جرائم جهل جائرة؟!!

                   نشهد في يومنا الحاضر ظواهر متناقضة مختلفة, فمنها الإيجابي الذي نستشرف في ضوئه مستقبلا مشرقا نتطلَّع إليه عبر جهود المخلصين وتضحياتهم؛ ومنه النقيض السلبي الذي يقف بوجه تقدمنا نحو امتلاك ناصية الاستقرار والطمأنينة والأمان ومن ثمَّ  معالم طريق الغد الإنساني الأفضل! وإذا كنّا ندرك أنَّ طريق الحياة والحرية تحفُّهُ مصاعب جمّة ومتنوعة فإنَّنا ندركُ أيضاَ َ أنَّ من مفارقات واقعنا ما قد يتجاوز حدود المنطق العقلي عندما يستند إلى معطيات التطرّف والمغالاة في منهج  تعاطي بعض القوى  مع  الواقع  وعملها على فرض رؤاها الخاصة بالقوة عليه..

                      ولعلَّ من أبرز هذه الحالات الجديدة (القديمة) في حياتنا تلك التي تتعلق بممارسات قوى التطرّف التي تزعم مدعيةَ َ تمثيلها الخيار الإلهي على الأرض, وبالأمس فقط وصلتني رسائل تتحدث عن بعض من عناصر الموت والدمار وهم يقتحمون بأسلحتهم مدرسة آمنة وادعة تمثِّل أعمق جماليات الحياة وأكثرها شفافيةَ َ وأبعدها عن العنف وحتى الاختلاف؛ إنَّها مدرسة للذائقة البشرية لموسيقا الروح وترنيمة القلوب المؤمنة, مدرسة تحمل رسالة سلام ووئام ومحبة, وتنفح حياتنا في لحظات كربتها نسمة عَمَارِ ِ وإشراقة ابتسام وسعادة, بُعَيْدَ تعب وعناء…

                        لا يمكن لنا البحث فيما يقف وراء مَنْ يحرق ويكسِّر ويخرِّب ويهدِّد الطلبة والمدرسين بالويل والثبور؟!! لأنَّ ذلك ليس من منطق الحياة الطبيعية.. فليس من الطبيعي أنْ تُمنع موسيقا الروح وطمأنينة القلوب, وليس من الطبيعي أنْ تثير الرعب والهلع في أنفس بريئة كأطفال مدرسة الموسيقا والباليه! ولكنه لؤم المخرِّب وشؤمِهِ وعدائهِ لمنطق السلام والاستقرار. والحقيقة في الأمر أنَّ هؤلاء هم أنفسهم الذين يقفون في طريق البنات اللواتي يذهبن إلى مدارسهن ليمنعوهنَّ من التوجه إليها! وهم أنفسهم الذين يقفون في بوابات الجامعات ومعاهد العلم لكي يحاربوا الطالبات وليكرهوهنَّ على ارتداء ما يروق لتصوراتهم المريضة أو ليحتجُّوا برؤاهم عن مظهر هذه أو تلك ليمنعوها من دخول الجامعة ومواصلة الدراسة؛ وهم أنفسهم الذين يعرِّضون النساء وعوائلهنَّ للتهديد المستمر إذا ما أردْنَ التوجه إلى حيث أداء أدوارهنَّ في بناء البلاد وتقدم المجتمع, وليس غيرهم مَنْ يغتال الأساتذة بحجج لا ترقى لمنطقِ غابِ ِ في جدله. وإمعانا منهم في غيِّهم وغلواء وحشية أفعالهم لا يتورعون عن إحراق المكتبات وإتلاف كلِّ كتاب أو مطبوع جادت به قريحة عالم أو مفكر وراحوا يعتدون على موزعي الصحف المتنورة يريدون العودة بنا القهقري إلى حيث زمن لم يعُدْ له من وجود إلا في مخيلاتهم الصدئة. . زمن محاكم التفتيش وعهود الجواري والحريم المعتقلة في زنازين غرف المعيشة الرخيصة التي لم نسمع بديانة أو عُرْفِ ِ أو قانون إنساني قد أباحتْ شيئا  ممّا يفعلون غير فروضهم القسرية.

                                       إنَّ  ترك هذه الجريمة تمضي في مسارها اليوم مع مدرسة الموسيقا والباليه سيُفسِح الطريق غدا لفروض جديدة أبعد وأخطر. ومع ذلك فليس قليلا خطر إغلاق هذه المدرسة التي تمثِّل قيمة إنسانية متقدمة لا يمكن لنا في وضعنا الحضاري أنْ نتخلى عنها .. فهي واحدة من أسس جماليات حياتنا ومكمِّلاتها من جهة الشكل والأسلوب وهي عامل موضوعي يشير إلى خياراتنا النهضوية التنويرية المتفتحة من جهة المضمون والمدلول. وعليه فلابد من وقفة حاسمة قوية للضرب على أيدي هؤلاء الذين اعتقدوا أنَّ الوضع العام بتعقيداته يمكِّنهم من فرض إراداتهم وتصوراتهم الظلامية على مجتمعنا في اللحظة الراهنة.

                                        وبتوفير الحماية لهذه المؤسسة وبقطع الطريق أمام أفعال الجريمة التي تتوالى اليوم بنشاط أبعد من الأمس, وبتوفير فرص الخيارات الإنسانية المتنوعة المتعددة لكلِّ أبناء المجتمع وبطرق سلمية هادئة نوقف تدفق الخراب الذي ينمو في ظلال التهاون معه. ونحن بهذا لا نصادر لشخص ما يريده لنفسه من طقوس وشعائر ولكننا نمنع التجاوزات الخطيرة التي تشكِّل لا عامل اعتداء على الآخر فحسب بل عامل تدمير في مجتمع خرج للتو من مآزق كارثية ومن كبت وطمر للمواهب الإنسانية وللإبداع بكل ألوانه متجها نحو بناء السلام والاستقرار والتقدم وليس للوقوع في مطبات كارثية جديدة.

                                        ومن هذه الحقيقة البيِّنة ينبغي لكلِّ مكونات حركتنا السياسية وسلطتها الإدارية ممثلة في مجلس الحكم ووزارته وفي الجماهير الملتفة حولها, ينبغي لتلك القوى أنْ تكون فاعلة ناشطة في الردِّ على هذه الجرائم وفي حسم أمرها منها وعدم التهاون في معالجة هذه الآفة الخطيرة. وليس لأحدِ ِ أنْ يناشد بالتعقل والروية وبالروح الديموقراطي وبالطبطبة على أكتاف مجرمين بحق مجتمعنا العراقي ومكوناته لأنَّ الحسم مع الجريمة لا علاقة له بانتقاص الديموقراطية. ومرة أخرى نقولها لهؤلاء أنْ يتخذوا ما يشاؤون من فلسفات لأنفسهم ولكن فرضها وبخاصة بالطريقة الإجرامية التي تقوم على التهديد والوعيد أولا وعلى إباحة قتل الناس واستلاب حيواتهم أمر مختلف بالمطلق.

                                         وشعبنا وكلِّ الخيرين ينتظرون من القيادات السياسية والمرجعيات الدينية إعلان الموقف الواضح والحاسم واتخاذ الإجراءات المناسبة بحق هذه الأفعال المثيرة للنقوص والردة الحضارية وللتراجع عن نور المعرفة وآفاق جمالياته ولأنَّ جوهر ما يجري يكمن في ظلام يطمس كلَّ شئ في حياتنا ولا يحيا في مثل هذا الظلام إلا خفافيشه فلْنجد آليات العلاج بتعزيز أمن الوطن والمواطن وبضمان حرية خياراته ومنع الاعتداءات عليها. ولنوقفْ تلك الجريمة ومسلسلها الإرهابي مرةَ َ وإلى الأبد.

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *