الثقافة العراقية بين الأمس والغد: مسيرة التعددية وغنى التنوع واحترام الآخر؟

يعرّفون الثقافة بمجموع الأعراف والتقاليد والقيم السلوكية الأخلاقية والمعارف والخبرات ومحددات السير بمنطق عقلي مؤنسن… وتمتزج كل هذه المكونات التي تشكل تعريف الثقافة لِتـُوجـِد نهرا قد يجري طويلا وبامتداد تاريخي عريق بالقدر الذي يعكس حجمه جغرافيا أقصد في مدى منتجه المحسوس إنسانيا حيث جغرافيا الوجود البشري المخصوص…

من هنا يمكننا وضع اتفاق تام مع تلك المقولة التي سجلت انتصار الثقافة العراقية القديمة (السومرية) على كل مَن دخل ميدانها المادي (العراق) القديم الذي أعلى وجود أول شكل للتنظيم البشري المتحضر المتمدن ممثلا بدولة المدينة وتطوراتها التالية المعروفة…

وطبعا ترتَّب على ذلك وجود المؤسسات المجتمعية للدولة حيث المعلم والقاضي والإداري وحيث ظهور المكتبة والفصل المدرسي أو المدرسة والقوانين والأنظمة الضابطة لأنشطة الناس وتفاعلاتهم.. وصب إبداعاتهم المعرفية والسلوكية الأدائية في بوتقة مجتمع سومر الإنساني معين الهوية المعرفية الثقافية المتفتحة المعطاء…

ولأن تلك الثقافة تشكلت على أسس إنسانية صحيحة ورسَّخت طابعها التوليدي التطوري بسبب من صفاء الصلة مع الجذور الأولى التي عُنِيت بالإنسان هدفا ووسيلة فقد ظلت منتصرة في أدائها جاذبة للآخر مقنعة له بالتعاطي معها إيجابيا وتبني مفرداتها وهضم آليات عملها…

ولقد جاءت نتائج هذا باندماج الداخلين على المجتمع السومري المستقل الهوية في وجوده والتفاعل معه بآلية استخدام خطابه لغة ومضمونا فبقيت السومرية لألف عام تالية لغة الحياة على الرغم من  دخول السلالات الجزرية (السامية في الهجرات الأولى) على العراق وقيام بابل الحضارة ممتاحة من عراقة سومر وشخصيتها الحضارية المميزة…

وبالتأكيد كان لهذا أهميته في توطيد الشخصية العراقية القديمة التي دامت لآلاف من السنوات والأعوام، مدنية شامخة معطاء بثقافتها بكل ما فيها من معارف وتقاليد أكـَّدت معاني المنطق العقلي المتفتح في إشادة الحضارة الإنسانية بأسسها الصائبة المتينة.. تلكم حضارتنا في بابل وأكد وآشور…

وعلى الرغم من هزيمة عسكرية أودت بتلك الحضارة الشامخة لانكسار مؤقت بوجود الاحتلال من بلاد فارس إلا أن امتدادا جزريا مُعتادا (عربي هذه المرة) لأرض الرافدين أعطى فرصة أخرى ومرة جديدة لتقول الثقافة العراقية: إنها لا تنكسر وأنها المنتصرة بمنطق ثقافتها القويم الصحيح..

فوجدنا مذاهب معرفية شتى تتحدث في الفلسفة الجديدة وفي إنشاء بيت الحكمة والجامعة المستنصرية وبقيام أشكال إبداعية في الأدب والفن ما كانت لتقبل التقليد الآلي البحت في التعاطي مع اللغة العربية وثروتها الغنية المتمكنة ولكنها التي امتاحت من الاستيلاد العراقي الوسيط بكل غناه الثقافي وتقاليده التنويرية المتفتحة بمنطقها الذي لاقى تفتحا معطاء من خطاب غني في مجالات الآداب والمعارف والقيم الإنسانية…

وتدور الدوائر برحلة قرون معتمة من الاحتلال الأجنبي [من فارسي وعثماني] في نهاياته لتولد الدولة العراقية الحديثة ليس من تجميع شتات ممزق بل من نسيج متعاضد متفاعل من التنوع والتعدد في الوجود الواحد للعراقيين مذ كانوا في العراقين القديم (السومري) والوسيط (العربي الإسلامي) وحتى قيام العراقالحديث المعاصر بهذه التركيبة من الأطياف القومية والدينية المتفاعلة في قيمها ومفردات ثقافتها العامة…

لقد أثبت العراقيون عبر عقود وجود مجتمعهم في بوتقة الدولة المعاصرة  أنهم نسيج موحَّد لا يقبل التقسيم وأنهم نسيج متعدد غني بتنوعه لا يقبل إلغاء طيف فيه أو محوه من مشهده بل ليس العراق بهويته الحقة إلا خلاصة هذه المكونات ونتاجاتها بقواسمها المشتركة وتحديدا ثقافته الوطنية الواحدة…

ويمكننا الإشارة إلى كل تلك الدراسات المنصفة التي تتحدث عن الشخصية العراقية بما فيها من منطق عقلي متفتح متنور محب للمعرفة حتى أننا لا نجد عائلة ولو كانت في مجاهل القرى والأرياف إلا وتبعث بناتها وأبنائها إلى مدارس التعليم والتفقه وكسب العلوم وهو وعي ثقافي متقدم…

ومن الطبيعي لمجتمع محب للعلم ونوره ألا يكتفي بإرسال أبنائه للدرس والتحصيل العلمي بل من هويته أنه منتج الشعر والأدب والفن، ومع كل هذه كانت قيم تقديس المعرفة وصلت لحظر اجتماعي على أيّ مساس بنزاهة التعليم ومكانة المعلم وحكمت على الخارجين على هذا بأقصى العقوبات الاجتماعية والقانونية…

وعلى الرغم من القمع والتجهيل في مرحلة بعينها فقد ساد لتلك المرحلة الانتاج الفطري الشعبي سواء منه اللهجي الشفاهي غير المدون أو التشكيلي الفطري غير الأكاديمي الموثق… وسادت قيم إيجابية عليا للتحضر والتمدن كالتسامح وثقافة التعايش السلمي بين الأطياف المختلفة وثقافة احترام الآخر والاعتزاز باستقلاليته على الرغم من محاولات شق الصفوف واختلاق الاحتراب واختراق وحدة النسيج.. كما وُلِدت التشكيلات التنظيمية المحدثة مباشرة مع ولادة الدولة العراقية لتكون دليلا آخر على مصداق شموخ الثقافة العراقية وجذورها وعلو متونها وقيمها المعرفية..

لقد كان وجود الحركات الأدبية والفنية والنقابية والاتحادات والمنظمات الاجتماعية والسياسية مؤشر رقي الوعي الشعبي وتقدمه لمستويات التعاطي مع الدولة المعاصرة… ويمكننا التأشير على ولادة قصيدة التفعيلة على سبيل المثال كقضية أيديولوجية مهمة متقدمة  قبل أن تكون قضية فنية أدبية محددة في مجال التجديد والتحديث الشعري…

ومن هنا كانت المعركة الجديدة في ظل التطورات المعاصرة في تركيز القوى الدخيلة على عراق الحداثة تكمن في قمع أجهزة التعليم وتخريب هذه الأجهزة العلمية سواء منها المدرسية والجامعية أم الممثلة بالمكتبة والاتصال المعرفي وأبعد من ذلك خيضت معارك مهمة وكبيرة وبطرائق مختلفة ضد الحركة الفنية والمسرحية تحديدا بمحاولات دفع المسرح إلى جدران الكابريهات ولطخ التشويهات به [مطلع القرن الماضي ومنتصفه] أو محاولة إفراغه من محتواه ومهامه حوالي نهاية القرن الماضي وتحديدا في ثمانيناته (وطبعا لم تنجح المحاولات إياها).. وظلت أعمال التخريب في الوعي الشعبي من جهة محاولات العبث به؛ فتارة باختلاق التندر والتنكيت الذي يذكي السخرية من أطياف عراقية أو أية فقرات تحاول تهشيم جسور العلائق بين مكونات الشعب وضرب خطاب التسامح وسمات الإيجاب بين الشعب وأطيافه ومكوناته.. وهو عبث على مستوى الثقافة تحديدا..

إنَّ من بين أخطر ما قامت به القوى المعادية للشخصية الإنسانية المتفتحة في الهوية العراقية ومنطقها العقلي المتفتح هي مسألة تخريب ذهنية العمل المؤسساتي وتعزيز قيم الفعل الفردي العزلوي التقسيمي وتفعيل دور الشللية المرضية بدل الحركات الفكرية والأدبية السليمة…

وكان للمحاولات العدائية تلك نصيبها من تسيّد المشهد بفعل إفراغ مؤسسات الدولة والمجتمع من قيمها الإيجابية الحقة وتجييرها لمؤسسات حراسة وخدمة للنظام القمعي الذي طارد كل ما هو ثقافي ومعرفي وعقلي إنساني الجوهر…

ولو درس الباحثون سلسلة الجريمة المنظمة لإرهاب الدولة وسلطتها القمعية في السنوات الثلاثين الأخيرة ومحاولات قوى الاختراق في السنوات الخمس الأخيرة لوجدوا أن أبرز حلقة كانت تكمن في إرهاب العقل العراقي واستهدافه أولا من بين جميع الجرائم الأخرى وأولوياتها…

لقد تمَّ تهجير قسري لخيرة النخب العراقية في السبعينات من أجهزة التعليم والثقافة العراقية وقد سبق للنظام محاولاته تجريم وتحريم وجود أي معلم أو أستاذ في المدارس والجامعات لا يخضع لتوجيهه ومنع وحظر اتحادات الطلبة التي ثارت على نهجه وخرجت على سياساته ومنع صدور أي منتج شعري أو أدبي أو إدخاله من الخارج ومنع صدور الصحف غير تلك التي تخضع لرؤيته التخريبية الرخيصة وطبعا تابع عبر أجهزة رقابته كل مكتبة عامة وخاصة وحتى كل مكتبة بيتية كان  يتعرض أصحابها للاعتقال لوجود كتاب محظور فيها.. ومنع الأفلام والمسرحيات وفنون الموسيقا والغناء الشعبية وسطا على كل ناحية يمكنها أن تعبر عن ثقافة إنسانية سليمة فجيـَّر النقابات والاتحادات لوجوده…

ماذا تبقـَّى للشعب بعد ذلك وكيف خرجنا من تلك المعركة؟ الإجابة ستوحي بتوصيف حاضرنا الثقافي ومستقبلنا أيضا… إننا اليوم في حال من أزمات جدية بمقابل مشهد دموي تصفوي قمعي من الإرهاب المنظم والانفلاتات الأمنية السائدة..

ولا تعايش بين فقدان الاستقرار وبين الثقافة.. ولا تعايش بين حياة العزلة والفردنة وبين الثقافة… ولا تعايش بين الثقافة وبين تردي التنظيمات الخاصة بها من نقابات وروابط واتحادات ومن تجمعات فنية وأدبية ومعرفية ومن مؤسسات أكاديمية ومعاهد علمية..

ومشكلتنا الأولى اليوم هي في آلية بناء المؤسسة الصحيحة تعليميا (ولا ينحصر هذا في المدرسة والجامعة فقط) وإعادة الثروة الوطنية من مكتبة مدمرة محروقة مبادة ومن معالم فنية وآثار وإحياء حركة جدية فاعلة لتمكين الشعب من تراثه وثروته الغنية بعيدا عن التسطيح القائم على الطقسية الدينية البحتة والإيقونية التقديسية الجامدة والانتقال من منطق التفكير الأسطوري المرضي المستلِب لمنطق التفكير العقلي العلمي…

إنَّ استمرار تداعيات التفريغ والتسطيح واستمرار العبث بحركة الثقافة واختراقها وتجييرها ومحاصرتها واستلابها الحرية الحقيقية للفعل والانتاج، لأمر من الخطورة بمكان؛ يظل يهدد لا حاضرنا المباشر بل ومستقبلنا القريب والبعيد..

كما أن بقاء حال الشرذمة وانقسام حركة الثقافة وتشظيها في تجمعات عليلة أو شلل مرضية بديلا للروابط الفاعلة هو الآخر سيمثل ضربة في مقتل من وجودنا العراقي الصميم…

وسيأتي يوم يتحدث فيه أناس عن وجود تاريخي لنا وانمحاق معاصر لغدنا حتى لا يكون لنا من وجود إلا مسمى في كتب التاريخ، وما لجيلنا أن يكون ممثلا لمرحلة القطع بين نهر التاريخ القديم والوسيط والمعاصر وبين الغد القادم لأنه جيل يعي ما يدور حوله ولكن عليه ألا يكتفي بوعي الظاهرة وقراءتها أو تفسيرها بل ينبغي ويجب أن يتصدى للتغيير والفعل الحق…

إنَّ أنشطة رائعة ومهمة تجري على المستوى الفردي والتراكم العام يتجه إيجابيا؛ وما تبقى سوى تحويل هذا التراكم الكمي المتعدد المتنوع إلى حصيلة نوعية موحدة تُعلي من شأن حركة الثقافة العراقية مؤسساتيا وجمعيا مؤثرين بذلك على خط السير العام للمجتمع ولتقاليده..

ومقاييسنا هنا تتعدد فمثلا سطوة التفكير الأسطوري ومنطقه أو الديني الطقسي السطحي يعني أن حركة الثقافة ما زالت أضعف من التأثير والتقدم على السياسي القمعي ودوره في توجيه ذهن المجتمع في غالبيته.. والثقافة لا ينبغي أن تنتظر القرار السياسي وإن كانت تتبادل التأثير معه..

علينا أن نعرف مدخلات القرار المنتظر وآلية تحقيقه وكسبه كيما نسطيع تعزيز قدرات حركة الثقافة من أول الطريق ممثلا في الفعاليات الأولية الابتدائية وحتى كبريات الأمور فيه من إقامة مهرجان واحتفالية وكرنفال شعبي وحتى التجمعات الأدبية والشعرية والفنية وما يوسع من اتصال المنتج الثقافي بالمواطن العراقي ويمنحه فرصته في غذاء الروح…

ولعلي هنا أود التوكيد على جملة أمور مفقطة اختزالا وتمهيدا للدارس والباحث في الشأن الثقافي العراقي ولاحتمالات المناقشة والحوار الأوسع في هذا الميدان المهم والحيوي:

  1. فأولا لابد من معالجة الخروقات في تولي مسؤوليات الثقافة في مؤسسات الدولة من شخوص كثيرا ما كانوا بلا كفاءة أو بلا قناعة إيجابية بالجوهر الإنساني التنةويري للثقافة أو حتى كونهم في حقيقة وجودهم دخلاء بقصد التخريب المتعمد…
  2. تفعيل وجود الروابط والاتحادات وتنسيق العلائق فيما بينها وتطهيرها من أمراض الفردنة والشللية ودعم تلك المؤسسات الجمعية تنظيميا وماديا بما يتيح فرص الأداء الأنجع والنظر للمتاح وعدم الركون للسكون واليأس من حال المراوحة والتراجع أحيانا..
  3. إيجاد المسابقات والمنافسات والجوائز التشجيعية الوطنية والمحلية على مستوى الانتاج بإطار هويات الطيف العراقي من المنتج في لغات حية كالكوردية والسريانية والتركمانية وغيرها…
  4. العناية بثقافة تعددية وخطاباتها وتعزيز مساحة الدعم لمؤسسات الثقافة المحلية في المحافظات والأقاليم العراقية وكذلك تحديدا في اللغات العراقية المتعددة في إطار خصوصيات الهوية للمجموعات القومية والدينية كافة وبلا استثناءات أو تهميش أو تجيير ومتاجرة فارغة.. واعتقاد مؤتمرات بحثية دورية بالخصوص…
  5. تحديث مؤسسة التعليم الأولي والعالي وإدخال أنماط التعليم الأحدث من مثل التعليم الألكتروني ومن الطبيعي الإشارة لإشكالية المناهج والخطاب التنويري ومنع تشويه خطاب التعليم بتسييسه أو بغير ذلك من تدخلات مرضية…
  6. تحديث المكتبة واستعادة مكانتها وإدخال التكنولوجيا الأحدث والاتصال الأهم مع مثيلاتها عالميا… مثل مشروع المكتية الوطنية الذي يضم المعارف منذ سومر الحضارة ومرورا بدار الحكمة البغدادية وحتى آخر عمل مكتبي متخصص عالميا مما نأمل أن يتاح لنا وضعه بين أيدي جمهور المعرفة والخبرة والثقافة…
  7. عناية بمستوى نوعي جديد بالتراث وبالآثار واستحداث استراتيجيات في إطار شامل للثقافة العراقية، على أن قضية الآثار المنهوبة تبقى قضية جوهرية ويبقى أيضا أمر إحياء المواقع الأثرية منعتقا من النواهي والمحظورات الطارئة وغير الموضوعية كما هو الحال مع العوامل الدينية والمواقف المسبقة فيها…
  8. التنسيق مع المنظمات الدولية والإقليمية المختصة بالتربية والثقافة والآداب والفنون وتوظيفها في حملات وطنية واسعة ومهمة…
  9. مفاعلة جهدنا بالآخر عبر مهرجانات محلية ومشاركات إقليمية ودولية…
  10. العناية بثقافة عراقية مهجرية وبمؤسساتها وربطها بالمنتج المحلي الوطني وعدم التخلي عن منظمات الثقافة وجمعياتها وتجمعات الإبداع أينما كانت ومن دون مسبقات وشروط بيروقراطية أو حكومية أو أجندات حزبية أو فئوية تمثل عارضا مانعا للعناية المؤملة…
  11. تفعيل أدوار الفضائيات ووسائل الإعلام وتعزيز القدرات الانتاجية والاتجاه للتلفزة والسينما في مشروعات عملية لانتاج إبداعي ثقافي بدل التصريحات والكلام الذي لا يغني ولا يسمن….

وخلاصة الإجابة عن تساؤلنا: هل للثقافة مستقبل في وطن المجد الثقافي السومري؟ تشير إلى أننا بقدر وجود ثوابت استراتيجية وخطط موضوعية دقيقة وبقدر ظهور ثقافة التنوير والتسامح واحترام الآخر والغنى في توطيد التعددية والتنوع يكون لنا القدر ذاته من النجاح والتوفيق وكسب المستقبل بروح إيجابي بناء أنقى وأفضل… وللهمِّ الثقافي بقية مناقشة وحوار بالتأكيد بحسب التعليقات الواردة والتفاعلات مع أصواتكم الحية المعطاء…

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *