دعوة للتصالح مع الذات.. دعوات للتسامح والتواصل والتفاهم والعطاء للآخر

قراءات في شؤون التحالف والتسامح وثقافة الحوار

وحشية وعنف دموي يحيق بأبناء وادي السلام والتسامح والعطاء، أهل بذل الغالي والنفيس للآخر كعهدنا بالعراقيين أحفاد سومر الحضارة التي بذلت وأعطت فأغنت واغتنت… ها نحن كلما قطعنا شوطا إلى الأمام في طريق الأمن والأمان والسلم والديموقراطية استشرست قوى دخيلة في غيِّها وفي انفلات عقالها وطغيان استبدادها وفي انفلاشية أنشطة التقتيل العشوائي والمخطَّط والتدمير على النطاقين الفردي المحدود والجمعي الكبير الشامل للجماعات والأحياء والضواحي والقرى.. فما إجابتنا وما رؤانا  ومعالجاتنا للأمر؟؟؟

إنَّ واقعنا العراقي الجديد بعد تحرر الشعب من ربقة عبودية الدكتاتورية وطغيان الفرد وحاشيته لا يتسم بالقدرة على المباشرة الفورية لإعادة إعمار الذات ولكنه يحمل بالتأكيد تلك الرغبة وذياك التفاعل المنتظر.. وعلينا أن نؤكد هذه الحقيقة في كون أبناء الشعب العراقي ظلوا في حال من التطلع إلى يوم الانعتاق من أجل المباشرة بحيواتهم وإعادة بنائها صحيا…

إنَّ العقدة الحقيقية لتلكؤ مسيرة عراقية صحيحة يكمن أولا في مشكل أمني بعيد الخطورة، وهذا المشكل يكمن في أمر يدركه أبناء حضارة تراث البشرية، في القانون، وفي تشكيل مؤسسات الدولة وضوابط تسيير أنشطتها. ومن الطبيعي أنْ يدرك العراقيون أنه لا دولة بلا قانون ولا دولة بلا احترام له وخضوع جدي صحيح لضوابطه؛ ولا دولة بلا عقد اتفاق جمعي مشترك يتقاسم فيه أبناء المجتمع العراقي وجودهم على أساس من حق الإنسان الفرد في الحياة الحرة الكريمة، وليس على أساس من إخضاعه لسلطات متشعبة كما تشكيلات ما قبل الدولة كسلطة الطائفة أو القبيلة أو الميليشيا أو الفئة السياسية أو ما شابه…

إنَّ عراقنا الجديد وجد نفسه في ظرف السنوات الثلاث الخالية في أزمة أكبر من خطيرة بسبب من [انفلاش] الأوضاع بطريقة لا حارس فيها لا للقانون ولا للأعراف ولا للقيم الجمعية المشتركة. فحتى القبيلة والطائفة اللتين يُدفع للاحتماء بهما وللتبعية لهما، لا سلطة لهما على مكوناتهما البشرية، إذ كل منهما يفتقد للسلطة بسبب من اندحار تشكيلاتهما في مجتمع كالمجتمع العراقي المعاصر… وليست بقايا تلك التشكيلتين إلا مجرد تصنيع مفتعل أو محاولات لاستيلادهما قيصريا في ظروف عالمية لم تعد تتقبل وجودهما في ظل منطق الدولة الحديث..

إذن، ماذا نريد في ظل هذه الأوضاع؟ وكيف نتجه للسيطرة على أوضاعنا؟ هل نقبل بما يتولد اليوم من روح فردي ونزعات مرَضية انعزالية بطريقة “الشعلينة لازم” و “نارهم تاكل حطبهم” أم أنه مطلوب منا جميعا تذكر أن النار التي تستعر اليوم في بيت الجيران ستأتي على بيتنا في الخطوة التالية.. وأن صمتنا عمّا يجري عند أخِ ِ أو صديق أو زميل سيقع معنا ولا من مستجيب لاستصراخنا لحظتها أو كما يقول المثل العربي القديم: لات ساعة مندم..

إنَّ تقطيع أوصال الوطن لا يكون من غير تقطيع أوصال الشعب.. والفعل الأخطر إذن يكمن في تمزيق وحدتنا الوطنية على مستوى مكونات الشعب.. ومن هنا كانت المقدمة الأولى للتصدي لمحاولات التفتيت والتقسيم أن نرتقي لمستوى مسؤولية العمل الاجتماعي العام من خلال تطوير مؤسسات دولتية ومؤسسات مجتمع مدني وطيدة تتحدى الشرذمة والتكوينات الطائفية..

وإذا كان لابد لنا من نشاط بالخصوص فهذا لا يأتي عبر مسار أعمال انفرادية بقدر ما يلزم معه توحيد المهام والصفوف.. بوضع أسبقيات وبرامج تخصّنا سويا.. وأول تلك المهام لا يكمن في التغني النظري بالوحدة الوطنية ومعالجة الأمور الأمنية وضبط الأوضاع ولكن يأتي بعيدا عن الغنائية المثالية الرومانسية في وسط معمان العمل والجهود المضنية الشاقة..

نحن بحاجة أولا أنْ نتجرع التعاطي مع أقسام سبق لها أن أخطأت بحقنا ومنها من ارتكب الجريمة أو الخطيئة! ونحن بحاجة لنتجرع السير معا لمرحلة انتقالية في ظروف ليس في أيدينا من بد سوى إشاعة حال من التسامح الذي يذهب بعيدا ليشمل قطاعات لم يكن العمل معها مقبولا في ظل ظروف مستقرة مغايرة لما نحن فيه..

لقد وُضِعنا في زاوية أو خانق لم يعد لدينا من خيارات كثيرة  ولا قليلة؛ ومن أجل ضبط الوضع العام نحن بحاجة لسياسة واضحة في لغة التسامح تصل حدّ التعاطي مع قوى كانت ليوم قريب تضرب فينا ألما وتجريحا..

ولنبدأ أولا من لغة القبول بمخلَّفات ما قبل الدولة من تشكيلات تمَّ تركها وسطنا من عشائرية وقبلية وفئوية وهذه ينبغي أن يتم تحييدها ووضعها في مسار إيجابي بدلا من التقاطع معها ومن ثم الاحتراب والتقاتل.. أما كيف؟ فالأمر يعني أن نقرَّ بكينونة أحزاب وتشكيلات ترفع سياسة أو برامج الدفاع عن هذه الطائفة أو تلك، وأن نتفاعل مع الظاهرة بطريقة فيها تبيان لأخطاء التشرذم والتشظي والتشطير من جهة وفيها كذلك قبول وإنْ كان حذرا وفيه كثير من الحيطة والنباهة لمجريات الأفعال والأنشطة الدائرة من تلك الأطراف اي أن تكون المرحلة الأولى ضبط حدود لوجود القوى المشار إليها هي شروط القانون واحترامه..

لماذا نحن بحاجة لهذه الثنائية؟ الإجابة تكمن في التفاف سلبي لقسم من أبناء الشعب حول تلك البرامج بطريقة تضليلية ما يعني حاجتنا لصبر أعمق في التعاطي مع الظاهرة لتوضيح الأمور وفضح الخطايا الجارية فضلا عن تبيان البرامج الموضوعية المناسبة البديلة.. وسيكون لمثل هذه المسيرة أن تقبل فقدانا لجمهور بعينه يرى في لغة القوة وسلطة العنف وسيلة لمكافحة الطائفية والقبلية والأنشطة المتشظية عنهما..

لقد عانت أقسام واسعة من فئات شعبنا من عملية تجهيل بمعطيات العصر وقوانينه وجرى تغييب العقل كثيرا بمنعه وحضر أي نشاط فكري لأبناء شعبنا وبقي المواطن العراقي سليب الإرادة بالكامل طوال عقود تربى فيها في ظل الضيم والألم والحجر السياسي والفكري ما أفقره إلى ممارسات العمل واتخاذ القرار بموضوعية ودقة..

ونظرا لظاهر العزل بين الشعب وقواه الوطنية فإن الوضع يتطلب مزيدا من الجهد للتعريف بتلك القوى وبمساراتها وبرامجها حيث تعمل القوى الديموقراطية واليسارية بخاصة في أجواء رديئة مريضة من جهة توظيف لغة الاحتراب والدم والتقاتل اليوم وهي اللغة التي صيغت ومورست بالأمس ضدهم كما يجري الفتك بكل شعلة أو ومضة ضياء بحجج وذرائع وأقنعة لها جذورها حيث النظم الاستغلالية السابقة وليس لها منتهى بغير مزيد من الوقت والجهد لكشف الحقائق والتعريف بمصداقية بالقوى الوطنية الحقيقية…

إنَّ طبيعة الأجواء المحيطة والتوازنات القائمة تفرض على القوى الوطنية كافة بكل تنوعاتها أنْ تتجه إلى لغة السلم والديموقراطية والتفاعل فيما بينها على قاعدة التسامح والتصالح وإلا فليس من نهاية جدية حقيقية تلوح في الأفق للعراقيين..

وكل أولئك الذين يرون أنهم يستطيعون حسم الأمور إلى جانبهم سيجدون مزيدا من الخسائر وهي ليست أقل من مزيد من الدماء هدرا بسبب سطوة لغة الاقتتال والاندفاع الأهوج الذي لا يحتكم لمنطق عقلي.. وإذا كان صحيحا أن نستبعد قوى الجريمة المافيوية وأن نحاصرهم بلغة القانون وقوته وسلطته فإنه من الصائب تماما أن نتذكر عملية فرز جدية بين القوى ذات الوجود الجماهيري وتلك التي ليس لها وجود بغير الرصاصة التي تملكها..

وطبعا سيتعين علينا أن نؤكد سعيا جديا مسؤولا لاتخاذ قرارنا في الاتجاه الصحيح خضوعا لمطالب فئات شعبية واسعة من جهة وستجابة فورية لحقن الدماء المهدورة وليس لدينا القدرات لا المحلية ولا المساندة لضبط الوضع ..

بما يعني أنه ليس بغير لغة التسامح والتصالح مع الذات الوطنية المصابة بأمراض زمن أهوج أرعن كزمن الدكتاتورية ومخلفاته وهي قراءة لا تحتاج لعالم اجتماع أو عالم نفس بقدر ما تحتاج لنظرة موضوعية هادئة.. فالذين يقتتلون اليوم كثير منهم من أبناء شعبنا العراقي  وليكن شعارنا الأول العراقي أولا فنعزل القوى الدخيلة ولا نترك لها فرصة سانحة لوجستيا للتمركز والضرب فينا..

علينا أن نعترف أولا بأمراضنا التي لحقت بذاتنا الوطنية أي بفئات شعبنا في ظروف الاستلاب والاستغلال السابقة وفي ظروف الاختلال اللاحقة نتيجة عدم ارتقاء قيادات السنوات الثلاث المنصرمة لمستوى الوضع وتداعياته لظروف معقدة ومبررة أحيانا..

ومن هذا الاعتراف سيكون علينا السير بحذر وسط الألغام والاحتكاكات والتفاعلات السلبية ولكنها المحاصرة بقرارنا الوطني وبمرجعيتنا الوطنية وقوانينها.. أما ما يرافق الأمر فمزيد من ضبط سلطة القانون بقرارات ستراتيجية على مستوى الدفاع والداخلية بتوحيد جهودهما وتطهيرهما  ومنع إدخال مجموعات متكتلة إليهما و إعادة غربلتهما على مستوى التكوين والتوزيع والبرامج وبالمقابل حلّ فعلي لميليشيات الأحزاب مع النظر لكل حالة بخصوصيتها وطبيعة الحل المناسب.. وتحويل عناصر تلك الميليشيات إلى أعمال مدنية مناسبة بإعادة التأهيل..

التزامن مع هذا الأمر يجب رعاية كل عراقي فورا بالكامل بتأمين معيشته الضرورية على وفق أعلى مستوى إنساني من سكن وصحة وتعليم وأمور خدمية عامة من كهرباء وماء وغيرهما.. والإعلان عن بدء حملة إعادة الإعمار بتوفير الضمانات المحلية والدولية بالخصوص وعلى وفق خطة تشغيل اليد العاملة العراقية وتأهيلها المناسب ..

بهذه اللغة الشاملة سنجد عراقنا الجديد المبني على أسس وطنية سلمية ديموقراطية فديرالية وليس التأسيس والانطلاق إلا من الانتهاء الفوري من تشكيل الحكومة وإطلاق مبادرة العمل الوطني المشترك أو التسامح والمصالحة والمباشرة الفورية في أداء نوعي مختلف عن مرحلة حكومات العبث بمصير العراقيين وتعميق الأزمة ومفاقمتها كما جرى يوم لم تلتفت القوى الداخلة في  تشكيلات السنوات المنصرمة إلا إلى حصتها الحزبية من نهب ثروات البلاد والعباد…

ولنقل سويا ومعا كفى لأخطاء الماضي وخطاياه وجرائمه ولنبدأ برزح التسامح والتصالح وإلا فإنه ليس إلا ومضة وننتهي من لمتنا وجمعتنا وهويتنا ووجودنا لا المشترك حسب بل حتى ذلك الذي يظن بعضهم أنهم حاصدوه من تشظية وشرذمة الوضع.. وحتى الذي سرق لن ينعم بما نهب .. فلماذا لا نوقف الجريمة بحق الذات الوطنية العراقية..

ألا نستفيد من تجاريب الحروب الأهلية والاقتتالات والأزمات التي لا تنتهي إلا بالسلم والاتفاق ولكن بعد جرائم ضحيتها الذات عندما ننظر إلى أنفسنا من جديد دوما فلن ننتهي إلا باضمحلالنا قتلا ببعضنا بعضا أو بوقفنا معا وسيا الجريمة.. ولأبناء شعبنا الخيار..

إنني هنا أخاطب كل فلاح خبير بأن الأرض لا نحصد منها إلا ما نزرعه وأخاطب كل عامل خبير بأن آلة انتاج الخيرات لا تُدار إلا بطاقة العمل الجمعي المشترك وإلى كل شيخ وحكمته ورشاده وإلى كل امرأة وحيوية إنجابها الحرية والسلم والديموقراطية وإلى كل إنسان بسيط لا يرى في وجوده في أمسه إلا هامشا مفروضا علي قسرا وعليه اليوم  واجب أن يمضي مشاركا في اتخاذ قرار أن يعرف زمننا من هم العراقيون كيف يكون وجودهم حضاريا كبيرا وعقلا مميزا رزينا ورشيدا وسديدا.. فهل من مجيب يوسِّع من دعوتي هذه؟؟ أكيدة ثقتي بالإيجاب وبأعظم مما تراه العين…

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *