أرقام كارثية مخيفة تبتلع العراق وأهله: فهل من منقذ؟

كثيرة هي تلك الإحصاءات الدولية التي تحاول قراءة الوضع في بلادنا، وهي محاولة لسدّ الفشل الواضح في العملية الإحصائية على المستوى الوطني المحلي؛ و\أو على مستوى كشف الحقائق بالأرقام الأكثر دقة ووضوحاً. إنّ قضية الإحصاء العام وما اكتنفتها من مشكلات وعقبات تبقى قضية رئيسة لأي بلد يريد الانطلاق باستراتيجيات تنمية حقيقية جدية وفاعلة لتغيير الواقع ومعالجة مطالبه. واقتصادياً لا يمكن أن نضع حلولا أو معالجات من دون تلك الأرقام. ومن الطبيعي أن يلتهم التضبيب والتعتيم وانعدام وجود الإحصاءات كل محاولات الخروج من أية أزمة، وأن يدفع لمزيد من دعم حراك الفساد وآلياته والتحول لنظام تكامل منه أي ما يثسمى النظام الكليبتوقراطي!

وفي هذا الواقع نحاول استطلاع بعض جوانب الأوضاع العراقية من مصادر بحثية إحصائية دولية معتمدة، بغاية وضوح الصورة ودقتها بالاستناد إلى الأرقام. وعلى وفق تقرير دولي أصدره ((المركز العالمي للدراسات التنموية)) ونشرت تفاصيل منه الغد برس، فإن (صندوق تنمية العراق) الذي أنشئ عام 2003 لإيداع مبيعات المنتجات النفطية العراقية بناء على القرار الأممي ذي الرقم 1483، وصلت أرصدته إلى 165 مليار دولار في عام 2009، إلا أن هذه العائدات تلاشت باختفاء 17 مليار دولار منها في العام 2003، و 40 مليار دولار أخرى في عام 2010. ولم يتبق منها في العام 2012 إلا 18 مليار دولار. وانحدر الرقم في العام 2013 ليصير 7 مليار دولار فقط، كل ذلك جرى في ظل (سوء إدارة) واستحكام (ظاهرة فساد مالي شاملة). ولم تُجِب الحكومات العراقية [2006 – 2014]عن سر اختفاء كل تلك الأموال على الرغم من مستوى الوعي وإدراك ما يجري المتجسد في التظاهرات الشعبية التي قمعها المالكي في حينه بالرصاص الحي…!

وحسب التقرير نفسه لا يوجد اليوم أية أرصدة في صندوق تنمية العراق..!؟؟ أما احتياطي البنك المركزي العراقي الذي وصل في عام 2013 إلى 76.3 مليار دولار فقد بات يناهز 68 مليار دولار في عام 2014!!؟ والسؤال الذي لا يجد له إجابة أيضا هو: أين ذهب الفارق المالي من الاحتياطي في وقت نعرف يقينا أن البنك المركزي العراقي يؤكد على عدم المساس بتلك الأموال حفاظاً على قيمة الدينار العراقي ومحاولة دعم استقرارها وثباتها أمام الدولار والعملات الصعبة الأخرى؟؟

وبحسابات أولية وعلى وفق التقرير المشار إليه، فإنّ العراق ربما فقد أكثر من 203 مليار دولار خلال بضع سنوات معدودة، في وقت نجد أن موازنات العراق منذ العام 2003 لغاية هذا العام 2015 تجاوزت التريليون دولار بحجم كبير. وعلى الرغم [أيضاً] من أن فائض موازنات العراق للفترة بين 2006-2014 بلغ 154 مليار دولار إلا أنه لم يوجد منها فعلياً إلا 5 مليارات دولار فقط وعلى أساس الحسابات الورقية أي ما ربما يتكنفها توصيف وهمية! فيما لا أثر للباقي أي حوالي 150 مليار دولار من الفائض؛ دع عنك عزيزي القارئ الميزانيات الأصل!!

السؤال الأصعب: هو من المسؤول الرقابي على الثروة الوطنية؟ ومن المسؤول عن مراقبة صرف مئات المليارات هذه؟ ولماذا لا توجد إجابة عن المبالغ المشخص صرفها خارج البنود الرسمية المعتمدة؟ وكيف أمكن صرف حوالي تريليون ونصف الترليون من الموارد المالية في العقد الأخير من دون حل، ولو جزئياً، لمشكلات الفقر والبطالة! ومن دون، ولو جزئياً، تشغيل عشرات ألوف المشروعات المعطلة زراعيا صناعيا! ومن دون، ولو جزئياً، النهوض بأية أعمال بناء وإعمار وسد للخدمات العامة، المنهارة بشكل شامل!!؟

وفوق كل ذلك وبعده، فالعراق يمر بأزمة مالية خانقة تتراكم فيها مفرداتها وتتسع بعمقها؛ لتتجاوز فيها اليوم حجوم الإنفاق حجوم الإيرادات المتحققة، بخاصة بعد هبوط أسعار النفط وانخفاض معدل الصادرات حيث مشكلات بعضها محدودية الاستثمارات الخارجية تجاه المنتظر منها، وتداعيات التقادم في البنية التحتية ومنها بنية إنتاج النفط، وأيضا بسبب ولوج البلاد حربا سببها أولا انهيار وجودها المؤسسي في عدد من المحافظات وثانيا  بملء الفراغ من عصابات مافيوية دموية ومرتزقة دوليين يتحكمون بالوضع بوساطة ميليشيات الإرهاب والتخريب، هذا فضلا عن تعطيل عشرات ألوف المشاريع، وقطاع عريض واسع من الشعب لم يتسلم الرواتب منذ عدة أشهر! أي أن الميزانية لا تُصرف لا على الاستثمار ولا على التشغيل ولا يصل منها إلى المواطن إلا فتات مستقطع الاستحقاق ومؤجل الدفع لأشهر ليرتسم كل ذلك في الأزمة التي تشخصها الأرقام الإحصائية المجسِّدة للواقع المريض!!؟

ومما يخلق تراكماً خطيراً مضاعفا لتلك الأزمة، أنَّ أعداد  اليوم فاقت الثلاثة مليون شخص وارتفعت معهم نسبة الفقراء لتصل إلى أكثر من عشرة ملايين شخص، وتنتظر المدن المخرَّبة والمشروعات المهملة والمعطلة مزيداً من الاستثمارات والمطالب والأعباء المالية العاجلة؛ ما قد يتطلب مبلغا يتجاوز المائة مليار دولار. وهو رقم لن تسده إيرادات الـثلاثة مليون برميل نفط يوميا في ظل انخفاض الأسعار ومطالب الديون المستحقة على العراق ومنها على سبيل المثال 27 مليون دولار لشركات النفط..

إننا ندرك أن الكارثة، تكمن هناك في برنامج إدارة الحكومة الاتحادية وفشلها وعجزها وفي سوء تلك الإدارة ومنهجها واستراتيجيتها، بلإشارة إلى اشتغال حكومتي السيد المالكي قبل أن يسلمها للسيد العبادي بكل تداعياتها وجراحات العجز الشامل. ولو أن تلك الحكومة كانت جدية ومسؤولة وتريد التصدي للمشكلات الجوهرية المتفشية في جسد الاقتصاد المعطل المشلول فإنها كان يمكنها أن تعيد مثلا حوالي 50 مليار دولار تُصرف سنويا على حمايات المسؤولين الكبار عدا رواتب متضخمة وغير عادية للمسؤولين أنفسهم وهذا كله رقم يمكنه أن يسدد مرتين ديون البلاد لشركات النفط التي أشرنا للتو إليها وربما يأتي منه فائض مهم وكبير، والمسؤولية بهذا التوجه تقع على الحكومة الحالية، فهل ستفعلها؟

غير أننا بشكل عام حتى هذه اللحظة لم نلحظ فعلا عميقا وجوهريا حتى الآن. ولم نشهد سوى محاولات الترقيع وربما أحيانا تبدى ببعض الأفعال والإجراءات حال مرَّرَ التستر على  جرائم الفساد  في ظل استمرار آليات عمل نظام كليبتوقراطي بامتياز؛ الأمر الذي لن يعالج العجز، بالإشارة لعبثية بعض القرارات ومنها: إصدار سندات بقيمة 12 مليار دولار؛ فذلك أمر فيه خلل في استراتيجية المعالجة، بخاصة مع محاولة دعمه باعتماد آلية الدفع المسبق لأسعار النفط لأنه سيجعل العراق يبيع بخسارة فادحة فضلا عن كلف التأمين نفسها المعتمدة على هذا البيع بالخسارة دع عنك متطلبات العيش في ظل حالات النزوح والخراب الشامل.

البديل العاجل يكمن برأينا المتواضع في تغيير استراتيجية العمل وإدارة الدولة والخفض الفوري والجوهري لأجور الموظفين الكبار بقصد الرئاسات والوزراء والنواب الذين تحولوا إلى طبقة كريبتوقراط بكامل سماتها؛ طبعا مع التأكيد على منع المساس بحقوق ومرتبات الموظفين الصغار. وميدانيا يجب التوجه العاجل نحو إعادة معالجة الغاز والاستثمار في قطاعه للاستفادة من  تنويع مصادر الإيرادات ومن مردوده واستخدامه داخليا أيضا، ويلزم العمل على زيادة مساهمة الشركات النفطية وغيرها ووقف ظاهرة خفض استثماراتها والتصدي لظواهر أخرى مثل النفقات غير الضرورية للقطاع الحكومي بكل ميادينه والبحث عن مؤتمر دولي لجذب الاستثمارات الكبرى للبلاد وإطلاق المشروعات في المناطق المستقرة والمستعادة بها السلطة حديثا من المدن المحررة من قبضة الإرهاب.

على أن سؤالي هنا أوجهه بإيجاز إلى المواطن العراقي: ألا ترى أنك بهذه السياسة الفاشلة وبهذا النظام الذي يفرضونه عليك يعبثون بمصيرك ويبعيونك بسوق نخاسة الشركات التي تتمدد وتزيد من مآزق البلاد وحاجتها لا لتبقيها مفلسة بل لتستعبد الإنسان مع الأرض لعشرات السنين القابلة مقابل الهاوية التي تحتجز فيها العراق بهذه اللعبة للفساد المالي بل الفساد الشامل الذي من دون كسر آلياته ونظامه سنحكم على العراقيين بالعيش عبيدا طوال العمر ولن يسددوا ديونهم.. فيما أموالهم وثرواتهم تذهب عبر نافذة نظام الفساد (الكليبتوقراطي) إلى جيوب الفاسدين ومافيات التحكم بالعراق بوضعه المتهاوي..؟

ولعل الاتجاه البديل اليوم يتمثل في تفعيل قدرات الحراك المجتمعي النقدي وعدم الوقوع بخدعة تعطيل حق النقد بسبب الحرب لأن هذه الحرب لم تأت من فراغ بل من تفكيك مؤسسات الدولة وسحبها بعد تعطيلها وترك المجال لبعبع عناصر مرتزقة وميلييات إرهابية طائفية بجناحين يواصلان العبث بمصائر الناس. يجب التصدي لأسس بنية النظام القائمة على مثلث (طائفية، فساد، إرهاب). وتنظيم الجهد الوطني في دعم استعادة الأرض والعمل على انعتاق رقاب الناس الواقعين تحت سطوة الانفلات الأمني وإطلاق مهمة جدية للبناء والتنمية بوجود استثمارات دولية على وفق نهج استراتيجي جديد.

وتحية للعقول العراقية التي تقرأ ما نحن فيه، لتضع ملامح خارطة طريق الإنقاذ بعيداً عن فلسفة قوى الفساد والطائفية وآلياتهم.. وبعيدا عن سلبية الموقف من كل مواطنة ومواطن بل عميقا في أدوار إيجابية مؤملة وإلا فإنّ الخيرات لا تمطرها السماء بل تصنعها الأيادي العاملة الفاعلة….

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *