أين يكمن سرّ الخروق الأمنية؟ وما المطلوب لإنهاء آلام الأبرياء؟

تتصاعد بين الفينة والأخرى جرائم إرهابية بشعة بكل ما تخلفه من فجائع وآلام بسبب ما تُوقعه من ضحايا وجراحات فاغرة وسط الأبرياء. وعادة ما تأتي تلك الجرائم بُعيدة تفاقم الخلافات السياسية وطفوها على السطح بشكلها الفج. وغب تلك الصراعات بين قوى الطائفية المهيمنة على مقاليد السلطة بكل مفاصلها، وجدنا تكرراً تراجيديا موجعاً أوقع أفدح الخسائر بين فقراء الوطن وسط أحيائهم وبيوتهم المتهاوية الفقيرة…

وفي وقت لا يملك المواطن وحراكه سوى إدانة الجريمة وتحميل الجهات الحكومية وأحزابها مسؤولية معاودة الخروق بين الفينة والأخرى؛ فإنَّه في الوقت ذاته يستمع للخطاب الكرور من تلك الجهات المسؤولة تكرر عليه خطاب استنكارها الجريمة! فهل واجب تلك الجهات المسؤولة مباشرة عن حفظ الأمن والاستقرار ينحصر في بيانات جوفاء متضخمة الخطاب الاستنكاري فارغة المضامين والخطى العملية؟ أم أنها يجب أن تسبق بيانات الإدانة بالعمل وبالخطوات الإجرائية الوقائية منها والمطارِدة للمجرمين كي يتم حسم المعركة مع الإرهابيين وضمناً أن يتم فضح انتماءاتهم ومرجعياتهم وامتدادات خيوط ارتباطاتهم…؟

وللإجابة عن هذا التساؤل، نؤكد وعي الحرات الشعبية المدنية للمجريات وهي في وقت تدين الإرهاب وجرائمه لا تُغفِل التنبيه على أنّ ما يجري من خروق إجرامية يكمن في تواضع الأداء الأمني للحكومة بل إهمالها أبرز عناصر العمل بدءاً الوقائي الاستخباري وليس انتهاءً بتفكيك عناصر الجريمة والكشف عن أبعادها وخيوطها للوصول إلى المجرم الحقيقي وهو من يقف وراء التخطيط لإيقاع تلك الكوارث المأساوية بين صفوف أبناء شعبنا!

وهذا التشخيص الذي يدين أيضا عوامل القصور والإخفاق للأجهزة الأمنية، يتأتى من وعي الشارع السياسي الشعبي لحقيقة أن الخلل يكمن في تفريغ المؤسسة الرسمية من طابعها (المدني) المستند بنيوياً إلى طابع الدولة الحديثة المعاصرة وقوانين وجودها…

هذا التفريغ يأتي من الطابع (الطائفي السياسي) للعمل الرسمي الخاضع لمنهج الطائفية في آلية الاشتغال وما يضبطه ويوجهه من فكر ماضوي متهالك وطبعاً من عناصر لا تمتلك الكفاءة ولا المهنية. بمعنى مفارقة الوضع بين اتجاهين: أول يحمله الشعب في تطلعات للانتماء لعصره ولآليات وجوده في دولة مدنية تليق به وبتاريخه؛ وثانٍ نقيض متعارض مع تطلعات الشعب، يجتر فيه المهيمنون على السلطة فلسفةً ظلامية تنتمي لمنطق الكهوف المتخلفة المنقرضة.

إنّ هذا الاجترار يركز على استيلاد غطاء من القدسية المزيفة المدّعاة حظراً للمناقشة ومصادرة للآخر [أي مصادرة لأبناء الشعب] واستعباداً لهم، هذا في وجه من آلية تركيزه، فيما بالجوهر ووجهه الآخر ينصرف إلى كل المشروعات التي توفر من جهة فرص نهب الثروات واكتنازها في أكبر سرقة وأكبر جريمة فساد في التاريخ…

ولهذا السبب فإن الطائفي المتحكم بالمشهد العام، لا يهمه بنية المؤسسة الرسمية بخاصة هنا المؤسسة الأمنية. لأنه يبقى بحاجة لاختلاق الصراعات وبعبع التقاتل والاحتراب. وبالمقابل يوفر أفضل الفرص لتدريب قوى ميليشياوية تحميه من غضب الشعب وحراكه من أجل استعادة حقوقه وحرياته وضمانهما وحمايتهما…

إنّ نظام الطائفية لا يمكنه إلا أن يقوي الميليشيات وأسس وجودها وذرائعها مع حفر خنادق الصراع والمشاغلة بدفع الشعب للتمترس خلف تلك الخنادق المصطنعة.

إنّ أية دولة حديثة تتجه بوضوح إلى بناء مؤسساتها على وفق القوانين واللوائح المعمول بها بعصرنا وفي ضوء منطق العقل العلمي وفروضه البنيوية. ومن هنا فإن الأنجع يكمن في تهيئة المؤسسة العسكرية الأمنية مهنيا بمرجعية تنتمي إلى (الدولة المدنية) وآليات اشتغالها. ومن المؤكد بهذه الحال أن الدولة تتجه لحظر كل تشكيل مسلح خارج سلطتها. لأن وجود أي سلاح خارج سلطة الدولة يعني إضعافها ومنح الفرص للجريمة للانتشار ووالسطو على المشهد وابتزازه بالبلطجة وارتكاب الفظاعات…

إن الكارثة تكمن في أنَّ بعض المواطنين تنطلي عليهم لعبة الطائفي الذي يزعم حمايته لـ((الطائفة)) ضد بعبع ميليشيا ((الطائفة)) العدوَّة! وهكذا تستمر دوامة الاقتتال ((الطائفي)) في ظل المخادعة والتضليل واختلاق متاريس التخندق الطائفي؛ فتدور الأمور في حلقة مغلقة تُقْفِل بكماشتها على المواطنين جميعا بعد أن تشطرهم بين جبهتين محتربتين… ويلهث هذا المواطن المطحون بين مواضع  التخندق خلف هذا الزعيم الطائفي أو ذااك بذريعة قدسية هذا الزعيم وهي ليست أكثر من ادعاء مزعوم لا يستند إلا لبهتان بلا دليل، سوى قشمريات لا صلة لها لا بدين ولا بمذهب ولا بقيم إنسانية لها سلامة منطق!

إنَّ ضحايا الميليشيات هم أبناء الوطن والشعب من الأبرياء ممن أفقرتهم سياسة الطائفية القائمة على أشمل وأخطر جرائم نهب وسرقة للثروة الوطنية ولكل الخيرات التي ينتجونها، لتجبرهم على اللهاث خلف قيادتها وتوجيهها مقابل فتات يرمونه على جثث الضحايا. ولابد للتذكير هنا أن يلاحظ الشعب كيف أن قيادات الطائفية ليس بينها ضحايا بل في كل حال احتدام للحراك الشعبي المدني يهرعون إلى المطارات ليغادروا إلى دول تحتضنهم وإلى التمتع بثروات الناس المنهوبة.

إن آلية تقوية الميليشيات وتدريب قطاعات محددة فيها وإهمال تدريب المتطوعين تحت ظروف الاضطرار، هي الآلية التي تضع أنصار الطائفية بموضع التوجيه والأمر وتجنب التضحيات فيما يمتلكون من يدفعونه لمعركهم ليكونوا وقودها من المتطوعين الأبرياء.. وطبعا هم يملكون السلاسح الأحدث والتدريب الأنجع على حساب الجيش الوطني وقوات الشرطة والأمن الداخلي والمؤسسة المعلوماتية الاستخبارية…

هذا التركيز لمصلحة تنظيمات خارج سلطة الدولة وعلى حساب مؤسساتها يربك الوضع العام ويضعه تحت رحمة الابتزاز فضلا عما يفرضه كرهاً من تجميد القوانين لمصلحة الميليشياوي وحزبه وزعامته الطائفية. والتبختر بالتميز وبالــــ(التضحيات) مرة والتباكي عليها مرات أخرى لمزيد إعادة إنتاج وجودهم وتعزيزه؛ مقابل تفكيك مؤسسة الدولة…

والفكرة هنا، تكمن في تعمد توريد أسلحة فاسدة ومعطوبة وعتيقة النظم مع هزال في التدريب وتخريب جليّ للبنى المؤسسية بضح قوائم من المنتسبين الوهميين من جهة ووضع قيادات متعارضة في انتسابها لجناحي الطائفية المتخندقين ضد بعضهما كما تقتضيه آلية تبرير وجود كل جناح بوجود بعبع الآخر. وفي ضوء ذلك تمرير المعلومات للقوى الميليشياوية ولجهات متعارضة والدولة ومؤسساتها وقوانينها، إلى آخر قائمة الخروق!

إذن، فإنّ سرّ الخروق الأمنية المتفاقمة والمتفجرة بين الفينة والأخرى تكمن في لعبة مغروسة في رحم المؤسسة الرسمية بيئةً لاصطناع خنادق الاحتراب والضرب في طرفي التقسيم الطائفي، وضرب عشر عصافير برصاصة طائفية واحدة؛ وذلك لإدامة هذا الوجود وآليات عيشه الطفيلي على حساب الإنسان وبيته \ الوطن برمته.

ومع ذلك، فإنّ الراصد بعمق البصيرة وحتى بالبصر المجرد سيرى حالات تبادل الاعتداءات من طرف ميليشيا جناحي الطائفية؛ وكل جناح يطعن في الآخر تبريراً لوجوده وإدامةً لحراكه على حساب الناس.. ويمكننا النظر في الجرائم الأخيرة التي وقعت متزامنة وكأن كل جناح يعرف بأنّ الآخر سيضرب هنا ليرد هو هناك!

وضربة في حي فقير وأغلبيته الشييعية وأخرى في حي فقير وأغلبيته السنية في إيحاء مفضوح وكأن الأمور تجري بمعركة ثأرية بين الأخوة في البيت باتساع الوطن وامتداده وبسعة المحافظات والمدن وبحجم ضواحيها وأحيائها، ولكنها في الحقيقة ضربات مصدرها واحد هي الميليشيا الطائفية سواء ارتدت ما يوحي بشيعيتها أم ارتدت ما يوحي بسنيتها، وهذا الرداء ليس إلا التمظهر الكاذب الدعي فيما الجوهر لكلا الجناحين هو واحد، إنه جوهر الطائفية المقيتة وآلياتها…

المطلوب من أجل الحل يكمن في حصر السلاح بيد الدولة وتحصين بنى الدولة ومؤسساتها من الخروق البنيوية وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان وعمقها الوطني والإنساني بما يُنهي خطاب الطائفية المرضي الطفيلي الفاسد.. وبالتأكيد يستتبع ذلك حل كل التشكيلات المسلحة خارج إطار المؤسسة الرسمية وقيادتها ومنطقها (المدني) بقوانين وجوده وتشكيله.

وهكذا، فإن الحل يمكن للشعب أن يساهم به بالانسحاب من التمترس خلف الزعامات الطائفية والخنوع لتشكيلاتها الدموية الهمجية المسلحة ((الميليشيات)) وهو انسحاب لا يتعارض وإيمان الفرد ومعتقده الديني وانتمائه المذهبي، لكنه يخرجه من التخندق الطائفي وهويته السياسية اللادينية ويبعده عن خدمة مآرب المفسدين من عناصر الطائفية السياسية وجرائمها البشعة.

إن هذه المبادرة الشعبية، ترتقي بالعراقي إلى مصاف عودته ابنا لوطنه بيته الآمن المستقر ويسحب البساط من تحت أرجل الطائفيين وما ارتكبوه بحق المواطن نفسه من جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية..

فلنعِ ما يجري وجوهره، ولنعمل معاً وسوياً على إنهاء الطائفية بفضل تكاتفنا واستعادة سمات الإخاء في إطار شعب واحد يحترم جميع أبنائه وجميع مكوناته من أطياف قومية ودينية تجسد ثراء حراك الشعب عبر احترام تنوعه وتعدديته وسلامة خيارات مكوناته حقاً مصيرياً ثابتاً مثلما سعيه للتآخي بأي شكل يستجيب لمصالحه العليا ويضمن للجميع حقوقهم في الحياة وفي تقرير المصير.

وتقرير المصير يبدأ من قرار المواطن والمكون القومي في خيار بناء الدولة المدنية بأسس ديموقراطية فديرالية تنتمي لمدنية الوجود والفكر وتحظر الأفكار التي تقوم على التمييز وعلى بناء ميليشيات العنف الهمجية..

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *