العشوائيات السكنية بين مشكلات اجتماعية وأخرى اقتصادية

العشوائيات السكنية بين مشكلات اجتماعية وأخرى اقتصادية وعمق الأزمة الأمر الذي يتطلب تغييرا جوهريا في النظام الذي تسبب بمثل هذه المشكلة والانتقال إلى نظام يستطيع تلبية العدالة الاجتماعية وتتبنى برامجه تحقيقها جديا فعليا

توطئة: ربما كان العراق القديم من بين أولى الحضارات البشرية التي أسست لبناء البيوت والاستقرار بشكل منظم، بما أنشأ المدن وتشكيل دولة المدينة بما مثَّله ذلك من منطق التمدين والتحضر وبما يشير إلى توجه العراقي لمهام البناء بوصفها مفردة من مفردات اشتغاله ورفضه الكسل والعطالة..

وفي العصر الحديث وزمن ولادة الدولة العراقية، كان للحكومات اجتهاداتها في متابعة تطوير المدن الموجودة، والتأسيس لبنى تحتية تتناسب والحجم السكاني. وطبعاً جرت عمليات إحصاء دورية استطاعت أن تساعد لعملية التخطيط الأشمل ومنها لموضوع توفير السكن اللائق وما يستتبعه من خدمات وبيئة.

معالجة أولية: وبين سبعينات القرن الماضي وتسعيناته، كان الوضع قد تدرج بعدد إجازات السكن من 30 ألف منتصف عقد السبعينات إلى ما يقترب من الربع مليون (240.3) إجازة مطلع الثمانينات.. إلا أن الوضع تدهور مع سني الحرب مع إيران والحصار الاقتصادي فتردى حتى وصل ما نسبته إجازة واحدة إلى كل 100 ألف مواطن بحجم لا يتجاوز 1600 إجازة بكثير منتصف التسعينات.

لكن منذ العام 2003 حيث التغيير الراديكالي في العراق، لم نجد إحصاءات رسمية شاملة للسكان.. والأوضاع أخذت منحدراً خطيراً مع تفاقم ظواهر: الفقر، البطالة وانهيار القدرة الشرائية لأسباب منها انهيار قيمة العملة ومستويات دخل الفرد الحقيقية؛ وهذه جميعها وصلت مستويات قياسية لم تمر بالعراق في أحلك ظروفه السابقة، طبعا هذا على أساس المسؤولية الحصرية للفرد عن مهمة بناء مسكنه وابتعاد الدولة عن تلك المهمة وكذلك الجهات الاستثمارية المفترضة..

لقد نجم عن تداعيات العقود الأخيرة خراباً مريعاً في البنى التحتية للمدن الرئيسة.. وكذلك الموت السريري لمساحات زراعية لا تقل عن ثلثي الأراضي الزراعية؛ ما أدى لهجرة ضخمة من الريف إلى المدينة، وفاقم الوضع ظاهرة أخرى، خطيرة بحجمها، هي ظاهرة النزوح السكاني الداخلي، سواء نتيجة الصراعات الطائفية وتهديداتها بما فرضته من منطق التطهير في مختلف المدن العراقية المعروفة بتركيبتها المختلطة، أذكر على سبيل المثال لا الحصر بهذا الشأن مجموع ما أصاب التقسيمات الإدارية في ديالى.. والحجم الأخطر للنزوح هو ما جاء جراء إهداء قوى الإرهاب فرص السطو على مساحات قد زادت على مساحة ثلث العراق بالإشارة كمثال فقط إلى نينوى والأنبار وصلاح الدين وغيرها…

وإذا كان النزوح الناجم عن سطوة الاقطاع يوما، قد حلته ثورة 14 تموز وزعيمها قاسم؛ فإنّ العراق بمدنه الكبيرة والصغيرة لم يشهد مشكلة جدية في مسمى (العشوائيات) طوال المرحلة التالية، حتى ندخل مرحلة مابعد الحرب الطائفية واستباحة قوى الإرهاب لمحافظات كبرى.. وكل التقديرات الأممية والمحلية تشير إلى نزوح تجاوز الـ5  وهو الخاص بنتائج الاجتياح الإرهابي فقط؛ الأمر الذي ربما فرض اليوم حاجة لحجم سكني يغطي الـ3 ثلاثة ملايين، على وفق الأمم المتحدة؛ أو ما نسبته أكثر من 7% من سكان البلاد ممن يقطن العشوائيات..

هذا التقدير يُغفل حقائق أخرى ولا يُدخلها بتقدير الحاجة الحقيقية، منها البيوت المتهالكة نتيجة التقادم ومنها تدهور هندسة البناء حيث الأبنية الكونكريتية التي لا تتناسب وبيئة البلاد التي تدهورت هي الأخرى إلى درجة تجد بيوت العراقيين كما السخّان في الصيف والمبردة في الشتاء! دع عنك الخراب الشامل في مجالات الصرف الصحي والخدمات العامة والخاصة، حتى أن بغداد العاصمة تطوف في فيضان يختلط بالمياه الثقيلة لأقل منسوب مطري عادي والبلاد بحال من الجفاف، فما بالنا لو أن الأمطار موفورة بحق!

وببعض التصريحات الصحفية لمسؤولين في التخطيط قرأنا إشاراتهم إلى أنّ «عدد العشوائيات في البلد بلغ 1552 عشوائية، يسكنها مليونان و400 الف شخص». ومع أن التحليلات تتحدث عن ظروف البلاد (سبباً) في الظاهرة، إلا أنها تُغفل حقيقة الموارد الاستثنائية المهولة التي دخلت الميزانيات ما بعد 2003، حتى جاء انهيار أسعار النفط في مراحل أو سنوات متأخرة…

أذكّر بالخصوص بأن وعوداً معسولة تم إطلاقها عقب انتفاضة شباط 2011 وأن عمليات البناء ستنطلق بمائة يوم وها هي مائة أسبوع  وما يناهز أو يقترب من المائة شهر وليس في الأفق من شيء من تلك الوعود يتحقق..

وأبشّر من ينتخب قوى الطائفية (المتسبب الحقيقي بالكوارث)، بأن مائة سنة أخرى لن تحقق لهم ولا لأحفادهم شيئاً، سوى الوهم!!! وأشير بالخصوص أيضا إلى مفردات دجل ومخادعة كما في المبادرة الوطنية للسكن والاستراتيجية الوطنية للتخفيف من الفقر في العراق! وأؤكد أنه بدلا من الوصول إلى الحل ومن مجرد وقف الانحدار ستتزايد في ظل ساسة الطائفية وحكومتهم وتتفاقم الظواهر المأساوية الكارثية حيث باتت الحاجة الأولية المتهاودة اليوم لا تقل عن 7 مليون وحدة سكنية…

وفي وقت تبني دول غير نفطية اليوم مدنا بحجم عواصم جديدة كما القاهرة، لا يرى العراقيون شيئاً ملموساً بل يتكرر على مسامعهم العبث بمصائرهم والضحك على الذقون بوعود زائفة ومبررات وجود هذه المأساة أو تلك كما بمأساة العشوائيات التي تضاعفت بعد العام 2013 عام الإحصاء الذي ذكرتُه في أعلاه..

ربما الحكومة تنظر إلى العشوائيات من جهة ظاهرة التجاوزات التي تعترض الاستثمار والمستثمرين، مثلما توزع الانتباه في شتى الاتجاهات ولكنها لم تفعل أي حل لهذه المشكلة ولكل الآثار السلبية المرافقة لها سواء منها الاقتصادية أم الاجتماعية.. فقضايا تخص البنى التحتية والركائز البنيوية وما يخص منها على سبيل المثال لا الحصر شبكات الطاقة والماء والهدر فيها، لا نرى موقفا جدياً حاسماً!؟

وانطلاقا في أسس المعالجة: كيف ستصل الجهات المعنية إلى الحل الفعلي الحقيقي وبغداد تحتوي من حوالي ال3 ملايين [بالإحصاءات القديمة] ما يفوق الثلث منهم.. وهي تشتمل فوق ذلك على أحياء بخراب تام في كل التفاصيل البنيوية؟ ماذا ستفعل البصرة التي تشتمل على ما يوازي الـ15% منهم؟ هل سيتم متابعة الحل بمزيد من تجريف البساتين ومزيد تخريب الثروة الزراعية وتخريب البيئة المخربة أصلا!؟

إن العشوائيات ليست وليدة النزوح لوحده وهو سبب رئيس خطير ولكنها بسبب تضاعف الحاجة للبناء مع عدم وجود خطط معالجة وقصور فادح في التعويض (الفعلي) بالبنية التحتية والمجمعات الجديدة.. بخاصة أن مشروعات البناء الأخيرة نفسها أصابها فيروس الفساد وألاعيبه…

أود التساؤل مجرد التساؤل عن ما هو مصير حوالي 200 مليار دينار عراقي \ أو 171 مليون دولار من الميزانية الاستثمارية لعام 2014 لتوفير بيئة سكنية للفقراء!؟ وأرجو أن يستتبع السؤال  أخرى تخص موازنات السنوات السابقة التي تضخمت بإيراداتها ولكن بلا تنفيذ حتى أن إحدى السنوات مازادت في أعمال التنفيذ عن 6% فيما جرى تدوير 94% لتختفي من الموازانات اللاحقة!؟ أين ذهبت؟

إذا أحصينا البيوت التي تقطنها عوائل مركبة وبيوت متهالكة لتقادمها وأخرى بلا خدمات لخراب البنى التحتية لأحياء وضواحي بأكملها فإن الحاجة لن تقف عند الملايين الـ3.57 فقط…

إن البدائل يجب أن تنطلق من خطط بناء استراتيجية لا تتعلق ببيوت الفقراء ولا بعبثية وعود التوزيع المجاني الكاذبة ولا بلعبة تحمل نصف التكاليف من الدولة ونصف بالتقسيط على المواطن.. القضية أشمل، يوم نتحدث عن إعادة خارطة مدننا وأولها المدن الثلاث الأكبر بغداد والبصرة والموصل حيث إعادة تأهيل البنى التحتية استراتيجياً ولمديات بعيدة وأن تستطيع البنى والركائز خدمة خطط البناء العمودي الذي لا يمثل حلا إذا بقيت البنى التحتية بوضعها الحالي قاصرة ومخربة، فنظام البناء العمودي لا يقف بوجهه العامل الاجتماعي وهو جد مهم بل أيضا طابع قدرات الأحياء على الاستجابة لمتطلباته من جهة التأسيسات الخدمية الارتكازية الرئيسة…

ولابد من مشروعات تتوازن مع الظروف البيئية من جهة وحجم المدن ومساحاتها بما يجري عبره بناء مجمعات كبرى وهدم مجمل الأحياء القديمة بطريقة متسلسلة تضمن إعادة بناء استراتيجية في سقف زمني يتناسب وحركة التغيير والبناء وبحساب أبنية المؤسسات غير السكنية من مدارس ومعاهد ومصانع وأسواق وغيرها.. هذا مع وجود حكومة ذات برامج تستجيب لهذا الجهد الاستراتيجي بضخامته وقدرات اسثمارية ليست محلية بل باستقطاب دولي موجه يتناسب ومشروعات لا يتخللها فساد..

عند ذاك يمكننا الحديث عن المواطن وسكنه اللائق بعيدا عن المتاجرة به واللعب عليه… ولكن الحاسم في هذا الاتجاه هو موقف المواطن نفسه وضرورة تفعيله بانتفاضة وباختيار يتخلى عن (كل) طاقم الفساد والجريمة والعبث الطائفي، ليأتي بخيار يمكنه إحداث التغيير والاستجابة لتطلعاته…

يرجى العودة بشان الأرقام إلى تصريحات صحفية حكومية نشرت مؤخرا وإلى أرقام أوردتها الأمم المتحدة بهذا الشأن 

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *