التصدي لظاهرة الخلط التضليلي لنهجين متناقضين \ قراءة في إشكاليتي المحاصصة الطائفية والشراكة الوطنية

في أجواء النضالات الشعبية والحراك المدني، كثرما يجري الحديث عن ضرورة التصدي للمحاصصة بأسسها الطائفية والأثنية. ولربما ورد ذلك من قسم من المتحدثين به، من منطلق رعاية مبدأ دولة المواطنة والهوية الوطنية.. ولربما أيضا جاء ذلك بمحاولة مقصودة من بعض أطراف الحديث من منطلق التشويش والتعمية على مطالب إنهاء المحاصصة الطائفية، ووضعها في إطار هلامي غير محدد المعنى.

إنّ الحراك المدني الذي يتحدث عن رفض المحاصصة في بنية السلطة ومؤسسات الدولة العراقية؛ إنما يركز على أحد أبرز أوجه النظام الطائفي، وفلسفة فكره السياسي (الطائفي) وعلى أولوية إنهاء المحاصصة نسبة إلى محاور الطائفية ومفرداتها الأخرى. أيّ أن الرفض للمحاصصة الطائفية هو جزئية من رفض شامل للفكر الطائفي ولنهجه وفلسفته السياسية المريضة. وأيّاً كانت أولوية رفض منطق المحاصصة فإن الأساس في رفض الطائفية يكمن في أنها كانت السبب الأول في نهج إضعاف الدولة وتمزيق وحدة الشعب ووضعه بانقسام يفرض عليه الاصطراع وتبرير التناحرات التناقضية المفتعلة.

كما أن الطائفية هي المرض الذي جاء على حساب صواب الهوية الوطنية ونهجها في إطار بنى الدولة المدنية المنشودة. ومن هنا فإنّ نضالات الحراك المدني الشعبي تركز على إنهاء الطائفية نهجاً مرضياً خطيراً وتتطلع إلى استعادة الهوية الوطنية العراقية، في إطار دولة ديموقراطية فديرالية مدنية الطابع والهوية.

أما ما يتعلق بموضوع البنية المجتمعية للشعب العراقي في تنوعه وتعدديته القومية فأمر نوعي مختلف عن مرض الطائفية السياسية المرفوضة فكراً ومنهج حكم. فبنية الدولة العراقية مقرّة دستورياً منذ أول دساتير الدولة العراقية الحديثة في عشرينات القرن الماضي يوم تمّ تثبيت كون هذه الدولة تقوم على أساس (الشراكة) بين جناحي الدولة عرباً وكورداً. وتعمّدت هذه الإشارة دستوريا باختيار صيغة الفديرالية للدولة العراقية.

وعليه فإن الشراكة العربية الكوردية التي تمثل جناحي الفديرالية في الجمهورية العراقية الجديدة، هي بنية إيجابية صائبة تفضي إلى احترام التعددية والتنوع تجاه كل المكونات العراقية، مثلما تؤدي إلى فلسفة الحوار بين طرفي الفديرالية في توجيه مسار التنمية والتقدم بالدولة وباستراتيجياتها بشراكة جدية فاعلة لا تسمح بالتهميش أو بالاستعلاء أو بالإقصاء والإلغاء للآخر.

لكنّ بعض الأطراف تقرأ المحاصصة بطريقة متضخمة. وهي في وقت تخوض النضال لإنهاء المحاصصة الطائفية المستندة إلى فكر الطائفية المرضي توسعه بطريقة سلبية لتشمل به مبدأ الشراكة وتطلق خطابات إلغائها متناسية أن الشراكة مختلفة من جهة المرجعية الفكرية وأنها قضية بنيوية للعراق الديموقراطي المنشود بأسسه الفديرالية.

لقد أغفلت التغييرات الحكومية الأخيرة الموضوع الجوهري في معطيات الشراكة والبنية الفديرالية وربما تغافلت عن قصد هذا الأمر. فذهبت بعيداً بخلط ورقتي الادعاء بأنها تريد إلغاء المحاصصة الطائفية لتضخمّها وتتجاوز بها على الأساس الدستوري لبنية الدولة العراقية أي الأساس الفديرالي لصيغة أو بنية الدولة.

ومع تحفظي الشديد على أساس التغيير الحكومي الذي اقترحه رئيس مجلس الوزراء؛ كونه مجرد تغيير وجود وزارية بمسمى (تكنوقراط) يغطي بصورة أو أخرى على آلية المحاصصة، فإنني أرى فوق ذاك التحفظ أن السيد العبادي قد ابتعد كثيراً، ليس عن الأسس الدستورية بل عن منطق التغيير المنشود.

وبهذا الخلط الذي تجاوز فيه الآلية الفديرالية، آلية الشراكة بين العرب والكورد جناحان للشعب وللدولة فإنّ أيضا  تنكر للتغيير الذي استهدف إنهاء المحاصصة بأن أبقى على السبب الفعلي لوجودها وهو السبب المتجسد في (الطائفية السياسية) وتعامل مع القشور أو مع جزئية سطحية لا تقوى على الصمود، هذا إنْ جرى إقرارها باتفاقات بين الكتل وبضغوط دولية..

هذا الإقرار سيمرر الأمور بطريقة اقتراض العراق مبالغ لدفع جزء من رواتب الشغيلة ولكن مع تحميلهم جوهريا أعباء تسديدها على مدى أعمارهم وأعمار أجيال متوالية بسبب ما نعرفه من شروط البنك وصندوق النقد الدوليين… وتمرير البدائل المسماة تكنوقراط هي ضمادة يصفها العراقيون بالقول: “الرقعة صغيرة والشق كبير”!

طبعاً أقصد أن تلك المحاولة الترقيعية لن تكون سوى إعادة إنتاج النظام الطائفي مع منحه فرصة مركزة السلطة شكلا ومضمونا والمنفذ هم النخبة العلمية التخصصية الواقعة تحت ضغوط آليات الطائفية ونظامها مجسداً بأحزاب الطائفية ومنهجها المرضي.

إنّ هذه اللعبة الخطيرة ستفضي إلى مزيد من انشطار الدولة العراقية بين محاولات مركزة الأوضاع حكوميا لدى بغداد ورفض مبدأ الشراكة والتخلي عنه، بدءاً من بناء الحكومة الاتحادية وليس انتهاء بعملها المحكوم بالفكر الطائفي ونهجه المعادي للتعددية والتنوع وغصراره على أن حزب السلطة (الطائفي) هو طائفة الأغلبية وحكمها المزعوم!

وأول دليل على خطل هذا التفكير وكذبه وتزويره الحقيقة يتمثل في واقع أبناء الأغلبية الشيعية المدعى أنهم هم من يحكم يقعون تحت أوزار الفقر والبطالة حتى أن أفقر محافظة في البلاد هي محافظة المثنى \ السماوة التي وصلت نسبة الفقر فيها إلى حوالي الـ90% وأن أحياء البصرة تزداد فقرا وهي المحافظة الأغنى بثروتها عالميا وليس عراقيا فقط!

إننا إذ نذكر بأن الشراكة وآلياتها واشكال تنفيذ رؤيتها المثبتة دستوريا بصيغة البناء الفديرالي، فإننا نقصد التنوير والتوضيح لمن قد يفوته قراءة المبدأ الدستوري لبنية الدولة العراقية في خضم النضال السياسي واحتدام الصراع بين الوطني العراقي والطائفي المعادي لبنية المجتمع الموحدة في إطار احترامها مبدأ التعددية وغنى التنوع.

إن بناء الدولة المدنية على اسس وطنية تعني احترام مبدأ المواطنة والروح والهوية الوطنية العراقية ولكنها بالضرورة أيضا تعني احترام التعددية والتنوع ومبدأ المساواة بين المكونات بما يحظر التمييز بين أغلبية عددية وأقلية عددية. فالعدل في النظر إلى علاقات الأمم والشعوب يقوم على أساس المساواة بينها صغيرها وكبيرها وليس على أساس أي حالة تمييز قد تطفو لأي مبرر كان.

إنّ احترام مبدأ المواطنة يقتضي في الوقت ذاته احترام الانتماءات القومية والدينية والمساواة بينها ومنع التمييز ويقتضي تفعيل آليات العمل الفديرالي وجسوره بين جناحي الوطن الرئيسين واحترام التعددية بكليتها وشمولها جميع المكونات ومن هنا فإن المنتظر يكمن في تفعيل وجود المجلس الاتحادي وسلطته التشريعية وليس حجب المكاسب الدستورية التي ضمنتها القوى الشعبية ما بعد العام 2003.

إنني هنا أدعو إلى مراجعة الموقف في بنية الحكومة الاتحادية وآليات عملها بأسس اتحادية فديرالية وبما يجسد منطق العمل القائم على ىالشراكة بين جناحي الوطن والمساواة بينهما كيما نتحدث عن العراق الفديرالي الجديد، العراق الديموقراطي المنشود من قوى الشعب الحية.

وأدعو إلى تفعيل التوجه نحو إيجاد مجلس الاتحاد بأوسع سلطاته التشريعية وعدم الخلط بين رفض المحاصصة (الطائفية) بمرجعيتها حصراً وتبني الشراكة (الفديرالية) بمبدأ وجودها الدستوري قانوناً. وبخلاف ذلك يكون لكل حادث حديث؛ ويكون للمتنورين العرب في العراق واجب مناصرة أجنحة الشعب العراقي الرئيسة من غير العرب، أي الكورد والتركمان والكلدان السريان الآشوريين والصابئة بما يستعديون به الثقة بأن ما يجري هو مما ترتكبه قوى الطائفية وأحزابها، من عناصر السلطة الكليبتوقراطية المريضة وليس من أخوتهم في الوطن من العرب المؤمنين بعدالة وجودنا الإنساني بتنوعات تمظهراته القومية المستحقة للإقرار ولتلبية الحقوق كاملة وبعدل ومساواة.

تلكم هي القضية ببعدها الفكري الفلسفي وبآلياتها السياسية الإجرائية بين ما جرى ويجري رسمياً حكوميا بدعم وتسويق من خطاب قوى الطائفية وأمراضها من جهة وما جرى ويجري من نضال القوى الديموقراطية المؤمنة بالعراق الفديرالي المنشود، الذي يحترم طابع التنوع القومي ويقدس حقوق الجميع على أساس المساواة..

فهلا تنبهنا قبل فوات الأوان ووقوعنا بما لا يريده العراقيون جميعا؟ وهلا صغنا خطابنا النضالي بوضوح عند الحديث عن تشخيصنا للطائفية بوصفها العدو الرئيس لشعبنا بكل أطيافه ولمحاصصتها المرضية التي فرضوها علينا ونهبوا لا الثروات حسب بل السلطة التي أردنا لها أن تكون سلطةى ديموقراطية فديرالية سليمة؟

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *