العلاقات الكوردية العربية في إطار دولة كونفيديرالية

في مسيرة نضال الأمم والشعوب في العصر الحديث لم تنل بعض تلك الأمم سوى الوعود التي سرعان ما نقضتها الدول التي أعلنت الالتزام بها. مثلما حصل مع الاتفاقيتين الدوليتين مع الكورد بشأن دولتهم المستقلة فسيفر التي مُنحوا بها وعد الدولة ألغتها لوزان والتنكر الذي تعرض له الكورد لاحقا حتى يومنا. وفي ظروف كفاح عتيد للكورد من أجل مطالبهم العادلة، واجهت ثوراتهم أقسى أنواع القمع الدموي. واُرتُكِبت جرائم إبادة جماعية بشعة بحقهم.. لكن ثوراتهم تكللت بفرض إرادة شعب كوردستان في العراق ليحظى بثمار نضالاته وإن لم يكن ذلك إلا في إطار بعض مطالبه وليس مجموعها وجوهرها النهائي.

واكتفاء بعض من يناصر القضية الكوردية بعبارة تقول: إنَّ الكورد حصلوا على بعض حقوقهم ثم السكوت بعد ذلك، أمر لا يستقيم والحقيقة إذ أنهم لم يحصلوا على تلك الحقوق صدقة من أحد ولم تأتِهم، على هامشيتها، منحة أو هبة من طرف بل كسبوا ما كسبوه بالتأكيد مجددا على عبارتنا، ليس بعطاء من سلطة أو طرف بل بـ((تضحيات جسام قدموها على مذبح الحرية)). ولهذا فإن خيار تأسيس الدولة الكوردية وتحقيق ذياك الحلم هو الآخر ليس سوى ثمرة لتلك المسيرة المعفرة بعطر التراب الكوردستاني الممتزج بدماء الثوار وهو آتٍ لا محال.

اليوم، تثور مجددا قضية العلاقة في الإطار العراقي بين العرب والكورد. ويذكر عرب العراق أن الكورد كانوا هم من اختار الانضمام إلى الدولة العراقية في عشرينات القرن المنصرم  وهم الذين اختاروا العلاقة الفديرالية في مطلع هذا القرن، الحادي والعشرين. لكنهم جابهوا باستمرار ماكنة تضليل سياسي معادي وقفت ضد نهج التحالف والإخاء. كما جابهوا صمتا من بعض الأطراف (العربية) يوم سامهم نظام الاستبداد مهالك إبادة جماعية واستخدم ضدهم الأسلحة المحرمة.

اليوم صار على العربي، أن يدرك حجم التشويش والتضليل الذي تم إشباع ذهنه به عبر عقود من الزمن.. وعليه أن يقرأ وجود العراق على أساس كونه دولة تتركب من جناحين ووجودين ومن ثمّ لابد من احترام العدل والمساواة في هذا الوجود وتجسيده بطريقة تلبي حقوق الطرفين من دون ألاعيب سياسية تتستر على جرائم ابتزاز وخطابات المركزة والاستعلاء والشوفينية التي طالما مارستها النظم المتعاقبة ببغداد.

ومن أجل إعادة كفة الميزان إلى استوائها ومنطق العدل التام، يلزم بدءا فهم وإدراك أهمية وواجب توكيد مبدأ (إقرار حق تقرير المصير لشعب كوردستان بما في ذلك إقرار ولادة الدولة الكوردية) المثبت رسميا حقا قانونيا مشروعا في القوانين الدولية والإقليمية والمحلية. وينبغي أنْ نقرَّ واقع الحال الذي اضطر إليه الكوردستانيون عندما باتوا يمارسون فعليا سلطات كونفيديرالية تأمينا لكوردستان وشعبها من تداعيات الواقع المريض في العراق ما بعد 2003.

إن خيار شرعنة ((الكونفيديرالية)) سيبقى في المرحلة الراهنة أساساً للحل الذي يجسد حقوق الشعبين ويجمعهما في إطار ((دولة ديموقراطية ركنها البنيوي الأساس يتمثل بالكونفيديرالية)). دولة يمكنها استيعاب المطالب العادلة المشروعة للشعب الكوردي وفي ذات الوقت تنعتق من التشوهات في النظر إلى طابع العلاقة بين الشعبين وتحررهما من قيود اللامساواة، لتهيئ في الجانب الآخر لتثبيت الرؤية الأكثر رسوخاً والأنجع ليختار شعب كوردستان استكمال الاتجاه نحو دولته مستقلة الوجود أو يعمّد بخياره التحالف في إطار بعينه بما لا يتعارض والهدف النبيل السامي الأبعد لدولة تضم كل أجزاء كوردستان موحدة بعد أن تم تقسيمها منذ مائة عام تقريبا.

أما آلية التوجه إلى هذا الحل فتكمن في استفتاء مشروع يمكن إجراؤه واعتماد نتيجته في عراق جديد يتم التصويت فيه على مشروع التحول إلى دولة كونفيديرالية بطريقة دستورية وبلا عقبات كأداء يختلقها أو يفتعلها بعض المتشددين من الذين أما يغيب عنهم الواقع ومتغيراته أو يريدون طمس الحقيقة لمآرب تخدم سياسة شوفينية استبدادية موروثة من تشوهات الماضي ونظمه الشوفينية الأمر الذي لم يعد يخدم مسيرة العلاقات بين شعوب المنطقة.

إن هذا الاتجاه والحل لن يكون في خدمة طرف واحد بل سيخدم جميع أطراف القضية وسيعزز طابع التعاون والتحالف والتنسيق بما يخدم مسيرة متغيرات إيجابية منتظرة. وسيوحد الجانب العربي ويُبعد عنه خطابا وتقسيما طائفيا مرضيا أصبح يتهدده ليل نهار عبر أبواق بروباغاندا حركات التخندق الطائفي المتسيدة للمشهد اليوم.

وبالعودة إلى أسباب التشويه والتضليل في الخطاب الجاري رسميا شعبيا بشأن العلاقات بين جناحي الوطن فيمكننا تشخيص أمور سبق معالجتها لكنها ظلت متنحية ولهذا فهي بحاجة لتسليط الضوء بما يكفي لإظهارها وتغيير منهج النظر للقضية الكوردية وحلولها الجوهرية، أما تلك الأسباب فنلخصها في الآتي:

  1. استمرار وجود عناصر محمَّلة برؤى شوفينية في بعض الحركات والأحزاب السياسية العراقية..
  2. ظاهرة تفشي ثقافة مرضية موروثة ما زالت تعشعش في ذهنية بعض الحركات وهي تعود لزمن مضى وينبغي أن ينتهي بمخلفاته المرضية تلك.
  3. تأثير بعض مرجعيات أو أطراف إقليمية ودولية تدفع باتجاهات غير موضوعية تختلق العقبات بوجه علاقات عربية كوردية سليمة. أذكّر هنا بنتائج اتفاقية الجزائر والدور الإيراني في ضرب الكورد واستقرار كوردستان ولربما يتكرر الأمر وإن بشكليات وشخوص معنوية أخرى تشتغل اليوم في الميدان بمنطلقات طائفية الأسس…
  4. طابع النظام السياسي وآلياته في العراق الجديد مازال يقع في دائرة الانجذاب إلى المركزية وفلسفتها في الأداء الحكومي وفي الثقافة السائدة…
  5. هزال التوجه إلى رسم الاستراتيجيات والتكتيكات المناسبة التي تحترم الثنائية في تركيبة المجتمع والدولة وربما انعدامها حتى هذه اللحظة في السياسة العامة..
  6. اتساع ظاهرة استعداء ضد الكورد بتهجمات غير مبررة وبإطلاق الضوء الأخضر للتصريحات المعادية المثيرة والحملات الإعلامية والسياسية التشويهية لمواقف الكورد وجودا رسميا وشعبيا بما يثير ثقافة التمييز القومي والعنصري البغيضة..
  7. الاستمرار بممارسة أخطر أعمال تجري ميدانيا بمستوى وطني [أي عراقيا] وهي أفعال وممارسات تمثل حربا شبه معلنة ضد الإقليم تلك التي تشبه الحصار الاقتصادي على كوردستان عبر سياسة معاقبة الشركات العاملة في الإقليم.. هذا فضلا عن أعمال قطع الحصص المالية المرصودة رسميا للإقليم..
  8. واليوم تبرز حالات نهج شق صف الطرف الآخر أي الكورد بمحاولات إيجاد فجوة بين الحركات والقوى المتحالفة ومنعها من التعاون والتنسيق أو إيجاد شروخ فيما بينها.. وربما وصلت ألاعيب سياسية إلى حد اختلاق أحصنة طروادة أو توريط الكورد بقضايا كانوا بالعادة يمثلون في نظيراتها الوسيط والحل فيما جرت المحاولات الأخيرة لجعلهم جزءا من المشكلة إن لم يفلح المتهجمون في وضع الكورد موضع الاتهام والإدانة.

إنّ هذا لا يكتفي بمعاداة الكورد بل يعادي العرب من جهة ويخدم حال تشظي البلاد بين كانتونات يحكمها أمراء الطائفية.. لكن كوردستان الآمنة والمنظمة ببنائها المؤسسي لأرضية دولة مدنية ظلت مستقرة وركنا استقبل واستوعب حالات نزوح الهاربين من جحيم الاقتتال وإرهاب الميليشيات ومرتزقة الموت والجريمة مثلما الركن الأساس في استقرار الدولة العراقية وثباتها بوجه ما يعصف بها بسبب قوى الطائفية ورعونتها.

وبالنتيجة في قراءتنا هذه فإن حماية البلاد اليوم من مصير تراجيدي غير محسوب العواقب لن يكون إلا عبر مشروع يقر لكوردستان وجودها الكونفيديرالي بـ(استقلالية وجودها) وربما بخيار الاستمرار بدولة كونفيدرالية لا تسمح بخطاب المركزية المقيت وتغلق الباب بوجه التلاعبات التي استمرت عقودا ناهزت القرن منذ تقسيم كوردستان وإلحاقها بالدول الأربع وما مورس بحق الأمة الكوردية من ضيم وظلم، نشاهد اليوم ما ترتكبه الفاشية من جرائم قمعية طاولت انتفاضة مهاباد الجارية ضد أشكال الإذلال والاستعباد وايضا ما نشاهده من جرائم الأنظمة الأخرى بسوريا وحتى بتركيا التي مازالت تتنكر لاسم الكورد وكوردستان.

الحل الذي بات يقينا وحتمية واجبة لإنهاء كل المآسي والكوارث يكمن في مباشرة كوردستان الجنوبية \ كوردستان العراق التأسيس لوجود دولة الأمة الكوردية وربما معالجة المرحلة منطلقا أولا بكونفيديرالية في إطار عراق جديد يجري تعديل بنيته ودستوره على وفق الواقع الجديد. وهو الواقع الذي يمارس عمليا ولكنه بحاجة لإقرار وشرعنة رسميا بجملة إجراءات وشعبيا بانتصار ثقافة مختلفة عن كل ما تضخم بأمراض الأمس وتشوهاته..

إنّ العرب المتنورين لن يقبلوا لأنفسهم ممارسة خطاب الاستعلاء والشوفينية وسيتجه مسارهم نحو نصرة الخيار الكوردستاني المستحق وينبغي التوجه لمؤتمر تضامني مع هذا البديل ينعقد قريبا ليعلن موقفا شرفيا مؤازرا للكونفيدرالية ويدرس الآليات ويوصي بالإجراءات وتلكم هي مسيرة التاريخ ومتغيراته المعبرة عن آمال الشعوب الحرة.

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *