد..

أجدد النداء لتشخيص تداعيات الاستبداد بمجتمعاتنا وعدم تحنيط التفكير بنماذج حصرية على أساس أن مغادرة طاغية فرد تعني انتهاء الاستبداد بينما الاستبداد يطيح يوميا بالتنويريات والتنويريين بلا رحمة وهو ما يجري عراقيا ليس بالضرورة بالتصفيات الجسدية فقط إنما بطرق ماكرة مخادعوة أخرى يلزم دراستها والتوقف عندها ولعل هذا بعض ما حاولت الإدلاء به في الطاولة المستديرة بهذا التسجيل…

حلقة الطاولة المستديرة: سيكولوجيا الاستبداد..لماذا يعيد الشرق الأوسط إنتاج جلاديه؟

https://www.youtube.com/watch?v=MgDysXKOaNQ

المقال ((5481650)) في موقعي الفرعي بالحوار المتمدن

***************************

********************يمكنكم التسجيل للحصول على ما يُنشر أولا بأول***********************

 

اضغط على الصورة للانتقال أيضاً إلى موقع ألواح سومرية معاصرة ومعالجاته

********************يمكنكم التسجيل للحصول على ما يُنشر أولا بأول***********************

تيسير عبدالجبار الآلوسي
https://www.facebook.com/alalousiarchive/              تيسير عبدالجبار الآلوسي

سجِّل صداقتك ومتابعتك الصفحة توكيداً لموقف نبيل في تبني أنسنة وجودنا وإعلاء صوت حركةالتنوير والتغيير

للوصول إلى كتابات تيسير الآلوسي في مواقع التواصل الاجتماعي

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *