القوة والضعف بين ألق التسامح وعتمة العنف

أنْ نبدأ رحلة التسامح لا يعني أننا نباشرها من الصفر فتلك الخصلة البهية السامية موفورة في وجودنا ولطالمنا مورست من أبناء الشعب لكن في ظروف تفشي أوبئة العنف ومن يقف وراء افتعال ذرائعها من ميليشيات تصير حاجة قوية تعبر عن رائع تفاعل الأبرياء من جرائم الاعتداء والتجاوز وكل ما اختلق ويختلق الاصطراعات العنفية الفاجعة تلك الحاجة التي ستطمِّن استعادة السلم الأهلي والامتناع على أي خرق من قوى صاحبة المصلحة في إثارة العنف فهي من الضعف ما لا يبقي عليها سوى الاختباء خلف الجريمة ودمويتها وبشاعات العنف فيها.. فلنواصل ولا أقول نبدأ مهامنا في استنطاق قيم التسامح ومبادئه وممارسته في تفاصيل يومنا كما نحن جميعا أقوياء بمنظومة قيم التسامح.. وتحايا لحركة التسام = حركة اللاعنف = حركة السلم الأهلي = حركة الأمن والأمان والاستقرار 

تاريخياً، يُعدّ التسامح وليد حركة إصلاح ديني انطلق ليُنهي صراعاً دموياً بين أتباع مذاهب لمعتقد واحد. وقد اُقتُرِح ليكون سبباً بتأسيس أرضية تبادل الاعتراف بين الأطراف المصطرعة ولفتح جسور  الاحترام والتراحم بين المختلفين.. لكن محاولة لجم الذرائع الدينية المذهبية [الطائفية] للصراع قد دفعت بالحتم إلى تناول (الاختلاف) بميادين الممارسة وتفاصيل اليوم العادي للإنسان ومنها مجالات الثقافة والسياسة ومجمل العلاقات المجتمعية.

إنَّ ظهور فلسفة (التسامح) وتناولها قضايا وجودنا بتنوعاتها، منحت الشجاعة والجرأة لإصدار قرار، في داخل الإنسان بوجوده الجمعي مثلما بوجوده الفردي أيضاً، يُنهي بذياك القرار، حال امتلاك الصواب المطلق القائم على التمثيل الحصري للمقدس ما يجعله يكفّر الآخر ويدينه ومن ثمّ يندفع لمعاقبته وخوض الحرب ضده بكل أشكالها!!

لكن التسامح دفع ببديل جديد سمح بالاختلاف وحرية الاعتقاد وحق التعبير عن الرأي بكل ميادين العيش والحياة.. إنّ ذلكم لم يأتِ سهلاً بل دفع المفكرون والفلاسفة ثمناً باهضاً مقابل نشرهم المنظومة القيمية الفلسفية والأخلاقية المجسدة لمعطياته المفهومية..

ونحن نلتقي مع سبينوزا أنّ أسوأ فعل للإنسان الفرد و\أو الجماعة ممثلة بمؤسساتها وأعلاها الدولة هو ذاك الذي يقضي بازدراء العلماء والمفكرين ومحاصرة جهودهم بعزلهم عن بيئتهم المباشرة أو نفيهم لجغرافيا تمنعهم من قدرات الفعل والتأثير حيث ينبغي وبما ينبغي من رؤى وأفكار..

ونلتقي مع روسو وعقده الاجتماعي إذ نؤكد أنَّ علمانية الدولة وفصل الدين عن الدولة إنما تنطلق من حقيقة ما كان ومازال ذريعة تتعكز عليها فكرة تمثيل اللاهوت في معاقبة المختلف المكفَّر، ما يحوّل السلطة لمجرد أدوات بأيدي رجال دين ربما يفقهون شيئا في قراءة نص ديني لكنهم يجهلون تماما ما وصلته البشرية من تعقيدات قوانين إدارة الدول والمجتمعات وحل مشكلاتها الاقتصادية المجتمعية عميقة الغور بوجودنا المعاصر.. عندها تصير السلطة ليس مؤسسة لإدارة قوانين العيش بل هراوة دموية بشعة لجلد المجتمعات وإخضاعها لمنطق (فرد) ومؤسسته اللادينية وإن تسربلت بالديني؛ متحولةً من ممارسة مهامها في ميدانها الاعتقادي الديني إلى تشوهات نظم العمل والحكم وفرض فلسفة تتسبب باختلاق الخلافات وتخندقات متاريس حروب بلا منتهى!

إنّ سلطة مثل هذا النموذج الذي يدعي كونه ديني المصدر والمنطلق تأتي على حساب الإنساني فتستلبه حتى حقه في إيمانه وتلغي حرية اعتقاده ولكنها تدري أن التناقض الفعلي القائم بين ما تفرضه كرها وقسراً وبين طابع العيش وضروراته تضعها بمنطق الضعف وهو ما يدافع عن سطوته بوساطة ممارسته العنف ومنه العنف المسلح الدموي التصفوي ليس تهديدا حسب بل وتنفيذا بقصد الابتزاز وفرض قوانينه وفلسفتها…

إن الضعف هو قرين العنف وبشاعات ارتكاباته سواء كان فرديا حيث الصوت يصير صراخاً وعبارات تعنيف وتهديد وابتزاز وهو جمعيا استغلال البلطجة وكل الأسلحة وفظاعات نتائج استخدامها..

أما التسامح فهو قرين القوة للفرد بشجاعته في رفض العنف وأشكاله وأدواته وفي كونه يتسلح بالإرادة التي لا تضعف وتتخاذل أمام التواءات اللاتسامح اي قوى الانتقام والثأر وما تجر إليه من ممارسات الضعفاء باعتماد تلك الفلسفة الظلامية التي قادت إلى بحار من دماء البشرية… والقوة للإنسان جمعيا أو للمجتمعات البشرية ومؤسساتها من دول وغيرها إنما تقوم على اعتماد فلسفة ترعى فضاء البناء والتنمية وإشادة السلام إنها فلسفة السلام القائم على التسامح بأوسع وأشمل معانيها..

لا يمكننا هنا أن نتحدث عن غرب مسيحي وشرق طاوي وبوذي وشرق أوسط مسلم فلا هذا بصف دقيق لتداخل المجتمعات وطابعها المتعدد القائم على غنى التنوع ولا هو بسبيل صائب للتعبير عن وجودنا بوحدة طابعه (الإنساني).. وعليه لا يجوز الحديث هنا عن اصطلاحات شريرة تشيطن المشار إليه وتصمه بالمطلق بالعصبية والعنصرية لأن نظام الاستعمار لم يرسم فلسفة العلاقات بين الشعوب فمثلما هو استغلال للشعوب المستعمَرَة هو استغلالي في نظم حكمت مجتمعاتها وعليه فالرائع أن نقرأ العلاقات بين الشعوب من منطلق إنساني يعبر عنها لا عن نظمها تحديدا عندما ترتكب الجريمة وتفرض منطقها وآلياتها وفلسفتها..

ونحن نرصد عنصرية بذات المنطلق تجاه الجاليات في مجتمعات مضيفة ليست مسؤولة عنها تلك المجتمعات فبضيافتها تلغي فكرة أنها مزدوجة في التعامل مع الآخر ولكنها تتطلع بتلك الضيافة المنفتحة على الآخر كيما يلتحم الآخر [هنا أبناء الجاليات] معها في مكافحة خطابات التمييز العنصري المتبقية في فئة بعينها كإفراز لنظم الاستغلال…

إن الالتحام يأتي قويا بقدر تمسكه بالتسامح فلسفة بدل منطق الانتقام ورد الفعل السلبي الثأري! بمعنى توكيد معادلة القوة = التسامح فيما الضعف = العنف ومنطقه الثأري وخطابه الانتقامي حيث يتحدد بردود فعل انفعالية فوضوية غير منضبطة بقانون وعقل علمي…

والتسامح حيث هو (الفعل) لا (رد الفعل) لا يتراجع بذريعة أنه غير ممكن أن يأتي من طرف واحد؟ إنما ليس القصد في هذا أن طرفاً يرتكب أفعلا إجرامية ويُقابل بالتسامح فحيثما بدأ يبادر الآخر بضبط الأمور واستعادة الاستقرار ليوفر فضاء التسامح المنطلق من منع بلطجة العنف ودمويتها.. لهذا علينا التفكر في حقيقة أن التسامح ليس آلية مطلقة إذ معها توجد قوانين موضوعية توفر أسباب ممارسته أولها أن تحيا المجتمعات والأفراد بسلام لا بسطوة قوة عنفية وابتزازها..

ومن هنا أكدت الأمم المتحدة في مواثيقها قيم التسامح كما ورد في نظامها كالآتي: ” نحن شعوب الأمم المتحدة آلينا على أنفسنا أن نعيش وأن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاني السلام وحسن جوار. كما تنص مواد هذا الميثاق على ضرورة (تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساس للناس جميعا والتشجيع على ذلك من دون تمييز حسب العنصر أو الجنس أو الدين”. وأردفتها باتفاقيات مناهضة كل أشكال التمييز العنصري واتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة والإعلان المتعلق بالقضاء على كل أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين والمعتقد وكانت أيضا وثيقة اليونسكو بإعلان مبادئ التسامح سواء في اختيار عام له أو يوم عالمي سنوي لنشر مفهومه وتمكين ثقافة الإنسان المعاصر منه وتعزيز ممارسته.

إن التسامح ليس فلسفة نظرية هلامية الوجود و\أو افتراضية بمنطق فعلها بل هي وجود يقوم على تلبية وثائق حقوق الإنسان المحلية والأممية أي بالتحول بمفهوم التسامح إلى وجود قانوني قيمي فعلي في وجودنا. يمعنى كون التسامح مدخل تأسيسي لتلبية حقوق الإنسان ولاحترام التعددية والتنوع بكل مستوياتها الثقافية، الفكرية والسياسية وغيرها مما يدخل في وجودنا الإنساني وتعميد الحريات والحقوق فيه بما في ذلك حرية الاعتقاد وقبول الآخر كما هو من دون أي فرصة لفروض مسبقة من أي طرف على حساب الآخر..

لقد كان التسامح تاريخيا متاحا سواء بمنطلق وجود الدين في تاريخ المجتمع البشري أم بعد قيام دويلات المدن والتجمعات البشرية واستمر بحال من الظهور والاختفاء في ضوء الممارسات الجارية بظلال النظم المختلفة.. لكنه دائما كان ينحسر بظروف العداء وتغذية منطق الانتقام والثأر واستباق الآخر إلى ما يتوهمه امرئ حقا حصريا به يجب أن يستأثر به! أو حتى تمكن لغة العداء والحقد من طرف لمجرد العبث الدموي يتلذذ به مرضياً!

لنكن في هذا اليوم، اصحاب جرأة وشجاعة لاتخاذ قرار مع أنفسنا بتبني سليم الحياة لأنها ليست مجرد امتلاك (الأشياء) وإذلال الآخر في سبيلها فتلك حال منحرفة وضعف موقف وهزال شخصية بينما القوة وإشراقتها تكمن في شجاعة تمكين الفعل لا رد الفعل.. تمكين الإيجاب من التأثير والانتشار والسير بنا إلاى عالم من الاستقرار والأمن والأمان ومن ثم منح العقل فرصته في إنتاج منطقه العلمي الأنجع والأكثر سلامة وسلاما…

وليس بغير التسامح وفروض فلسفته وقوانينه وممارستها طريقا لعيشنا.. والعراق الأكثر حاجة اليوم كي لا يخضع لممثلي صناعة العنف والجريمة ويكون العراقي مستقلا بإرادته.. بلى العراقي الفرد من مختلف الأجيال يسائل نفسه هل هو رد فعل ؟ وهل هو خاضع لمن يقوده غلى حتفه وإلى ارتكاب الجريمة؟ أم أنه قادر على أقل تقدير أن يحيا مستقلا من تأثير طرف يدفعه لتوهم أنه يحقق إرادة إلهية أو دينية أو قدسية فالقدسية لا تحتاج ولا تمر عبر العنف والدم والقدسية لا تنطق بقوانين التعنيف وبشاعاتها بل أول تعاليمها هي خلق السلم الإنساني وتكريم العقل منتجاً مما لا يمتلكه فكر قوة عنفية فهي جبانة تفرض وجودها بسلاح والأنكى بدماء الأبناء ممن تضلله أفكار ومعتقدات لا صواب لأي مفردة فيها..

فلنقرأ تجاريب البشرية مكرسة موجزة وملخصة في قوانينها وعهودها التي أقرتها الأمم المتحدة بعد تجاريب قاسية لا يصح تكرار ايّ منها

اليوم نحتفي باليوم العالمي للتسامح فماذا فعلنا لأنفسنا ونحن نرتكب جرائم تقبيح وجودها وإبادته بدنوية وفظاعة وفظاظة!!!؟

ليس لنا في التسامح سوى استعادة تمسكنا بالوطني الإنساني ومفارقة الخضنوع لممثلي نهج يعادي سلامتنا وعيشنا الحر الكريم

ألا فلننطلق من إعلان ميثاقنا الوطني القائم على احترام ما يحيوه واقعنا ووجودنا من تعددية وتنوع وحتى من اختلاف رؤى ومعتقدات

ولن ينجح ذلك ما لم نركب مركب العقل العلمي وأضواء حركة التنوير في إطار يمكّن حركة التسامح من أنسنة حيواتنا فرديا جمعيا

وتحية لكل الأحبة يحملون الحلم ليحيلوه لواقع يرسمون به وجوداً بهيا يليق بإنسانيتهم

نحتاج في ذلك كل طاقة من طاقاتنا لنعيد سلامة المسار ومادام فينا من يمسك بعقولنا ويأسرها بدجله فإن الميليشيات ومتاريس حروبها ستبقى تكرهنا على الوقوف بطوابير مذابحهم ويبقى الرافدين بإحمرار اللون من دماء الأبرياء.. وليس معقولا أن يختار امرئ المذبح وطوابيره على الحقول الزاهية والمصانع ومدارس الحياة ومختبراتها البحثية…

ألا فلنبدأ وفي كل يوم يمكننا أن نعوض بالتخلي عن أردية الخرافة والدجل وأضاليلها وأباطيلها وأن نحمل محراث الزرع ومنجل الحصاد وآلات البناء بدل آلات القتل والدمار ..

التسامح قوة لمن يختار والعنف ضعف وهزيمة يتوهم البقاء إلا أن مشاجب رصاصه أزف موعد الانتهاء فيها… وها هو عصر السلمية أكَّد الهوية الوطنية في حركة الشعب وثقافته بخلاف ادعاءات قوى العنف المرضية الهزيلة التي لا تمتلك سوى مخزن رصاص لن تستطيع قوى داعمة لهم الاستمرار بتزويدهم بمصادر الهدم والتخريب

هدير الشعب يقوم على تحقيق مبادئ التسامح ليس درسا بين جدران فصل دراسي بمدرسة بل درس حياة تتمسك بأنسنة وجودنا ..

 

*******************************************

اضغط على الصورة للانتقال إلى الموقع ومعالجاته

********************يمكنكم التسجيل للحصول على ما يُنشر أولا بأول***********************

تيسير عبدالجبار الآلوسي
https://www.facebook.com/alalousiarchive/

للوصول إلى كتابات تيسير الآلوسي في مواقع التواصل الاجتماعي
https://www.somerian-slates.com/2016/10/19/3752/

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *