حكومةُ وحدةٍ وطنيةٍ تغادرُ فلسفةَ تقسيمِ العراق غنيمةً!

شرعت مؤسسات الدولة البحث في استكمال واجباتها ما بعد الانتخابات؛ بتعيين الرئاسات الثلاث وتكليف الشخصيات المحددة بمهامهم على وفق خطاب تعارفت عليه العملية السياسية طوال المدة المنصرمة. كان أبرز سماته السابقة هي المحاصصة الطائفية بخطاب تقسيم الغنيمة! وفي ضوء التكليف بمهمة رئاسة مجلس الوزراء التي اكتنفتها مشاهد معروفة، لا توافر فرصة لأن يتعلق طرفٌ واعٍ بآمال وهمية في تغيير نوعي بعيد، يمكنه حسم الأوضاع برمتها؛ ولكن فكرة إمكان حصول تغيير نسبي أو جزئي تبقى قائمة سواء جاءت من داخل الحراك الحزبي المعني بالتكليف أم من خارجه…

ولابد من القول هنا: إنَّ فكرة تغيير المكلَّف بالمهمة لم تأتِ بسهولة بل جاءت بعد تجاذبات معقدة كان للصوت الشعبي ولدور ممثليه في التحالف المدني أثره الطيب في التغيير ولو النسبي. لكننا يجب أن ندرك قيمة هذا التغيير بين شخصية وأخرى رفضت حتى اللحظات الأخيرة القبول بالأمر. إذ يمكننا التأكيد على انتصار قوى الديموقراطية على فرض (مبدأ التداولية) بوصفها ركناً مهماً بين أركان أو آليات الديموقراطية..

وبحصول هذا الحدث، تمكنا من دفع الاحتمال الأولي لولادة دكتاتور أو طاغية جديد بعيدا عن التحقق على حساب إرادة الشعب وخياراته. وشرعنا بالتوجه لخطوات تالية في جهود الديموقراطيين.. طبعاً ومرة أخرى، من دون توهم أنّ هذا التغيير المبدئي يمكنه أن يأتي بالمستحيلات أو المعجزات…

وإذا كان التغيير قد جاء في ضوء سلسلة من الاختناقات والخسائر بل الهزائم المرّة لاخفاق خطير في إدارة الدولة وملفاتها المحورية، فإنّهُ ينبغي متابعة فرض الخطوات التالية في ضوء برامج مرسومة موضوعيا.. ولعل العناصر والشخصيات الواعية في قيادات منظمات المجتمع المدني أدركت هذه الحقيقة الأمر الذي جعلها تطلق حملتها في توقيت مرسوم للدعوة إلى وزارات بلا محاصصة.

وصحيح أنها حملة تقتصر على أربع وزارات إلا أنها تحددت بهذا من دون التخلي عن الهدف الاستراتيجي الأبعد في حكومة وطنية عراقية بلا محاصصة. إذ لا يتوهم الناشطون فرص تحقيق طفرات تحرق المراحل وهو ما دفعهم للعمل الإصلاحي التكتيكي ممثلا بهذي الحملة من دون إغفال تمسكهم بالتغيير الجوهري النوعي  أو إهماله.

ولابد هنا من التوكيد على أن الحملة الشعبية لـ(وزارات بلا محاصصة) تريد توكيد ثقافة قانونية تؤكد أنّ السمو الدستوري هو لصوت الشعب وأنّ الشعب لم يضع صوته في صندوق الانتخاب ليحبسه هناك أسير ما أفرزه أو من استغل نتائجه باتجاه يجافي تطلعاته بل هو يتابع خياراته بالتعبير عن نفسه بكل الوسائل المتاحة دستوريا ومنها صيغة الحملات الشعبية الضاغطة…

ولابد من التوكيد أيضا على أنّ حملة وزارات بلا محاصصة لا تتقصد الاحتجاج السلبي ووضع العصي بوجه سرعة تشكيل الحكومة ولكنها تشكل عامل دعم إيجابي عبر وضعها وثيقة مهمة وكبيرة بيد المكلفين المعنيين من جميع الأطراف بتوكيد حجم الصوت الشعبي عندما تتم مناقشة التركيبة حيث تمثل الوثيقة الموقعة من مئات آلاف العراقيات والعراقيين قوة مساعدة لتنزيه التركيبة والتوجه نحو تبني وزارات بعينها بلا فلسفة تقسيم الغنيمة…

وإذا كانت هذه الوثيقة قوة بيد المكلف فإنها قوة أخرى في الوسط الشعبي كونها تدريب على ممارسة نهج وآلية من آليات الديموقراطية وتعزيز ثقافة قانونية سامية ونبيلة. كما أنها فرصة لكسر آلية كون تشكيل الحكومة أسيرة سجالات تجري خلف الكواليس ليكون صوت الشعب وحراكه حاضراً بقوة فعلية خارج حتى أنشطة الأحزاب وحراكها المخصوص…

وللضرورة نشير إلى أن ما جابه العراق من أزمات كشفته كل العلامات كونه يعود لسلطة الطائفية وتكريسها، الأمر الذي يتطلب أمام مشهد البلاد المنكوبة أن يُترك ويتم التخلص منه عاجلا بل بهذه الحكومة التي تتشكل اليوم.. فإن أعادت فلسفة تشكيلها السابقة وآلياتها أجهزت على أي شكل لوجود العراق دولةً كما كانت ولادتها في العصرين القديم والحديث، وإنْ غادرت تلك الآليات دفعت باتجاه تجاوز  الأزمات الطاحنة التي وقعت بها الدولة ووضعت أول الخطوات للتغيير المنشود…

إن القوى الشعبية تتطلع إلى نتائج ملموسة في تشكيلة كابينة مختلفة بفضل ردود فعل داخل الحركات المعنية التي كُشفت سياساتها السابقة سلبيا بأعين الشعب ويُحتمل أن تحاول التغيير بنهجها ولو جزئيا نسبيا وهو التغيير الذي يقع أيضا بسبب الضغط الوطني بعامة والضغطين الإقليمي والدولي. وربما يأتي بفضل اختلاف ما عند الشخصية المكلفة ما ستثبته الأيام القابلة في الأداء الفعلي…

إذن، جزء من التغيير قد يعود لإصلاحات ولو طفيفة في الجهة المكلفة. لكن الجزء الآخر يقوم على أدوار فاعلة للآخرين من جهة تطوير أدائهم وتنقيح برامجهم.. على أن تعميق فرص التغيير أو الإصلاح تأتي من درجة استيعاب الآخر وحجم ما يمكن أن يؤخذ منه في ضوء هويته وطابعه وحدود تفاعله مع برامج غنية مُتطلَّع إليها…

وبهذا الشأن نذكر بدعم التحالف المدني الديموقراطي لعملية تشكيل الحكومة على الرغم من وقوفه بعيدا خارجها بوصفه قوة معارضة لا تقبل الدخول في آلية المحاصصة.. إنما فكرة وزارات بلا محاصصة ستبقى منفذا لقوى وطنية ديموقراطية بفلسفتها وباستقلالية جهدها واعتمادها منطق التخصص والكفاءة والنزاهة في التكليف ما يعني إمكان دخول شخصيات تكنوقراط معنية بإدارة وزارات جد مهمة وتجسد شريانا حيويا كوزارات التربية والتعليم العالي والثقافة والرياضة والشباب…

وهذه القضية لن تقف عند هذه المفردة، من الجهد في تشكيل الحكومة لأنها تجابه أمرا نوعيا يتعلق بقضية تهميش الآخر وإقصائه وبالانفراد بالسلطة وسحب الصلاحيات من الآخرين؛ ما يتطلب قبل مؤتمر وطني للمصالحة جملة إجراءات بل إطلاق برامج وخطوات بأسقف زمنية منها ما يتعلق بجوهر الأزمة وما تسبب بها…

هكذا سيتمضي السفينة، سفينة تشكيل الكابينة الاتحادية الجديدة بخطى ثابتة مكينة ثابتة لا اهتزاز فيها أو أقرب إلى  برامج معالجة الجراحات الفاغرة حتى تندمل.

وبناء على ما تقدم فإن تأليف الحكومة يبقى منفتحا على الشعب وخياراته وعلى مختلف القوى التي يجب أن تتحمل مسؤولياتها سواء اختارت البقاء في المعارضة أم الدخول بالحكومة وهي مسؤوليات تستمد فرص معالجاتها من صوت شعبي هادر منذ تظاهرات 2011 ومطالبها ومرورا بكل التضحيات الباهضة التي دفع العراقيون ضرائبها من دمائهم..

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *