دروس تكريت: الانضباط الأمني وحقوق الناس والبديل الوطني

لابد من التوكيد على حال الإجماع الوطني العراقي بشأن أولوية استعادة سلطة الدولة في المحافظات التي استباحتها قوى الإرهاب وقطعانه الإجرامية في ظروف انهيار مؤسساتها وانسحاب قواتها و\أو تفككها وانحلالها لأسباب باتت معروفة. ولابد من التوكيد أيضا على سلامة إسناد القوات المسلحة والأمنية في تلبية ذاك الواجب الوطني، بمشاركة المتطوعين المؤمنين بقضايا الوطن والناس، وواجباتهم تجاه حماية الحقوق والدفاع عنها؛ ولطالما كانت دروس الشعوب كبيرة بهذه الميادين.

وفي مسيرة الانعتاق من سطوة الإرهاب شرعت الدولة العراقية بجهدها من بوابتي ديالى وتكريت. وقد آلم العراقيين تلك الأفعال الانتقامية [بأسسها الطائفية] في ديالى.. ولكنهم عدُّوها جرائم فرديةً ناجمةً عن خروقٍ استثنائية يمكن السيطرة عليها. وغلَّبوا المهمة الرئيسة على تلك المجريات على أن يجري متابعة حل نتائجها وإفرازاتها بروح وطني مسؤول. ولكن، مع التقدم إلى تكريت حيث تمثيلها لأكبر بوابة في استعادة سلطة الدولة، كانت التحذيرات تتقدم مع الحراك في أجواء تعالي صيحات طائفية مشحونة بالتوتر وبالروح الثأري الانتقامي من أطراف لها مصلحتها في إثارة مثل تلك الصيحات وأخرى تتجسد بعناصر متوترة مشحونة مسبقاً في هذه الأجواء الموبوءة طائفياً..

وعلى الرغم من محاولات جدية حثيثة لكبح جماح تلك العناصر، فإنّ مشكلات غير هيّنة قد طفت على السطح. إذ أكدت (قوى ميليشياوية) على أنها هي من يجب أن يبقى مستقل الفعل بدل وضع طاقاتها بقيادة الجيش الوطني العراقي! كما رفضت التقدم على وفق الخطة العسكرية مشترطة أن يكون الغطاء الجوي لغير قوات التحالف الدولي!؟ وبعد عقبات كأداء من طرف (قيادات ميليشياوية) استطاع الجيش وبعض من سانده من استعادة تكريت وتطهيرها من مجرمي الدواعش من مرتزقة الإرهاب الدولي ومافياته..

وبالتأكيد فإنّ الشعب العراقي بكل أطيافه احتفل بهذا الانتصار وأكَّد مجدداً وقوفه مع جيشه الوطني ومع مبدأ استعادة مؤسسات الدولة وتطمين حاجات الشعب عبرها فقط. لكن ما نغَّص على الاحتفال بالانتصار هو ذاك (الانفلات الأمني) الخطير الذي أعقب دخول القطعات العسكرية الأمنية.. فالجيش تابع مهمته لاستكمال مطاردة فلول المجرمين من مرتزقة الإرهاب في الأقضية والنواحي الأخرى؛ فيما ترك مسك الأرض للميليشيات على أساس كونها قوات (حشد شعبي) تنضبط بقوانين الدولة ومهامها…

وهكذا تبيَّن أنَّ القيادة لم تحسب حسابها، لاتساع الأمر من خروقات فردية إلى سياسة ميليشياوية فرضت نفسها على الميدان، ورفضت الالتزام بواجباتها الأمنية بل أبعد من ذلك وأخطر منه أنها مارست أفعالاً  لا يمكن وصفها إلا بكونها كسراً للقوانين وتحدٍ لسلطة الدولة؛ وهو الأمر الذي وصفته جهات حقوقية دولية ذات مصداقية وحيادية تامة، بأنه جرائم ضد الإنسانية يجب إدانتها ووقفها فوراً ومعاقبة مرتكبيها…

والسؤال لم يعد محدوداً بمضمون كيف ولماذا لم تحسب القيادة العسكرية والسياسية لمثل هذا الأمر، بل بات الآن في ظل استمرار الانفلات الأمني: هل تمتلك تلك القيادة العليا والميدانية إمكانات فرض سلطة القانون وهيبة الدولة واحترام مؤسساتها؟ وهل لديها رصداً وقراءة كافية للوضع الميداني بما يفي بإدارة العمليات وضبط الأوضاع بما يحمي المدن وسكانها وبما يحمي حقوقهم وحرياتهم؟

وقبل الإجابة، أشير إلى أمثلة إيجابية منها ما قامت به الكنيسة في مناطق عراقية مهددة عندما نقلت مخطوطات ثمينة وكنوز آثارية مهمة لتضعها في حماية كوردستانية على الرغم من أنّ بعض الكنائس تقع بعيداً وخارج منطقة التماس مع عناصر الجريمة الإرهابية وغربانها.. ولعل ذلك من الحكمة بمكان كونه يتأسس على دراسة الحال والتحسب للمفاجآت والطوارئ، وهي قضية جد موضوعية وسليمة. كما نشير إلى المحاسبة والقصاص من العناصر القليلة التي ارتكبت أفعالا مرفوضة قانونيا أخلاقيا بقدر تعلق الأمر بقواطع العمليات التي أدارتها البيشمركه. وهناك كل شيء يتم على وفق ضبط وسيادة  للقانون وسلطته…

الدرس يتمثل في إعمال القوانين بمثل هذه الحالات. أي في حالات الحرب، هناك قوانين طوارئ عرفية يجب فرضها منعاً للانفلات الأمني. فلماذا تصدر التعليمات من القيادتين الاتحاديتين السياسية والعسكرية، بصيغ جد عادية ومتساهلة؟ هل هناك اعتقاد أنّ ما يجري في تكريت هو أمر عابر وعادي؟ هل تعتقد القيادة أنّ ذلك سيتوقف بمجرد انتهاء المواد القابلة للسرقة وبانتهاء ما يقبل الحرق من بيوت ومحال!؟ هل هناك قبول ضمني يجامل جهات ميليشياوية بأمر أو آخر!؟

إنّ ما يجري بتكريت هو درس مرير يلزم التفاعل معه من منطلقات وطنية تحفظ حقوق العراقيين من أبناء المحافظة وتوجب إدانة سياسية ومجتمعية شاملة مع فرض سلطة القانون فوراً والشروع بتعويض المواطنين ومحاسبة مرتكبي الجرائم المشار إليها.. إذ بخلاف هذه الإجراءات ستكون من عواقب الأمور مزيد تعقيد في مواقف الأطراف المتعددة وهو ما يفسح فرصاً مضافة لخطاب القوى المعادية كي تمرر عبثها بعقول الناس وطابع الشحن الطائفي الذي تعزف عليه…

إنّ هذا يعقّد كثيراً الخطى التالية باتجاه استعادة المحافظات المستباحة من مرتزقة الإرهاب في الأنبار ونينوى. بينما الضرورة ومنطق الأمور يقتضي تحصين مسيرة الانعتاق بتمتين (الوحدة الوطنية) في العراق الفديرالي؛ وبقطع الطريق نهائياً على الخطاب الذي تسبب بانهيار الدولة ومؤسساتها، أي الخطاب الطائفي المقيت. إنّ فلسفة حرية الوطن والناس لا يمكنها أن تقوم على أساس شعارات طائفية وآليات اشتغال طائفي بخاصة هنا كل من المحاصصة وما يرافقها من تسابق طائفي يغذي روح الثأر وآليات الانتقام.

على أنّ الخطأ لا تتحمله جهة واحدة، إذ بالمقابل ينبغي لإدارة المحافظة ألا تتخلى عن واجباتها بالقدر المتاح على أنْ يجري تنمية نقل الصلاحيات للسلطة المحلية مرفقة بدعم فاعل مؤثر من السلطات الاتحادية. كما أنّ على القوى المتمترسة بجناحي الطائفية أن تتذكر أنها أمام إما هزيمة شاملة ومساءلة قانونية عمّا ترتكبه وإما تنازل عن خطابها الطائفي الذي لم يأتِ للشعب والوطن إلا بمزيد من انقسامات وحالات احتراب غير مبررة جاءت بكل تلك الكوارث المأساوية التي يعاني منها الجميع…

إنّ تغيير الخطاب السياسي وفلسفة إدارة الدولة باتجاه الاحتكام لدولة مدنية وقوانينها ومؤسساتها وإنهاء الوجود الميليشياوي بخطة مدروسة بخارطة طريق مناسبة، هو الطريق الأمثل لاختزال الخطى نحو استعادة سلطة دولة مدنية لا تنقسم على أسس طائفية ومن ثمّ لا تسمح بإيجاد أرضية للاحتراب والتمترس بهذه الآليات التي استغلتها قوى وعناصر مرضية طوال أكثر من عقد على التغيير في العراق الجديد.

إنّ من الخطورة بمكان في مرحلة عودة مواطني تكريت إلى بيوتهم أنْ يجدوها منهوبة مدمرة محروقة مخربة، وأن يجابهوا عمليات تنكيل وازدراء أو ظروفاً منفلتة!! وبناء على هذا المشهد يجب اتخاذ القرارات المؤملة من السلطات المحلية والاتحادية في التصدي للمشهد ومنع أية فرصة لإعلام القوى المعادية من التصيد في المياه العكرة. وتطمين أرضية مناسبة لاحتضان عودة سكان تكريت بأمان وسلام لتكون أنموذجاً أثيراً تتفاعل معه جماهير بقية المحافظات إيجابياً…

فلتبقَ تلك الأحداث محاصرة محدودة وتُنهى فوراً ولتعلن حالة الطوارئ والحكم العرفي بتلك المناطق حتى يتم استكمال ضبط الوضع الأمني وحسمه لمصلحة انتصار حقيقي يعبر عن تطلعات أبناء المحافظة ومجموع الشعب العراقي. ولعل تلبية حاجات السكان والعائدين منهم هي أولوية كبيرة الأهمية لتعزيز صورة إيجابية ووجه العراق الجديد.

من هنا يمكننا تلخيص المنتظر بالآتي:

1-في إطار العمل على استعادة سلطة الدولة ينبغي أن يكون الفعل بعيدا تماما عن أية توجهات ذات خلفية دينية مذهبية هي طائفية سياسية في جوهرها.

2-إنهاء أدوار التأثير الميليشياوي أمنيا عسكريا وإبقاء الفعل بيد القيادة العامة للجيش والشرطة.

3-إيجاد أرضية سياسية باتفاق بين الحركات والأحزاب والقيادات على ميثاق عمل لمرحلتي إعادة فرض سلطة الدولة وبناء المدن والمحافظات التي يتم إنقاذها من الاستباحة الإرهابية.

4-ضبط أيّ تسليح خارج قوات الجيش النظامية وإخضاعها لقيادة رسمية هي قيادة الجيش الوطني العراقي، مع عدم إهمال بنى وتشكيلات المتطوعين من مختلف المحافظات لكن على وفق آليات عمل وطنية لا طائفية ولا ميليشياوية.

5-إيجاد إعلام مناسب لخطاب سياسي وطني والوصول به إلى أبناء المحافظات المستباحة وتوفير فرص تلاحم جميع الطاقات لطرد قوى الإرهاب وإنهاء استباحتها للأرض والإنسان.

6-الاستعداد لمرحلة البناء وتعويض الخسائر الهائلة بحملة دولية تبدأ اليوم قبل الغد وحساب ما ينبغي فعله تجاه المواطنين من جهة وتجاه عمليات إعادة الإعمار.

7-حل المشكلات العالقة اليوم بين جناحي العراق الفديرالي بتلبية عملية للمطالب والحقوق والاستجابة لبرنامج عمل وطني فديرالي ينهي الحساسيات مثلما ينهي حال القصور والثغرات وأشكال الحصار غير المبررة على كوردستان لاستثمار كل القدرات بأعلى تنسيق وتخطيط باتجاه الانتصار للعراق الفديرالي.

بالخلاصة لا يمكن تحقق استعادة وجود الدولة ومؤسساتها عبر انتقال من بلاء طائفي إرهابي إلى آخر.. وإن اختلفت أوجهه وصبغته الطائفية ولابد من حل (وطني) الجوهر بمجمل العراق الفديرالي. وهو الحل الوحيد القادر على التقدم بالانتصار المؤزّر الذي نتبناه ونشد على أيدي أبطال جيشنا وهم أبناء الوطن المضحين بالغالي والنفيس ما لا يمكن أنْ نتركه يذهب هدراً..

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *